في أي محاولة لتقديم قراءة في تجربة التشكيلي والكاريكاتيري اليمني الراحل عبدالله المجاهد (1950) لا يمكن تجاوز جزئية مهمة نرى أنها تُمثل عنوانا بارزا من عناوين هذه التجربة، والمتمثلة في مسحة الألم الإنساني، التي تكاد لا تختفي في أي عمل من أعماله التشكيلية منها والكاريكاتيرية، ويمكن قراءة هذه المسحة، التي تظهر بمستويات متفاوتة ورؤى مختلفة، في علاقة هذا الفنان الخاصة بالخطوط والألوان والأشكال، وقبل ذلك في الأفكار والموضوعات، التي كان فيها قريبا جدا من الناس بمعاناتهم اليومية وأوجاعهم الحياتية بما فيها من تضحيات، بل إن ذلك الاشتغال الفني على (الألم) لم يكن مُجردا لذات الوجع، وإنما تعبير عن جمال أراد الفنان قراءته بهذه الأبجدية، التي أراد بها منح العمل الفني توازنه الإنساني.
ولعل ذلك الألم الجميل، الذي تتنفسه أعمال هذا الفنان، يمثل ترجمة لرؤيته وعلاقته بالحياة، التي كانت – على ما يبدو- قاسية معه؛ وعلى الرغم من ذلك بقي هذا الفنان مُتمسكا بقيمها الجميلة، التي ظل مُزدانا بها حتى آخر أيام حياته، لدرجة لم ينكسر حتى وهو يعيش وضعا صحيا حرجا عجز معه، خلال رحلته العلاجية للقاهرة قبيل وفاته، عن توفير ما يساعده على مواصلة العلاج، بعد أن تنصلت سلطات الحرب في بلاده عن مسؤولياتها، وتجاهلت الكثير من الخطابات والمناشدات لإنقاذ حياة هذا الفنان.
وبعد أن أعياه الانتظار معوزا في حجرة العناية الفائقة في تلك المدينة، عاد إلى صنعاء بمرضه وألمه وفقره؛ ليبقى في منزله منتظرا موته، الذي باغته صباح أول أيام عيد الأضحى؛ فرحل في ذلك اليوم فيما الناس، في بلاده التي كانت سعيدة يوما ما، يحاولون بمناسبة العيد التجمُل بما هو متاح من الجميل تجاوزا لآلام الحرب، التي نالت من أحلامهم وتحاصر يومياتهم بمزيد من الخسارات، فكانت جنازة عبدالله المجاهد (بمَن حضر) كأنها تشييع مؤلم لجمال ألم هذا الفنان.
خلّف المجاهد تجربة فنية لها أكثر من مسار: فقبل ذيوع شهرته فنانا تشكيليا ورساما كاريكاتيريا؛ كان قد برز، منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، مُخرجا صحافيا وهو التخصص الذي نال فيه دبلوما تأهيليا في العاصمة السورية دمشق عام 1968، وعقب عودته عَمل مُخرجا لصُحف ومجلات يمنية: صَحيفة «الجمهورية» 1969، مجلة «اليمن الجديد» 1982، مجلة «المجالس المحلية» 1984، صحيفة «الشورى» منذ 1990.
خلال تلك البدايات في سبعينيات القرن الماضي، التحق عبدالله بجامعة دمشق، التي تخرّج فيها عام 1982 في الفنون الجميلة. وفي دمشق نظّم معرضيه التشكيليين الشخصيين، عامي 1980 و1982، ووفقا لما تيسر لكاتب السطور الاطلاع عليه من سيرته الذاتية، فإن الفنان لم ينظم سواهما من المعارض الشخصية؛ فيما اقتصر ظهوره التشكيلي في الفترات اللاحقة من خلال مشاركاته في معارض جماعية. وعلى ما يبدو فإن إقلاله من الأعمال التشكيلية كان يعود إلى انشغاله كثيرا بعمله في الإخراج الصحافي والكاريكاتير؛ ولعله كان يعتمد بواسطتهما على تلبية متطلبات حياة عائلته المعيشية، لاسيما وهو لم يلتحق بوظيفة حكومية حتى وفاته؛ بل إن تلك الوظيفة التي أُعلن عنها في الفترة الأخيرة في وزارة الثقافة لم تكن – حسب صديقه الشاعر والروائي علي المُقري- «سوى مجرد كلام».
