بقلم صالح الدغاري – السعودية
ماذا لو اكتفت الفوتوغرافية الأمريكية (دورثيا لانج) بسلسلة الصور التي التقطتها لصالح إدارة أمن المزارع الأمريكية في ثلاثينيات القرن الماضي، في فترة الكساد الكبير هناك، ولم ترجع بسيارتها بعد أن قطعت مسافة ليست قصيرة، لتعود أدراجها لأحد مخيمات المزارعين؟
ترى ما هي القوة الخفية التي قادتها إلى خيمة (فلورنس تومبسون) مع أطفالها الأربعة، مع أن المشروع الذي كُلفت به تم على نحو من المنهجية التي كانت قد رسُمت له، تلك الخيمة التي تتكشف للسماء عن قصة ضمن قائمة تطول من قصص الفقر والجوع، هناك إلتقطت لانج صورة من أصل خمس صور لتكون علامة المجاعة البارزة، ووجهاً لجوع الإنسان في سبيل جشع الإنسان، وتتصدر اغلب الصحف، ثم لتأخذ مكانها في مكتبة الكونجرس ضمن أهم مقتنيات التاريخ والفن البصري، ولنعلم بعدها قصة صورة (الأم المهاجرة).
قبل إلتقاط صورة (الأم المهاجرة) كانت لانج ربما في شعور انها لم تصل لما يعنيها بالضرورة، أو ربما أنها شعرت بالملل من حال الإقامة والتنقل في محيط اللاجدوى من الناحية الوجدانية، وقد يكون أن الأمر شَكَّل لها في قالبه العام والسطحي شكلاً من أشكال الخطأ، فقررت أن تصحح المسار وتفتح نافذة الحس الإنساني، لقد كانت حينها في مرتبة عالية من مراتب الوعي وهذا جيد جدا، ولكن بعد الإستحواذ على مايُرضي الذات لدى “لانج” ماذاعن الخصوصية وعن أخلاقيات تصوير الناس؟ ماذا عن الشعور الكبير بالخجل لدى “الأم المهاجرة” وهي تظهر كنموذج اليأس والفقر والجوع، ومشهد يختزل كل مرحلة الكساد العظيم، فلماذا هي بالذات ولماذا هي دون غيرها؟ لقد كان هناك العديد من المصورين الذين تم إسناد مهمة حصر وتوثيق مدى خسائر ذلك الكساد، وربما كانت صورة كوخ مهجور داخل مزرعة جافة من حوله بعض آلات الزراعة التالفة، والأولاد الذين يجلسون بمعية ذويهم كفيل بإثبات الحالة بشكل رسمي.
لقد استطاعت لانج الخروج من ذلك التصور الجاهز والقالب العام، والدخول إلى العالم بذاته، وببراعة مطلقة خرجت من مأزق تعطل الحواس، لتتسع بعدها عين داخل العين وتعطي للتجربة حيزاً وبُعداً آخر.
ورجوعاً لـ (فلورنس) التي مضت مع ابنائها في رحلة شاقة بسيارتها القديمة للبحث عن فرصة للعمل في ظل الكساد الكبير الذي حل في كل أنحاء البلاد، فتتعطل السيارة مقابل مخيم للمزارعين، وتبيع السيارة قطعة تلو الأخرى في سبيل الانعتاق من شبح الموت جوعا، والذي كاد أن يحل بها وبأطفالها، ولينتهي بها المطاف لتلك الخيمة المهترئة بطرف المخيم.
لقد توافقت لانج و فلورنس بشكل فلسفَ العلاقة بين الصورة كحقيقة تؤخذ في الحسبان، والدور الإنساني للمصور الفوتوغرافي بعيداً عن كل مصالح نفعية، واختصرت الكثير للتعريف بجانب من جوانب الفقر وقلق الأم في ادراكها الكامل لمفهوم المجاعة والخطر على أطفالها، وكيف تكون مصوراً انساناً تخرج من كاتالوج النمط، وللقصة أكثر من رواية فهناك من يقول أن الأمر كان بمحض الصدفة فكانت “فلورنس” تحاول اصلاح السيارة والمغادرة ولكن لانج التي التقت بها بعد تعطل سيارتها مباشرة أقنعتها بضرورة ان تنقل معاناة الناس عبرها بشرط أن لايتم ذكر اسم فلورنس ) مطلقاً، وبالفعل لم يتم التعرف على ( الأم المهاجرة) إلا بوقت متأخر وتم سرد الحكاية للناس فيما بعد، وهناك كثير من القصص الجانبية للقصة بالإمكان البحث لها عبر شبكة الانترنت لمن أراد.
إن المسألة لدي ليست ( فلورنس) فهناك الكثير منها في كل زمان ومكان، والكثير غاب عن العدسات، كما أن ( لانج) لم تكن الوحيدة التي اختارت توثيق تلك الأحداث فهناك العشرات من المصورين الذين انتشروا للتوثيق والتصوير وكتابة الأخبار، ومن يعلم ربما في قادم الأيام تأتي صورة لتلك الحقبة لم تُعرض يكن لها الذي كان لوقع صورة ( الأم المهاجرة) .
ان ما اردت ان اسجله هنا هو عن الحياة البائسة وتفاصيلها كعادة يومية يمارسها كثير الناس، وكيف يتطور الجزء الصغير من الكل الكبير، ليخرج الحدث من دائرته الصغيرة كقضية مُستقلة تماماً، وليخرج الأمر بعيداً جدا ناحية التفكير في لعبة المصير فيما بعد إلتقاط الصورة، وتظهر العواطف بشكل فائض حتى عن الوجود.
عندما سألت (فلورنس) (لانج) بمرارة التعب والاستسلام هل صورتي هذه سَتُنشر؟ كانت مشاعرها يأس كامل من عالم يدس رأسه في الرمل، لم تكن فلورنس تنظر لعدسة لانج بل كانت تنظر هي للعالم وتعريه تماما من مثاليته الزائفة وتلفت نظره إلى زاوية معزولة هي من أكثر العزلات ظلاماً ووحشة، وفي الوقت نفسه كان الشعور لدى لانج أن المشهد لازال صامتاً وكثير الضبابية ولم يسكن داخلها برغم كل من صادفتهم والتقطت لهم الصور، واختارت ان تدخل في إختبار طموح حتى وإن كان قبل أوانه، لقد كان الشعور في داخلهما محاولة لتجاوز المستحيل واختراق الزمن للتعجيل بإنهاء كل تلك المعاناة، كانت تجربة على قدر من الحرج والحياء، ولكن كانت محاولة جادة جداً لتنقية الهواء الفاسد.
بمناسبة ذلك..
أنقذت الصورة (فلورنس تومبسون) مرة واحدة فقط!
عندما اصبحت متقدمة في السن وعانت من السرطان وقام ابنائها بوضع إعلان يضم صورها في المخيم وصورها الحالية لإنقاذ (الأم المهاجرة) وجمع المبلغ اللازم لعلاجها