تجربة الفنان التشكيلي دلشاد كويستاني
محاورات الروح في عمق اللون وانعتاق الفكرة نحو منافذ الضوء والسلام
لا تحرك عاطفتي أيها المبدع حرّك الروح والخيال وانغمس في البدايات وأول الخلق والتكوين في انبعاثات الذات في الوجود، لتشرق من هذا الخراب وتزهر كأشجار التأمل *”لا تجزع من جرحك وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك”، اهدم هذا الواقع قبل أن يهدمك وانطلق حلّق أبعد في اللون في الروح في الذات في الوعي المستبد، في اللاوعي المتوحش في تناقضات الجسد المفتّت والفكرة، حاور الموت وامش في جنازته نحو الأبدية تلك هي الدلالة التي تروض العلامة البصرية في كل حركة ورقصة تعانق السماء وتتلاحم مع التراب في طبيعة الروح، وروح اللون لتطمئن بسعادة، هكذا تحاوره لوحاته بدهشة مكثفة لتنبعث إثارة توحي برحلة عميقة نحو الروح، هو الفنان التشكيلي المتنوع في حضوره الإنساني المتجادل مع أبجدية الجغرافيا والتراب ليعبُر إلى الوجود بسلام بسكينة البساطة هو العراقي الكردي الفرنسي ابن التراب طفل السماء رفيق الطبيعة الانسان “دلشاد كويستاني”.
عنه يقول الناقد والفنان التشكيلي الجزائري محمد بوكرش “تجربته تمتصك لعوالمه بين سقوط ممتع مريح وشدّ تُشد له الأنفاس وتنقبض لتستريح وتتحرر باللون الموالي بمجاز ناعم سلسل يتضح من خلاله درجات الرفق بك وأنت تعرج وتنحدر أو تتوغل، تنحدر وتعرج بالقوة والسرعة التي رآها الفنان ملائمة لتفجير أحاسيسك المكونة لأبجديات وجمل ومفاهيم حسية يراد لك الوقوف عندها، فضاءات قد تكون مريحة ممتعة تهدأ لها وتتأرجح طربا مثل ما تكون مثيرة للفزع والقلق بحذر شديد يكون خلاص الحرير من الأشواك المتشابكة، نعومة ترافقها وخزات ألم موجع ترفضها الحياة اليومية وعلاقاتها بالذاكرة والموروث”.
مساره التشكيلي محفوف بالصبر والتجليات الإنسانية التي توقد جذوة التمرد على الفراغ وسطحيته وتحطّم صنم الصمت الممرغ في الذاكرة الرملية الموقتة لاندلاع الفكرة واشتعالها مع تجليات الروح.
ولد دلشاد كويستاني في كركوك كردستان العراق سنة 1957 وكان منذ صغره مولعا بالفن بالغناء بالشعر والرسم والسينما وتناغم الفنون التي تعبر عن دهشة الفكرة التي لا تنفصل فيما بينها، فكثيرا ما جمّع ألوانه مع تعبير الفيديو إذ كان البطل الرئيسي لأكثر من فيلم قصير وطويل، حملته ازدواجية الانتماء إلى التعبير أكثر عن اندماجه في الذات الإنسانية في حضوره، فالاختلاف لم يزده إلا تميزا في الثقافة والموروث الذي نما بالسفر الذي بدوره لم يكن مجرد تنقل في الأمكنة بل كان اندماجا في الانسان الذي حمل العراق بتاريخه وأساطيره وحضارته وشجنه وفوضاه وصخبه السياسي وانغمس به في اليونان وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا واسبانيا ولندن واليابان وكوريا الجنوبية وتونس والمغرب، ليحيك في عمقه فلسفة حياة وإنسان تواق للجمال في منافذ ابتسامة معتّقة بعبق الحياة، فبين الكنفاس والألوان الزيتية ورقصات السكين الحادة وتجليات الفرشاة تشرق المحبة الكامنة في عقله وحواسه ووجدانه وأصابعه فينفعل ويسترخي في ضيق المساحات واتساع الأفق، ليختبر قوته على التحمل ويثبت جدارة الحياة.