عقب عودته من دمشق في الثمانينيات، أسهم في تأسيس المتحف الحربي في صنعاء عام 1984، وكذلك في تأسيس نقابة التشكيليين اليمنيين، وشغل لاحقا مدير تحرير صحيفة «تشكيل»، وغيرها من المهام ضمن النقابة، وخلال ذلك ظلت علاقته بالتشكيل متواصلة ومتقطعة مقابل تكريس حضوره رساما كاريكاتيريا إلى جانب عمله مُخرجا صحافيا. وفي الكاريكاتير تجلت تجربته بشكل واضح منذ عقد تسعينيات القرن الماضي، وتحديدا خلال عمله في صحيفتي «الثوري» و«الشورى» الأسبوعيتين.
لا يمكن الحديث عن الكاريكاتير السياسي في اليمن بدون التوقف أمام تجربة هذا الفنان التي أطلّ من خلالها بتوقيع (أبو سهيل) الذي اشتهر به في هذا المجال. تميّزت أعماله بجرأتها النقدية وسخريتها اللاذعة، وقبل ذلك بنفاذ رؤيتها في أعماق المعاناة الاجتماعية بعناوينها السياسية؛ ليلتقط منها مشهدا ساخرا يختزل من خلاله بُعدا من أبعاد المشكلة اليمنية المعاصرة، في كل تلك الأعمال يمكن القول إن هذا الفنان مثّل مدرسة كاريكاتيرية عكست علاقته الخاصة بهموم الناس (البلد) من خلال وعي مختلف لم يتجاوز مسألة مهمة؛ وهي أنه جزء من ذلك الألم الذي يعيشه الناس البسطاء المثقلين بهموم يوميات معيشتهم؛ أولئك الذين كان يشعر بأنه جزء منهم؛ وبالفعل كان هو جزءا من أولئك الناس ومن ذلك الألم؛ ولهذا كانت أعماله تنحاز لأوجاعهم ومخاوفهم، وتعبّر عن تطلعاتهم بقدرٍ كبير من الإحساس ومهارة عالية في الاختزال، موظفا ببراعة علاقته الخاصة بخطوطه البسيطة وأشكاله، التي ارتبطت بملامح المواطن البسيط وفق رؤيته الساخرة، والتي كان يحرص فيها على تجاوز كثير من التفاصيل والتركيز كثيرا على ما يرى فيها الصورة التي يعتقد أنها تختزل الفكرة، وتقول الرسالة ببساطة نقدية ساخرة لاذعة، من خلال حوار بسيط مكثف يُلامس قضية مفصلية، لكنها مفهومة مباشرة وغير مباشرة، توخز و(تكركر) المتلقي في آن، حتى أن كثير من القراء يجدون فيها ذواتهم الجمعية التي أضاعوها في خضم تناقضات الحياة من حولهم، كما ترشدهم في الوقت ذاته نحو طريق النجاة.
تلتقي تجربة المجاهد في الفن التشكيلي موضوعيا مع رسوماته الكاريكاتيرية، وهنا قد ينبري البعض من متابعيه متقاطعين مع هذا الطرح مُستندين إلى ما بين التجربتين من اختلافات واضحة تفرضها تقنيات وتناولات كل منهما، وهو اختلاف لا نرفضه لنؤكد أن ما نعنيه بذلك، هو تلك الرؤية الإنسانية الجمالية في علاقته كفنان بقضايا الإنسان؛ فالتعب الإنساني ظل محورا لأعماله، ولا يمكن تجاهله في التجربتين، وإن كانت (محامل التعب والألم) في أعماله الكاريكاتيرية مختلفة عنها في أعماله التشكيلية، ففي الكاريكاتير تختلف الفكرة والمعالجة بشكل واضح، انطلاقا من خصوصية فن الكاريكاتير، الذي يشتغل على المباشر وغير المباشر في آن، كفن ناقد ساخر يُلامس القضايا اليومية ويقترب كثيرا من محكي الناس، في ما يعيشونه ويتطلعون إليه، ويعبر عن ذلك في عمل بسيط بخطوطه وتفاصيله وتقنياته؛ التي يقول من خلالها الكاريكاتير كلمته في بضع دقائق ويمكن قراءتها في أقل من دقيقة، فيما الفن التشكيلي يعتمد على تقنيات مختلفة، ويحتاج لكثير من الأدوات والخامات، ويخدم رسائل وأهداف تُولي الرؤية البصرية الجمالية بأبعادها المختلفة أولوية في الاشتغال على المكونات بتركيباتها وسطوحها المتعددة.
