الصفحة المفقودة من تاريخ الفن التشكيلي “مرحلة المتفككون”، بحث للدكتور والفنان التشكيلي اللبناني “حسين حسين” سيتضمن عرضا لـقرابة 58 عملا لفناني هذا التيار الذين همشوا لأسباب مشبوهة واختفت معهم الحركة وتعرضت أعمالهم للانتحال والسرقة دون اعتراف بفضلهم في فتح باب الفن المعاصر وتطوير أفكاره، حيث سيتم تقديم هذا البحث في 14 ديسمبر بالجامعة الدولية ببيروت ، وسيكون مدعما بمحاضرة تسلط الضوء على هذا التيار الفني وتقديم حجج علمية وتاريخية تعطي ولو جزء أدبي من حق هؤلاء الفنانين الذين هضم حقهم وسرقت أعمالهم وأفكارهم ومزقت صفحتهم من كتب الفن تاريخا وإشارة واعترافا.
ويعتبر هذا البحث الأول من نوعه الذي سيسلط الضوء على “المتفككين” وعلى هذا الجانب الزمني من تاريخ الفن المعاصر ويأتي هذا البحث شاملا ومتكاملا، بعد بحث الكاتبة الفرنسية “كاثرين شاربان”، حيث يعتبر هذا البحث تفصيلا تاريخيا سرديا علميا وفنيا وتحقيقيا، نبش في مرحلة اعتبرها الباحث سابقة لعصرها كما أكد أنها تعدّ أولى خطوات الفن الحديث المعاصر الذي سبق تيارات الحداثة وما بعدها بسنوات مثل الدادائية والسريالية وفتح الباب لتمرد جمالي متعدد الوسائط كما كان أسلوب التعبير من خلاله مبنيا على البوهيمية الفنية اللامتناسقة والسخرية والكوميديا والنقد اللاذع بعلاماته الرمزية والمباشرة.
ومن خلال هذا البحث سلط حسين الضوء على الفترة بمختلف تفاصيلها كما كشف الأسباب العميقة التي آلت إلى تهميش هذه المرحلة الهامة من تاريخ الفن وتحطيمها بل وإحباطها رغم النجاح الكبير والمكثف الذي عرفته كل عروضها، كما أن هذه المرحلة عتمت بل وردمت واختفت وحتى المناسبات التي تحتفي بها لم تكن قائمة وأخفيت آثارها لأسباب خفية أو مشبوهة، فقد تعرضت عدة أعمال نفذها المتفككون للسرقة والانتحال والاقتباس دون الإشارة إلى أنها من تلك مرحلة ومن أعمال المتفككين وهنا تكمن أهمية البحث فهي تركز على مختلف جوانب هذه الفترة التي يعتبرها الكاتب جدا مهمة وطليعة في تاريخ الفنون.
ويعتبر الباحث والكاتب والدكتور حسين حسين من أبرز الفنانين التشكيليين فقد ساعدته دراساته الأكاديمية للفنون على البحث والغوص في هذا المجال كما أنه يقدم رؤى فنية حداثية ومميزة فهو من مواليد لبنان سنة 1970 سافر في سن مبكرة مع والديه إلى السينغال وعاد سنة 1984 إلى لبنان ظل متنقلا بين لبنان وروسيا لإكمال دراسته في مجال التقنيات الالكترونية وبعودته سنة 2003 قرر دراسة الفنون فتحصل على ديبلوم الفنون بدرجة امتياز وحصل على منحة دراسة الفنون الجميلة في فرنسا لكن ظروفه حالت دون ذلك فبقي في لبنان وأكمل بحوثه الفنية في الجامعة اللبنانية ومنها حصل على الدكتوراه بهذا البحث الذي قدر بنتيجة امتياز ولم يتوقف عند هذه الدراسة كبحث جامعي بل حمله شغفه للغوص أكثر في هذا الموضوع الهام وإصداره في كتاب يروي تفاصيل المرحلة ومقدما مقارنة بين أعمال المتفككين الأصلية والأعمال المنتحلة التي استغلها الدادائيون أو السرياليون أو فناني مرحلة ما بعد الحداثة.
عن هذه التجربة وهذا البحث العميق يحدثنا الدكتور حسين حسين:
” بدأ الفن الحديث بالانطباعيين واللوحة الكلاسيكية ثم في سنة 1910 ظهر التجريد وفي 1916 ظهرت الحركة الدادائية التي أقحمت في الفن وانبنت على إعادة التشكيل التي تتمثل في الإضافة الموظفة على اللوحة أو العمل الكامل في حد ذاته وفق فكرة جديدة ناقدة أو متمردة ثم السرياليون الذين عبروا عن الغرابة في فداحة الخيال والحلم وأضفوا على الاعمال سمات غير متوقعة موظفين مختلف الخامات اللامعقولة ثم دخل البوب آرت والتركيب والتجميع والتنصيبية والدادائية الحديثة والأحادية اللونية كل ذلك مذكور في الكتب التي تؤرخ للفن المعاصر لكن بحثي يقع على مرحلة لم تذكرها كتب الفنون التاريخية فترة جاءت قبل الدادائية بـ40 سنة تقريبا هي فترة المتفككين وهي ظاهرة بدأت بعروض لهواة يتعلمون الرسم تجمعهم فكرة السخرية والكوميديا التي قد تضحك الناس وتبعدهم عن الكآبة، وقد ابتكروا أفكارهم من كل الفضاء الذي عرضوا فيه ووظفوا كل ما فيه انقطاع الكهرباء الأسقف ومن كل الخامات التي لم تحبطهم عن التعبير فقد ابتكروا عروضا أصبحت تسمى في عصرنا الحالي التجميع والتفوقية.