لا يمكن للون أن يكون مجرد حضور جامد في أعماله فهو الإيقاع الذي يحتضن سيمفونية اللوحة والانسجام الذي يحتوي التناقضات، مزجه يحتاج طاقة محبة تخترق التعب، الذاكرة والمزاج فتتفاعل مع مجازات المشهد بصورة تجريدية أبعد في الخيال نحو الروح تتماهى مع الإيجابية لتكسر حواجز الوعي الجامدة وتفتح المنافذ نحو وجود حسي كاسر لقواعد التقاليد المكبّلة وروتين التلقي المسبق الذي يعدم الحب والمحبة ويخلق التفرقة وبالتالي الإحساس بالجمال بالمتعة بالحياة، تلك الحياة التي حملت كويستاني إلى عوالمه البصرية الفنية التي ألبسته الحرفية الفنية وابتكارات الجمال رغم أنه لم يتلقنها في أكاديميات الفنون بل تمرس في لذات انعتاقه من قواعد الجمود التي تكبل الحواس فقد حمل كل إرثه ومعارفه وانغماسه في فلسفة البساطة الإنسانية العميقة وروحانياتها وصوفيتها الملونة ليروض الضوء على إيقاع روحه في تأملاته الزمانية التي تمزج الحنين الماضي رغم صوره المؤلمة مع إشراقات القادم، ليحمل أكثر من نكهة ويتحمل أكثر من منفذ للابتسام للحكمة للتماهي مع الفرح، فمن الألوان الحارة عكس حميمية المشاعر وتدفقه نحو الحياة أخضرا كعشب محترق بين أصفر وبرتقالي يلامس ذاكرة الطفولة يتلاعب بالحواس في رقة البساطة والفرح في تماس مع الأزرق نحو سماوات النور، كلها توليفات حملها بطاقة الضوء ليرتل طلاسم الوجود الغامضة.
يسافر بنا كويستاني إلى عالمه التجريدي المليء بفيض الألوان وبحور الضوء مع تناغماته بين الصحو والمحو في رؤية حميمة ومحتدمة، تتفجر براكين لوحاته مواسم عطاء يندفع نحو السمو يتناحت الفكرة ويتحافرها في الوجود والتكوين يعالجها من وجعها وتأثير الجمود المادي وعتمة الصدام بموسيقى تراقص تحول الفصول في المعنى بين الغابات والصحاري يساكن حمى الكيان والكينونة والوجود، يتخيل ويتصور أحواله وحالاته ومقامته النفسية التي لا تعزله عن رغباته اللونية والضوئية حيث يحمل القبس في جمر اللون وإثاراته الضوئية العارمة والغامرة بسحرها الذي يكسر شموسه بمطر يبعث أقواس قزح في حدائقه التي ترتب أعياد الأرض وتناقضاتها القاسية بين الخصوبة والرواء بين القحط والرماد بين الشحوب والنضارة، وهو ما يخلق جيشان الروح وارتعاشات الجسد المضطرم مع تراكم اللون الغارق في الذاكرة في الوعي واللاوعي ما يحثه على أن يفلت مكبوتاته في مساراته الحرة ويتنفسها في صبابة اللون في مقاييسه الخفيفة والثقيلة ومعادلات الألوان بطبقاتها المكثفة وملمسها، ليستبصرها في فكرته مواسم مكسوة بتلاوين الأنوثة والذكورة في هندسة التناقضات التي تعيد للخلق الحياة.
يبحث دلشاد عن الرموز الخفية في الكون والتكوين في الخلق وسر السعادة بقدسياته المبهمة، التي تصنع سر الحياة والبداية فهو يحاول خلق الموازنات الطبيعية بين الجسد والروح بين الألف في مطلع التكوين وبين التجسد الخلقي الروحاني في التعبيرات، فهو لا يتجادل مع الألوان كعناصر مجردة يبالغ في تجريدها بل يشكل فيها الفكرة بفلسفة طيعة مرنة تواجه العالم والانسان لتصقل الذات والوجود والطبيعة التي تتراكم فيها أسطورية البعث من زخم ذاكرة مثقوبة بأوجاع المكان وأساطير مرممة لطاقة الخلود ما يمنح ألوانه أدوارها من خلال الكثافة بين الترابي والسماوي دون تصنّع يستجمعها لتتكاثف في الطبيعة في شغفه يمزج الألوان الباردة والحارة في تداخلاتها في الظلال في النور في المساحة فبين كل تلطيخ تتراقص الروح نحو منافذ الخلاص وتتفجر طاقاته المتفاعلة بينه وبين محيطه فيرصد أفكاره وجنوحه نحو الهدوء والسلام الذي يقدمه للمتلقي الذي يشاركه رحلة اللون والبحث عن السلام وكسب طاقة النور والضوء والتحرر من كل قيود الواقع التي تخلق الوهن في الجسد والفكر والخيال فبين عقد السياسي وترسبات الاجتماعي والخرافة، يتجاوز الكثير من القيود ببساطة في كل الانبعاثات الدافقة بالنور والضياء، يحمل ذاته إلى السعادة الروحانية في تصالح مع الخلق.
*لا تجزع من جرحك وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟
جلال الدين الرومي