منذ شهور طويلة … لم أعد ألمحه و لا كاميرته الطويلة التي كان يضعها بجانبه كمشهد تراثي ملفت للمارة وللسياح الأجانب – رغم أنها كانت غير صالحة لا تعمل – في ساحة الجامع الحسيني قرب أحد جدرانه الخارجية في مدينة عمان العاصمة .. لم أسأل عنهما : المصور والكاميرا !! .. إلا أخيراً !! وكانت المفاجأة : لقد توفي ابو محمد يحيى الملح الى رحمة الله تعالى منذ نحو سنة ونصف ! .
و رُحت أتذكر الماضي و هذا المكان الأثير على قلوب ونفوس أهالي عمان إنها الساحة الخارجية للمسجد الحسيني الكبير .
فقد كُنا قديماً نحن الفتيان الصغار .. و بسرعة وبسبب الثمن الزهيد للصورة الشخصية نتوجه إليهم من كل مناطق وأحياء عمان كي نتصور عندهم للحصول على صورة خاصة للوجه – بورتريه – .
ثم الذهاب بالصورة الى المدرسة لإخراج هوية مدرسية في كل سنة دراسية .. فقد كان أمراً ممتعاً ومفرحاً لنا نحن طلاب الصف الخامس او السادس الابتدئي في منتصف ستينات القرن الماضي .. لأن الهوية المدرسية مفيدة في تخفيض ثمن تذكرة دخول صالات و دور السينما في عمان .
ومن أجل ذلك كنا نذهب الى ساحة المسجد الحسيني الكبير في وسط البلد في عمان .. لنجد هناك حوالي عشرة مصورين في الساحة وعند مداخل سوق السكر .. كل منهم لديه آلة الكاميرا خاصته المنتصبة على ثلاثة أرجل خشبية طويلة .
ومن هؤلاء المصورين الشعبيين القدامى الذين لم تكن لديهم محلات ستوديو للتصوير .. بل يصورون الناس في الهواء الطلق وشمس النهار , أمام المارة في الساحة الخارجية للمسجد الحسيني … هناك كان المصور القديم ( يحيى الملح ابو محمد) محتفظاً بكاميرته المنتصبة بشموخ على أرجلها الطويلة رغم أنه لا يستخدمها منذ أعوام طويلة .
فهو يضع تلك الكاميرا الضخمة الخشبية القديمة كمشهد تراثي وجذاب لزوار عمان وللسياح الذين يندهشون لتلك الآلة التصويرية القديمة والتي انقرضت .
والسبب تطور فن التصوير الفوتوغرافي الملون، فالصور الحديثة والملونة جعلتها تقف على الحياد ولا تستطيع التنافس ولا الاستمرار.
وفي لقائي القديم معه كان يأسف ابو محمد على رفاقه المصورين السابقين ويترحم على أكثرهم ، فقد عاد به شريط الذاكرة الى الماضي ليقول :
إن من من أشهر وأقدم المصورين بواسطة هذه الآلة هو يعقوب إرتين سيريان، الذي تقاعد من هذه المهنة قبل اعوام بعيدة وسافر الى اميركا عند أولاده، وتوفي هناك.
وهناك كذلك الحاج عثمان ابو العدس ، ومن القدماء ابو كمال الترك ، وكل هؤلاء هم أقدم مني في هذه المهنة، أما أنا فقد بدأت التصوير هنا في ساحة المسجد في منتصف الستينيات تقريباً .
بالأبيض و الأسود
ويتابع الملح :
لقد كنا حوالي عشرة مصورين، ولكن الآن كما ترى لا نشتغل في هذه المهنة فلا رواد ولا زبائن !! ومن هو الشخص الذي يريد ان يتصور صورة بالابيض والاسود هذه الايام ؟! وقد أصبح كل شخص لديه خلوي وبه كاميرا و سلفي .. والدنيا وعلم الكاميرات تقدم الآن كثيراً .. لقد أصبحنا من صفحات التاريخ القديم .. فكل شيء يتغير ويتبدل ويتطور الى الأجدد والأحدث و الأسرع ! .
