بين الحدث والتاريخ والشغف والمغامرة تنطق الصورة
لا أحد يستطيع أن يتجاوز الدور الذي تقدمه الصورة الفتوغرافية في التوثيق والتعبير والإخبار والوصف واقتناص اللحظة، فهي تخاطب العقل من خلال العين وتفجر المشاعر والأفكار من خلال استيعاب التفاعل بين الحركتين التصوير أو الرؤية والقراءة.
كما لا يمكن انكار العلاقة بين الصورة ومقاييس الجمال البصرية التي تمنحها الدور الفني الذي يسمو بقوالبها الجامدة ويستفز القارئ ليبحث داخل تلك الأطر عن أفق التعبير الجمالية في محاكاة الزمان وفي الحضور العام لكل عناصر الصورة بتقنياتها من ضوء وظلال وشخوص ومحتوى وانفعالات ومشاعر وفكرة ومفهوم وبالتالي تقع الصورة الفتوغرافية داخل تلك الزاوية الفنية التي تعمق علاقتها بالفنون الإنسانية الجميلة التي تنبعث من الواقع وتقع في الواقعية المفرطة كأسلوب تعبير تلقائي يرتقي لمرتبة التعبير الفني باختلاف أساليبه، خاصة وأن تلك الواقعية حملت أحداثا تحوّلت مع الزمن إلى تاريخ مكان وانسان لم ينفصل عن ذاتيته وهوية انتمائه وعن تلك الندوب التي رسخت في ذاكرته فالمصور نفسه أصبح عنصرا من عناصر تلك الصورة، وهذا ما ميز تجربة المصور الصحفي اللبناني بلال قبلان الذي حمل الكاميرا منذ صغره هاويا بعناد شغوف ومحترفا ومتكاملا في طاقة العشق التي جمعت بينه وبين الصورة والكاميرا والخبر الذي ألقاه في الحدث ليفجر منه صورا أخضعها لمقياس الفن بتوجهاته وفلسفته الواقعية التي تمكنت في عدة مشاهد من أن تصل إلى السريالية والواقعية المفرطة، فكلما انتشرت الصورة وتحوّلت من فضاءاتها الضيقة في مرافقة الخبر مع الجرائد والوكالات وعرضت متجاوزة زمنها الموقّت أصبحت قراءتها أكثر فنية وتنوعا في دلالتها الرمزية بصريا.
بلال قبلان مصور صحفي من بين 67 مصورا، سجلت أسماؤهم ضمن مجموعة ” بنك الصّور اللّبناني” بمتحف فرحات وهي مجموعة أرشيفيّة توثق لتاريخ لبنان السياسي بتطوراته وتداخلاته وتوتّراته المختلفة، هذه المجموعة تحوي 150 ألف صورة فوتوغرافية صحفية، تسرد تاريخ لبنان الحديث، لبنان الخمسينات، لبنان الحرب الأهلية 1975، لبنان الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت 1982، لبنان تحرير الجنوب 2000، لبنان العدوان الإسرائيلي 2006 ، كل هذه الأحداث التي تناقلتها الصحف ووكالات الأنباء وصورت من قلب الحدث بكل لحظاتها التي اقتنصت ملامح المكان والزمان والآلام والوجوه العابرة في فوضى الأزمنة بكل غبارها وبقاءها.
وبلال قبلان واحد من أبرز المصورين الذي خاضوا تلك المراحل والذين اختاروا المغامرة والغوص في أطر الصورة دون أن يكون خارجها بل اختار أن يقتحمها بمشاعره وأفكاره ومواقفه وكل أساليبه الاخراجية التي انتقت مدى الصورة الخارق في اللقطة فتمكن من إيقاف المشهد في الزمن وتغيير التّوجه العام لدور الصورة من مجرد داعم للخبر إلى خبر في حد ذاته مقروء بجدلياته ومستقل برؤيته وكذلك متذوقا بصريا فقد أرخت صوره الحرب الأهلية وانغمست في وقائعها بكل مناطق النزاع وتفاصيلها والمخيمات الفلسطينية.
وقد وصلت صور بلال قبلان في المجموعة إلى 5000 صورة تسرد مختلف الأطوار المميزة لذلك التاريخ بمراحله وتعكس كذلك التقنيات التي اعتمدها ومغامرته أثناء خوض تجربة الموت والحياة والمشي على الخط الفاصل بينهما.
ولد بلال قبلان في الجنوب اللبناني بمنطقة “ميس الجبل” في 2 مارس 1960، انطلق في العمل الصحفي والتصوير منذ سنة1977 بجريدة “السفير”، هو عضو بنقابة الصحفيين.
عناده الطفولي الكبير أمكنه من تجاوز العراقيل العائلية وتحقيق طموحه في جعل مجال التصوير الصحفي الفوتوغرافي مجاله المهني، فمنذ صغره كان مولعا بالصور والتصوير تحصل على آلة تصوير في سن الثامنة من عمره بعد أن ربحها واختارها من بين عدّة لعب وحتى عندما كسرت آلته الأولى لم يثنه ذلك عن اقتناء ثانية ولم يكتف بامتلاك آلة التصوير بل اقتحم مجال التصوير الفوتوغرافي والتصوير الصحفي لتكون مهنته المستقبلية، وحتى الدراسات العليا حملت بلال إلى اختصاص قريب من التصوير الفوتوغرافي فقد اختص في مجال الفيزياء البصرية وهو ما ساعده على تطوير معارفه وتعميقها.