للأسف لم يبق من أعمالهم أي أثر فقط أرشيف الجرائد التي كتبت عنهم أو عرضت أعمالهم وهي الأثر الوحيد تقريبا وبالتالي فإن بحثي هذا هو تسليط الضوء بعمق عن شبهة تعتيمهم وتهميشهم، وهو ما يثير عدة تساؤلات لماذا المتفككين لم يعدوا فنانين؟ وإذا كانوا قد أسسوا للمعاصرة في الفن فأين أعمالهم؟ هل يكون تهميشهم بسبب قلة الايمان بالفن المعاصر وأهميته في تلك الفترة؟
في البحث حاولت أن أنبش عن هؤلاء المتفككين كيف يفكرون كيف يجتمعون فلسفتهم وكيف يعبرون ولماذا لم يذكروا في الكتب التي تؤرخ للفن بمختلف مراحله وتياراته تساؤلات كنت أجيب عنها بربما لأنه لم يكن لهم مناسبات أو احتفاليات خاصة بهم أو ربما لأن النقاد اعتقدوا أن أعمالهم مجرد هراء وتسلية.
ولكي أثبت في بحثي أن هؤلاء المتفككون هم في الأصل فنانون وطليعة في الفن المعاصر كان لزاما علي أن أطلع على أعمالهم الفنية التي لم أجد أيا منها وهو ما اضطرني للبحث في القصاصات الصحفية والتغطيات لتلك الفترة وما كان يعرض فيها وما ورد في مرجع الكاتبة “كاثرين شاربان” عنهم وهو ما ساعدني على ترتيب الأعمال حسب السنوات التي ظهرت فيها والوصف المقترن بها مع بعض الكاتالوجات التي بقيت من عروضهم وهي ثلاثة وفيها عرض لأعمالهم مع تقديمها، ومن خلال هذا الاطلاع والتعمق اكتشفت واستنتجت أن ما قدمه فنانو المرحلة التي تلتهم حمل جانبا كبيرا من الانتحال والسرقات لأعمالهم من الدادائيين والسرياليين وهذا الاستنتاج أخذ ثلاث سنوات بحث أخرجت فيها 58 عملا للمتفككين قمت بمقارنتها مع أعمال لفترات لاحقة وهذه الأعمال أذهلتني بل وصدمتني لأني وجدت أن المتفككين قدموا الكثير من الأعمال المعاصرة التي تمثلت في التركيبية، التفوقية، أحادية اللون، الأعمال الجاهزة، وبالتالي قادني هذا البحث إلى بحث آخر في الأعمال المعاصرة المعروفة، فتساءلت هل يمكن أن أجد عملا متشابها لما قدمه المتفككون وفعلا وجدت 55 عملا لأسماء فنية كبرى منها دوشامب، مان راي، بيكابيا، وما ذهلني أن 40 من تلك الأعمال هي نسخة مطابقة للأصل من أعمال المتفككين وتحمل نفس العناوين والوصف وهذه ليست صدفة برأيي ولا يمكن لها أن تتكرر في 40 عملا وهو ما دفعني لفتح باب بحث آخر، هو ما علاقة دوشامب، بيكابيا وغيرهم بالمتفككين ووجدت في بحثي هذا إجابة تثبت أن المتفككين هم فعلا فنانون حقيقيو الإنجاز والابتكار وأن ما أخذه هؤلاء الذين يعتبرهم العالم عباقرة المرحلة المعاصرة ما هو إلا اعتراف.
غير أن أكثر ما صدمني حقيقة في البحث هو الانتحال والسرقة الذي عثرت عليه خاصة للأفكار فالعروض الأولى للسرياليين سنة 1938 هي نفسها أولى عروض المتفككين فقد استعمل المتفككون الشموع بينما استعمل السرياليون المصابيح، لا يمكن تخيل السرقات التي تعرضت لها أعمال المتفككين من أكثر الأسماء عبقرية في الفن مثل إيف كلاين الذي قدم أعمالهم كما هي.
لا يمكن أن أنكر أن هذا البحث الذي بدأ كدراسة دكتوراه قدمتها في الجامعة قادني إلى سلسلة بحوث أخرى فتحت لي كلما تقدمت خطوة في البحث تفتح لي الباب لأخرى أبعد وأعمق حتى أنجزت هذا العمل الذي سيعرض في 14 ديسمبر بجامعة بيروت الدولية مع تقديم محاضرة وعرض مشابه لعروض المتفككين واستعراض لقرابة 58 عملا ومقارنتها مع الأعمال المتشابهة أو المنتحلة”.