أنا الآن تحولت الى بيع المسابح وتصليحها لكسب لقمة العيش .
ويذكر لنا ابو محمد وبكل اعتزاز وشوق قبل سنوات طويلة عن دوره في عملية تصوير أغنية للمطرب العراقي المعروف سعدون جابر بعنوان (عشرون عاماً) حيث يظهر في الشريط الغنائي وهو يقوم بتصوير سعدون جابر بهذه الكاميرا القديمة التراثية، والتي لا يوجد معها فلاش إضاءة! وتلك من سلبيات تلك الكاميرا.. والتي لا تصور الاشخاص الا في الشمس الساطعة فقط.
اما عن مكونات وتاريخ هذه الكاميرا الشمسية ذات الارجل الثلاثة الطويلة فقد اوضح ابو محمد ان عدسة هذه الكاميرا يابانية، وجسمها اميركي، وهناك اضافات سورية كصندوق الخشب القوي فيها.
وعن نشأتها قال: ان اساس هذه الكاميرا كان آلة المساحة التي يستخدمها المهندسون والمساحون لمسح وتخطيط الاراضي على الطبيعة، ثم تطورت عنها فولدت آلة التصوير الشخصي، او البورتريه، اي تصوير النصف الأعلى من شكل الانسان وبالذات الوجه، وهناك منفاخ يضغط عليه المصور لفتح عدسة الكاميرا لالتقاط الصورة بسرعة.
تصوير أهالي عمان
أما عن عملية التصوير القديمة فقال: لقد كانت آلاتنا هذه في الاعوام القديمة محط عمل وشغل وانهماك دائم في تصوير أهالي عمان.. ممن يريدون صوراً لعمل الهويات وجوازات السفر وصوراً لطلاب التوجيهي والصور الخاصة كذلك، وكانت تلك الساحة – ساحة المسجد الحسيني الخارجية المتفاعلة مع حركة الناس والنشاط التجاري – ففي دخلاتها الجانبية كنت تلاحظ نشاط وعمل المصورين كأنهم خلية نحل .. نُصور و نُحمض في الآلة نفسها ونجفف الصور ونعطيها لأصحابها في نفس الوقت ، او بعد ان تجف الصور قليلاً في الشمس .
وعن أجمل وأطرف الصور قال المصور العريق يحيى الملح : كنا نحرص على ان تخرج الصورة جيدة لا خطأ فيها، لذا فقد كنا نجلس الشخص على كرسي صغير ونضع قماشة سوداء من ورائه ونطلب منه عدم الحركة مع فتح العينين جيداً وعدم الترميش.
وذات مرة طلبت من احد الزبائن ان يفتح عينيه جيداً.. فما كان منه الا ان وضع اصابعه قرب عينيه ليستخدمهما في عملية فتح عينيه والبحلقة جيدا!! فضحكت وقلت له: انزل يديك لو سمحت !!.
طريقة عمل كاميرا الماء
إنها آلة التصوير القديمة والتي تسمى «ماكينة الماء . و العمل عليها يتطلب مهارة وخبرة كبيرة وصبر من قبل المصور.
و لقد كانت «ماكينة الماء» بمثابة ابن عزيز على كل مصور قديم يحملها ويتعامل معها برفقٍ وحنان عندما يعمل عليها .
– الكاميرا القديمة هي الكاميرا الخشبية القديمة التي تلتقط الصـورة في الهواء الطلق في النهار وتحت ضوء الشمس ومن دون رتوش و تسمى صورتها بـ( الصورة الشمسية ) التي تُستخدم للمعاملات الرسمية وللدوائر الحكومية لأنها تعتبر أسرع كاميرا للصور في ذلك الوقت لتظهر الصور بالأسود والأبيض فقط .
ولقد بقيت تلك الكاميرا الفلكلورية منتصبة على أرجلها الثلاث أمام جدار قديم تغطيه وتستر عيوبه تلك القطعة السوداء من القماش ليتواجد بينهما ذلك الكرسي المهلهل البالي القديم مكاناً لجلوس الشخص المطلوب التقاط الصورة له .