عايش بلال قبلان كل فترات وتقلبات التاريخ اللبناني المعاصر فكان قريبا من الأحداث إلى درجة الاندماج كان مغامرا قناص صور إنسانا مسعفا مناضلا ثائرا وسط الدمار، شاهد الجرحى وكان منهم شاهد الموتى ونجا من الموت مرات، الموت الذي اختطف أمامه زملائه ومع ذلك لم يخف منه ولم يستثن الوجع من زمن الحدث بل اقتنصه وأرّخه وحمله معه ليكون تاريخه هو الذي يوثق جمالية الفوضى بحرفية، عاش الفكرة وتفاعل مع الأحداث كان داخل الصراع قبل أي أحد يقدم العون الإنساني وفي الوقت نفسه يبحث عن الصورة والمشهد.
كانت مشاعر بلال قبل وصوله إلى مكان الصراع ممزوجة برعب وفزع ولكن بمجرد الاندماج يتلاشى كل ذلك يقول بلال “لو انسحبت من الحدث وعدت إلى البيت ربما كنت مت فعلا، لكن لا أفضل من التقدّم وسط الحدث ومذهل أن تكون فيه عنصرا مندمجا وناقلا لا يعرف إن كان سيخرج بما نقله أو سيخرج هو نفسه حدثا مع الأحداث وضحيّة مثل باقي الضحايا.”
كان بلال يرى في آلته التي بين يديه إنسانا يشاركه خطوة بخطوة بل كان يرى فيها “أنثى” يعشقها وتعشقه يخاف عليها، نصفه الذي يكمّله والذي به يكتمل يبني من خلاله ملحمته الإنسانيّة يقف معها وجها لوجه أمام الموت وهذا المشهد النموذجي هو الذي يؤسّس للاختلاف في الصورة المألوفة.
فما يحصل للمتلقي وهو يمعن في هذه الصور يجعله يعيش للحظة بعضا من الأحداث بواقعها وحقيقتها التي نقلها المصور بآلته ورؤيته فيكاد يراها كمشهد سينمائي أو لقطة خيالية تنجو من دخان الحدث في المحيط الذي عبر عنه، فكانت الصورة منفذا وسط الدمار وحقيقة رغم الألم تحوّل المشهد إلى لوحة فنية سريالية من خلال التقنية التي تفكك الرموز بكل أبعادها التي تختزل المكان والزمان في العواطف والذاكرة بفزع قلق استطاع أن يصدم المتلقي دون أن يحبطه لأنه قدم له الرؤية ووسع دوائر الخيال كأن يتقمص الصورة بأمل تنفذ من ظلاله أنوار الغرابة وفق تسلسل أفكار لا ينتهي بتصاعد درامي للأحداث في الواقع المعاش تمتزج بالخيال بالذاكرة والتذكر المتعب الذي يصلب على العاطفة نحو ماورائيات حدودها فتتكاثف الأفكار والمؤثرات بتلقائية لم يسع إليها المصور ولم يرتبها بل اختطفها كما هي وانتشلها من ضيقها المؤطر إلى اتساعها لتوحي بأن المصور وهو يحمل آلته كانت هي من يقوده إلى مشهد آخر غير ما يتوقعه وغير ما ينوي تصويره.
فالكاميرا جزء لا يتجزأ من المشهد وعنصر فاعل متكامل مع المصوّر فعلى قدر ما تتغلغل الصورة في الإنسان و المحيط وتلقي الضوء على الحدث في كل ما ينثر بين هذا و ذاك تمكنت من أن تكون شاهدا صادما تحمل الصخب في جموده الأخرس واستنطق الذاكرة في علاماته الفنية المكثفة بالمعاني التي ضمنت البقاء لصورة التاريخ البشعة والمعبرة بكل أبعادها الجمالية في قبح المشاعر المؤلمة التي تسترد العتمة وتقطع أنفاس التذكر فتخلق الفاعلية والتأثير في القراءة التي حولتها من إطار الإخبار إلى التوثيق الفني والإنساني لتتحوّل إلى لغة تبث معاني ورموز ودلالات قصدها المصور الإنسان الذي كان وسط زحام المعارك ذلك المصور الذي لم يفكر لحظة في أن صوره ستكون يوما ما تاريخا وستحمل أبعادا تقرأ فنيا وتري تعبيراته على مقياس التبصر الجمالي واقعية أو سريالية، فهي اختزال ما شاهد وما أحسّ وما أراد أن يظهر ويبدي، فقد تمكّن أن يمدّ أصابع وحيه الحقيقيّة إلى أغشية القلوب والأفكار فكان قلبا يخبر وفنانا يشكل مشهد لوحاته وعقلا ينشر أفكارا وصورة تثبت كل هذا بشجاعة.
*الصور المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
مجموعة “بنك الصورة اللبناني”
Farhat Art Museum Collections
Lebanese Photo Bank