*”إن فنون اليوم الفنون التي نسميها المعاصرة ليست إلا تقليدا لأفكار المتفككين”
*النحات الفرنسي بول دوريد
الفنون المتفككة أو الغير متماسكة تعتبر مرحلة الطبيعيين التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر المرحلة الغنية بالاكتشافات والابتكارات الاجتماعية والصناعية فهذا العصر يعتبر أيضا نقطة تحول في مجال الفن ونقطة للتمرد على الرؤى الكلاسيكية باعتماد النقد والسخرية والكوميديا المشوهة التي غيرت النظرة للجمالية ومفاهيمها في الفن بفضل تيار فني ظهر في تلك الفترة سمي بتيار “المتفككين”.
هذه الفترة المتغيرة والناهضة ميزت الجمهورية الفرنسية الثالثة التي اتسمت بالحرية الفردية والجماعية ومنح الحق في الاجتماع والتعبير فبدت بتطوراتها الفكرية والفنية وتنوع بل وتمرد الأساليب التعبيرية في الفن التي انبثق منها تيار “البوهيميين” و”اللامبالين” و”الفوميزم” الذين انضووا في مجموعة المتفككين الذين كسروا صورة الفن ومقاييسه الحازمة التي تقصي عادة من لا يجيدون الرسم والفن في العموم حين قرر “جول ليفي” عضو سابق في نادي هيدروباث الادبي تنظيم معرض خيري لرسومات أشخاص لا يجيدون الرسم فكانت البدايات التي أسست الخطوات الأولى للتيار الفني للمتفككين وفي 19 يوليو 1882 أسست جمعية “الفنون المتفككة”، وأصبحت ترحب بكل مرتاديها من الفضوليين والهواة وكثيرا ما كان يصادف عروضهم انقطاع التيار الكهربائي لتصبح الشموع سمة معارضهم بل وعنصرا مكملا لعروضهم الفرجوية وبالتالي دخلت إضاءة الشموع في عروضهم كفكرة الخامات التي لا يتوقعها الفن، يعني فلسفة توظيف الفكرة وتسخير الخامة لتعبر جماليا وبصريا.
في 2 أكتوبر 1882، قرر “جول ليفي” تكرار العرض الفني في بيته مع إضفاء طابع الغرابة والبوهيمية واللاتماسك في التعبير حيث شارك في تلك الأمسية أكثر من 2000 شخص وكان ذلك النجاح غير متوقع مع تغطية صحفية رسخت فكرة الفنون المتفككة في المشهد الثقافي الباريسي.
في أكتوبر 1883 كانت البدايات الجميلة والتي اكتسحت فضاء الفنون حين اكتشف الباريسيون أول معرض رسمي خيري للفنون غير المتماسكة في صالون فيفيان حيث قدمت الأعمال بكل خطواتها الساذجة والفوضوية والساخرة وفق الآداء والعرض قدمت الابتسامة وقد سجل المعرض 20 ألف زائر خلال شهر واحد.
وبعد ذلك بعام، عاد المتسابقون بشغف للمشاركة من خلال جاليري فيفيان بأفكارهم الفوضوية والساخرة في رسومات ومنحوتات وتصاميم وقصائد وأداء متناقض ساخر وناقد يبعد الناس عن الكآبة ويخلق أفقا للأمل والابتسام.
فكانت العروض مكثفة الحضور الإعلامي الذي زاد المشاركين حماسة وتمردا وجنونا فوضوي الترتيب الفني الذي يعكس ذوقا متمرد الحس ساخرا منتفضا ضد كل التعتيم لتظهر فنون الأداء والتجسيد والرقص والمسرح وتتعدد وسائط التعبير في كل جوانبها فالعروض كانت تحمل شعارات المتفككين الغريبة مثل “الكآبة لا تدخل هنا” أو “لا تبصق على السقف” وغيرها من الجمل التي قد تبدو حمقاء لكنها تعكس فلسفة البوهيمين الفنية اللامتناسقة والمتفككة والمنفصلة عن عوالم القواعد وقيودها لتزرع تلك الابتسامة في التفاعل مع الفن سواء كان من يقدم أو من يتلقى وكانت تلك سنوات المجد للفترة المتفككة.
في سنة 1886 بدأ التيار يعرف النقد وخاصة نقد “ليفي” المؤسس الذي وجهت له اتهامات استخدام العروض ونجاحها لمصالحه المادية وبدأ أعضاء الجمعية ينقلبون عليه لتفشل العروض التي حاول تقديمها والمعرض السنوي الذي أعدوا له لتنتهي المرحلة في سنة 1893.
هذه المرحلة التي سجلت عدة أسماء انتموا لهذا التيار من مجالات مختلفة كتاب ومسرحيين كوميديين وصحفيين نذكر منهم هنري بيل، أنطونيو دي لا غاندارا، تولوز لوتريك، كاران دي أش، ألفونس أليس، بول بيلهود، غيوم ليفيت، تشارلز كليرفيل، بيرتول غريفيل، تشارلز كروس.