في الفن التشكيلي التزم الفنان المجاهد المدرسة الواقعية ضمن الصف الثاني في التشكيل اليمني. وفي تلك الأعمال اقترب من الناس ومن متاعبهم من خلال تلك المناظر التي كان يميل إليها اهتمامه؛ وهي المناظر التي كان يستشف في سطوحها وحمولتها ما يهمه من المعاني الإنسانية؛ فيُعيد قراءتها بما يمنح ملامح التعب والألم مسحة جمالية تفتح كوة للأمل، وهو ما كان يحرص على تقديمه في صورٍ تشيّ بكثير من الألم والجمال في آن؛ فلوحة السجين على ما فيها من ملامح تعب وألم، إلا أن قيم التحدي والأمل واضحة بقدر يجعل من الجمال والاستبشار بضوء الغد عنوانا لهذا الألم الذي لابد منه طريقا نحو الانعتاق. كما نجده في معظم أعماله التشكيلية يستهدف مناظر واقعية ارتبطت كثيرا بالبسطاء؛ كتلك اللوحة التي صوّر فيها ثلاثا من النساء الريفيات في مراحل عمرية مختلفة في حقل من حقول الفلاحة؛ أبرزَ، من خلالها، ما تبذله المرأة الريفية من جهد في حياة مجتمعها، ونجده هنا كان مهتما بإبراز ملامح التعب وما أحدثه الزمن في وجوههن، كما لم يفته في ذلك إبراز معالم الهُوية الثقافية للمكان، من خلال الاشتغال بمهارة على معالم التراث، وهو ما يظهر في عنايته بالأزياء والمصنوعات التقليدية.
تقنيا نجده في خطوطه وألوانه وتكوين أشكاله لم يتجاهل فكرته ورؤيته في اشتغاله على التعب، وإن لم يبد مباشرا، إلا أن ذلك يمكن ملاحظته ليس في النظرات والملامح، بل يمكن قراءته، أيضا، في طبيعة الألوان وتفاصيل المكان وملامح الهيئات التي بدت عليها النسوة؛ فأشكال أيديهن تحمل ما يكفي لنقرأ بعض آثار ذلك التعب، لكنه تعب لا يشكو ظلما أو غُبنا، بقدر ما يعبر عن تحدٍ جميل تبدو ملامحه واضحة في ما يبثه الداخل الإنساني من أضواء تُسند التجربة الحياتية؛ وهي أضواء تُخفف – أيضا- من تأثير خفوت الألوان المستخدمة في اللوحة، إنه ذلك (الألم الموشّى بالجمال) نقرأه، أيضا، في اشتغال الفنان على لوحة الشيخ العجوز المُمسك بعصاه وفي اليد الأخرى يمسك مظروفا كأنه ينتظر من يقرأه له؛ ليطمئن، من خلاله، على حال ابنه المغترب، فنظرات الشيخ توحي بكثيرٍ من المعاني مثلما تتحدث بقية التفاصيل الأخرى التي اشتغل عليها الفنان باهتمام يعكس خصوصية الثقافة والبيئة المحلية، سواء تلك المتعلقة بهيئة الرجل أو ملامح المكان من حوله، وقبل ذلك ما يطفو على السطح من مشاعر الرجل، وهو ينتظر من يقرأ الخطاب. ما يمكن قوله إن كل ذلك الإحساس بمعاناة المجتمع وما يحمله من أحلام وتطلعات قد عكست نفسها في علاقة هذا الفنان باللوحة موضوعيا وتقنيا؛ فالألوان والخطوط والأشكال كلها كانت تخدم فكرته ورؤيته وإحساسه، بمعنى أن عبدالله المجاهد سواء في أعماله الكاريكاتيرية أو التشكيلية ظل يتحسس الإنسان ويشتغل على ما فيه من جمال انتصاره للحياة تعبيرا عن التعب والألم في مواجهة قسوتها. وفقا لما نشر بصحيفة القدس العربي.