الأفلام الوثائقية للأختين ليلى ونادية حطيط شغف الرؤية ومهارة فنية متكاملة توثق الذاكرة في صور التاريخ بشرى بن فاطمة للفيلم التوثيقي دور مهم وبارز في التأريخ، لكن تناوله برؤية فنية وبموقف له أبعاده البصرية وتعبيراته الدلالية يعكس نضجا عميقا في تقبل الحدث وتخزينه في الذاكرة ومعالجة صوره إنسانيا بتجاوز حرفي للمفهوم الاخباري أو النقل المباشر، هذا المسار التعبيري الموثق فنيا تبنته الأختان ليلى وناديا حطيط حيث أنجزتا أعمالا فنية توثيقية كان لها حضورها ونصيبها من الجوائز العالمية. تمكنت الأختان حطيط من خلق لغة بصرية استطاعت النفاذ نحو الأحداث من خلال الذاكرة ومن بسط الموقف المعايش للواقع اليومي بعيدا عن الانطباع السطحي أو الانفعال الغوغائي مميزة توجه كل واحدة منهما في إخراج الصورة ومعالجة الفكرة لإنجاز عمل متكامل. نادية وليلى حطيط من أب لبناني جنوبي ومن أم اسبانية، عاشتا بين لبنان واسبانيا فتكونت لديهما رؤية مزدوجة بلورت فهمهما للواقع من زاويتين مختلفتي الأيديولوجيا والعقلية والاستيعاب والتوازن في الفهم. ناديا صانعة أفلام دائمة البحث والابتكار، أسلوبها حديث يتجاوز التقنيات الكلاسيكية في الصناعة والتركيب والمحتوى فما تنجزه ليس توثيقا اعتياديا، بقدر ما هو إنارة فكرية لموقف وصورة وحدث، فهي تخلق داخل الشريط حركية وإيماءات ذات كوريغرافيا غير مألوفة لتثبت أفكارها التي تتحدث عن الهوية والآخر والتواصل والتشبث بمبدأ الأرض في بحث عن الاستقرار داخل العلامات الضوئية أو من خلال الرموز الصوتية، نادية متحصلة على شهادة معمقة في اختصاص السمعي البصري من جامعة مدريد ثم من جامعة طوكيو، تبحث عن الاستثناء بالتعاون مع أختها ليلى التي هي أيضا صانعة أفلام مختصة في فن الفيديو والصورة تحصلت على شهادة في السينما من جامعة سان فرانسيسكو وهي مراسلة من إسبانيا لقناة الجزيرة للأطفال، تقول ليلى حطيط عن أفلامها “منجزي الفني هو حياتي، والحلم الذي من خلاله أعيد ترتيب الواقع السياسي من وجع المعايشة إلى منفذ القراءة البصرية الفنية”. تسعى نادية وليلى للتعريف بسينما المهاجرين في الغرب ذات الرؤية المزدوجة الانتماء للشرق وللغرب وفي هذا الانتماء عدّة منافذ وتساؤلات. يعبّر التصور الفني عندهما عن صور تتراكم في فوضى تبحث عن الترتيب الفني لتسلط الضوء على هموم عالقة في الذاكرة بكثافة خلفتها سنوات اللاتفاهم التي خلقت هدوء صاخبا بين حالة اللاحرب واللاسلم، وهذه الحالة عززت داخلهما الشعور بالانتماء وعبثت وجدانيا بمشاعر الحنين وثنائية الهوية الممزوجة بروح شرقية غربية بثت وعيا ناضج التصور وعقلانية ميزت تجربتهما الفنية الواقعية الملتزمة. تثير الأفلام التي أنجزتها الأختان حطيط الأحداث التي ميّزت التاريخ اللبناني ومنطقة الشرق الأوسط وأثرت على المجتمع نفسيا وعلائقيا كتلك المتمثلة في اجتياح بيروت والحرب الأهلية اللبنانية واحتلال الجنوب، اتسمت أعمالهما بالموضوعية والالتزام بالواقع مع إضفاء رمزية اخترقت حواجز الزمان والمكان وهو ما نلاحظه في عمل ” ليس مؤلما إن عادت بيروت إليكم” سنة 2005، فيلم “فراغ مفقود” سنة 2006، فيلم وثائقي عن الجنوب اللبناني “عاد الجنوب” إنتاج سنة 2008 . تعاملت الأختان لإنتاج أعمالهما مع عدّة جهات عالمية إيطالية إسبانية ولبنانية “مجموعة متحف فرحات الفن من أجل الانسانية”، لإنتاج أفلام قصيرة سردت فنيا تجارب تشكيلية مثل تجربة الفنان في المنفى التي ألقت الضوء على الفنان العراقي ” محمد السعدون” و أيضا شريط مصور بعنوان “أقلام عسقلان” عن الرسم بالسجون وكذلك فيلم قصير بعنوان ” بجانب” الذي ركز على صورة المجتمع اللبناني بعد الحرب الأهلية رمزية بصرية مزجت الواقعي الاجتماعي الاقتصادي الثقافي والتراكمات النفسية التي ميزت العلاقة بين الأفراد في المجتمع اللبناني