بقيت الكاميرا على هذه الحالة مؤدية واجبها المطلوب وهي تنازع أيامها الأخيرة حتى الثمانينات من القرن الماضي .
ستوديو قرمز في الشارع !
ومن إيتيكيت التصوير بهذه الكاميرا القديمة فإنه عند حضور احد الأشخاص طالباً التقاط صورة شخصية له ، يأمره المصور أن يجلس على الكرسي المخصص للجلوس ليقوم بتعديل جلسته وهيئته وكذلك تعديل وضع رأسه أما برفعه أو خفضه وإغلاق أزرار ثوبه المفتوحة وتعديل عقال رأسه أو إعطائه مشطاً لتصفيف شعر رأسه إذا كان حاسر الرأس .. ثم يذهب المصور ليرى جلسة الشخص من خلال الكيس الأسود الطويل المفتوحة نهايته.. فيعود المصور ويرفع غطاء العدسة لفترة وجيزة تقدر بالعد أرقاما في نفسه من 1 إلى 5 ويغلقه بعد التقاط الصورة .
و يقوم المصور بالنظر بعين واحدة من خلال الفتحة المتحركة والموجودة أعلى الصندوق الخشبي .. ويده ممتدة داخل الكيس الطويل الأسود لتكمل بقية خطوات الصورة والعدد المطلوب.
وفي النهاية يقوم المصور بإخراج الصور بالأسود والأبيض على شكل قطعة واحدة فيقوم بالقص وفصل الواحدة عن الأخرى بواسطة المقص الخاص به ومن ثم ينشفها معرضاً إياها إلى الهواء .. ثم يسلمها لصاحبها.
والكثير من الناس في ذلك الزمن كانوا لا يسمون الصورة صورةً وإنما يســـمونها ( رسم) بقولهم ( هذا رسم فلان ) أي صورة فلان .
ومنهم من يقوم بتكبير وتلوين تلك الصور لتصبح صورة ملونة لدى بعض المصورين المختصين بذلك
الصور و الصندوق الخشبي
– وهذه الكاميرا هي عبارة عن صندوق خشبي محكم ضد الضوء تستند على ثلاثة مساند تشبه الأرجل قابلة للارتفاع والانخفاض حسب الحاجة كما قلنا .. وفي مقدمة هذا الصندوق ثقب تدخل من خلاله الأشعة الضوئية المنعكسة من ذلك الشخص المراد تصويره وهو يجلس أمام الكاميرا لتمر عبر الثقب مكونة صورة مقلوبة له على الجدار الداخلي للصندوق الذي فيه مجر خاص على شكل حاوية صغيرة للمواد الكيمياوية التي تتفاعل مع ورق التصوير لطبع الصورة .
ومن الملاحظ نرى انه غالبا ما تكون أصابع يد المصور وأظافره مصبوغة باللون البنفسجي من جراء العمل بتلك المواد الكيمياوية والذي لا يمكن إزالته بسهولة بسبب استمراره بالعمل .
الكاميرا أصلها عربي !
وفي مراجع العلم والتاريخ الانساني قرأنا :
ان كلمة كاميرا التي نتداولها حاليّاً ما هي إلّا تحريف للاسم العربي الأصلي قاميرا.. ويعود أصل الكاميرا كوصف أوّلي إلى (ابن الهيثم ) العام العربي الشهير , الّذي اهتمّ بدراسة علم البصريّات، ويعتبر الاسم الأصلي للكاميرا هو (قاميرا) أو ( القمرة ) أي (الغرفة المظلمة ) .
وبدأ استلهام فكرة الكاميرا من العصور القديمة؛ حيث إنّ الرسومات والنقوش التي كانت تنقش على الجدران بمثابة الصور كانت تستخدم كوسيلة لحفظ الصور في العصور القديمة.
قام ابن الهيثم بملاحظة سقوط الضوء على الجدار الّذي كان حاملاً لظل صورة الشجرة، ممّا جعله يفكّر في ذلك الأمر، وأدّى ذلك إلى قيامه بوضع قوانين خاصّة، وتمّ وضع كل أفكاره في الكتاب الّذي ألّفه وسمّاه المناظر، بعد ملاحظات ابن الهيثم لموضوع الصور قام العديد من العلماء بعده بتطوير أبحاثه ودراساته .