حيث حشرت نماذج من تلك الفئات داخل مغطس مائي كتعبير عن حجم الضيق وعن التناقض المزعج بين الثبات على الوضعية والرغبة في الانفلات بين التشبث والاختناق، التعايش والاتفاق وبين الاستقرار والاستمرار . تخلق الأختان ليلى ونادية حطيط تكاملا فنيا يجسد تناولا حديثا لفكرة الصورة من خلال فسح المجال للذاكرة كي تنفتح على فضاءات نفسية أوسع وأكبر في محامل الخيال لتخرج الصورة موقعة بانطباع وموقف والتزام انساني انسيابي يحاكي العمق الذاتي يرتب الواقع ويروضه فنيا وفق أسلوب إخراجي جديد للفيلم التوثيقي عبارة عن الفيديو المركب أو ما يسمى بـالإنشاءات التنصيبية. مثلما فعلتا مع فيلم “أقلام عسقلان” الذي كان مقترحا جماليا استطاع النفاذ فنيا داخل عتمة التاريخ المحيط بالفكرة فالمعاينة حملت صورة ذات إيحاءات وإيماءات بصرية حيوية لسجناء عسقلان الذين اعتقلوا سنة 1975 وحكم عليهم بالمؤبد بتهمة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ورغم قتامة فكرة الأسر إلا أن ليلى حطيط مخرجة الفيلم اتكأت على منافذ إبداعية زاوجت بين النسق الروائي والتوثيقي ورسمت سينيماتوغرافيا ملامح القصة التي انتقلت بفكرة النضال من الممارسة الفدائية المميزة للتمرد والحرية إلى الصورة المرسومة التي تحمل الموقف السياسي المناهض للاحتلال وإعادة صياغة فكرة الحياة التي جعلت من المعتقلين فنانين تشكيليين تحوّلوا بعد التحرر الذي تم بعد عملية تبادل أسرى إلى أسماء تشكيلية معروفة مثل محمد الركوعي ، عماد عوكل، محمود عفانة، على النجار، محمد أبو كرش وزهدي العدوي الذي كان شخصية الفيلم المحورية، تقول ليلى حطيط عن هذا العمل “هذا الفيلم ليس تقريراً، ولا فيلماً تلفزيونياً إنه فيلم فني سياسي، يتعامل مع فنان وناشط سياسي، فالفن وسيلة تعبير ونضال ومنفذ للإنسانية وتجربة سجناء عسقلان أثبت نجاعة هذا التعبير بل وقوته في التأثير فالمدهش أن السجناء احتفظوا بأمل الحياة حتى آخر لحظة.” نقل الفيلم واقعيا كيف عاش المعتقلون رحلة الصراع مع السجان منذ اللحظة التي تبدأ برسم العمل وتنفيذه حتى تهريبه وعرضه خارج السجن، فالرؤية داخل الفيلم حملت شهادة واقعية وتجسيدا تمثيليا واشتغالا على التصميم الفني للفيديو الذي شكل الرسوم التي تخرج من صور تختزنها ذاكرة المعتقل ويشتاق ملامستها كالطبيعة والأهل، مع الاحساس النفسي تجاه الورق ووجوه المخدات كمساحات شاسعة للتعبير الطليق والحر فكانت الرسومات ذات كثافة تعبيرية وزخم تصويري يعكس شغف المعتقل في الرسم أكثر للشعور بالحرية أكثر، وهو ما ميز الصورة ببانوراما سريالية حولت الواقع إلى منفذ وأعلت الصورة التي خضعت لمعالجة نفسية يعيشها المتلقي بحواسه التي تتعاطف مع التجربة القاسية فينبض قلبه خوفا وتوقا واشتياقا للحرية معايشة كاملة مع تناسق يرتب الفوضى الوجدانية في التفاعل. أما فيلم “ليلة بيني وبين علي” فقد قامتا بإعادة تركيب ما حدث ليلة الهجوم على البنك الأميركي في بيروت سنة1973، قبل اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. وفي فيلم” جزء من بيروت” قدّمت الأختان حطيط تصورا جديدا لفن الفيديو والتوثيق يختلف عن النظرة الكلاسيكية للفيلم القصير، لأن ما أنجز كان بثا لرؤى تنبع من أوجاع صامتة يصرخ بها المكان والتاريخ، فثنائية التلاقي الشرقي والغربي في روحيهما وجذورهما اخترقت الحواجز، ما أتاح لهما فرصة الاطلاع على تصورات غير مكتشفة وفهم حرّك خفايا الصورة وأشبع معانيها الوجودية عن الحرية والاستقلالية والثبات والاستقرار ما خلق رؤية إنسانية شمولية حرّكت الفضول لمعرفة كوامن الجمود الزمني لتثبته في فكرة معينة، تحدثت عن بيروت وألقت الضوء على واقعها الذي انعكس على المجتمع لتنتهي الفكرة داخل المكان الأوسع لبنان، البلد الصغير مساحة العميق تاريخا والملوّن أفكارا وعقائد وطوائف.