– ومع دخول التصوير الرقمي أصبح الأمر أكثر سهولة ووفر علينا الكثير من التعب والنفقات .. وصارت الألوان تظهر بشكل حقيقي ودون تشويش . على عكس آلات التصوير القديمة التي كانت تسبب أحيانا اختلاط في الألوان بسبب مواد التحميض، كما أن الصورة صارت أكثر دقة ووفرت علينا ثمن الأفلام .
وعن « ابن الهيثم « العالِم العربي الشهير والذي عاش قبل مئات السنين في العراق ، قالت عنه موسوعة «سارتون» العلمية إنه ( أول مخترع حقيقي للكاميرا.. ولم يسبقه إليها سواه) .
والكاميرا التي يستخدمها الملايين ويرددون اسمها في العالم كل يوم، اشتقت اسمها من كلمة «القمرة» العربية، لأن عالما عربيا ولد قبل 10 قرون في العراق، استخدمها كثقب في غرفة مظلمة أجرى فيها أبحاثه عن الضوء والبصر.
فقد توصل العالم العربي العراقي (الحسن بن الهيثم ) إلى اختراع الكاميرا البدائية في كتابه المناظر بين عامي ( 1015 ــ 1020 ) ميلادي .
و اليوم وبعد أن حصل التطور العلمي وتوفرت أنواع الكاميرات الحديثة وكثرت محلات التصوير (الأستودوهات ) في المدن ودخلت الإلكترونيات بقوة وأحدثت قفزة نوعية في عالم التصوير والتلوين أضف إلى ذلك وجود أجهزة الموبايل المتطورة والمختلفة النوعيات والشركات لم نعد نسمع للكاميرات القديمة وجودا ولا حتى أثرا لها يذكر واختفت عن الوجود بسرعة البرق .
لتبقى الكاميرا الخشبية الشمسية القديمة شيئا من التاريخ الماضي العتيق ، ويصعب أحيانا تذكرها وحتى على الذي يبحث في الكتابة عنها .
بقيت الكاميرات القديمة وستبقى موروثاً شعبياً ، ونوعا من أنواع التحف النادرة .
سنوات تطور الكاميرا
ففي القرن الخامس الميلادي أكتشف الصينيون الغرفة المظلمة عن طريق الصيني ( موتاي ) الذي قام بتسحيل ملاحظاته لأشعة الضوء الداخله عن طريق ثقب صغير الى غرفة مظلمة ولكن الصورة لم تكن واضحة ودقيقة…الى ان قام ابن الهيثم بتصغير قطر الدائرة من خلال تجاربة حينها قل الضوء الداخل الى الغرفة المظلمة و ادى ذلك الى توزيع الضوء بشكل أدق على مساحة اقل وانتشار اقل للضوء مما اعطى صورة اوضح للموضوع.
من الخشبية الى الرقمية
وهكذا كان التطوّر التدريجي للكاميرا من معدّات بسيطة كالخشب، وحتّى الوصول إلى أكثر الوسائل التكنولوجيّة حداثة وتطوّراً، مع العلم أنّ تطوير الكاميرا لا يبقى محصوراً في زاوية معيّنة؛ بل إنّها تتطوّر بشكل يومي بسبب الاختراعات الحديثة والطرق والأساليب التي يتمّ إجراء التعديلات والحداثة عليها، ليتمّ الحصول على جودة أفضل وأعلى للصورة. وتوجد الكاميرا بأشكال وأحجام وألوان ومميّزات مختلفة تماماً عن الأنواع الأخرى؛ إذ إنّ لكلّ شركة ما يميّزها وتختص به عن الشركات الأخرى، وهاذا كلّه بسبب التطوّر الهائل الّذي يشهده العالم.
واليوم فإن التصوير هو أقوى مصدر للتواصل وطريقة للتعبير البصري وحفظ الذكريات يعتبر التصوير اليوم فن من الفنون الجميلة ويستخدم كعمل وحرفة وهواية .