بشرى بن فاطمة
المفاهيمية والفن التشكيلي العربي المعاصر
من الفكرة إلى التجسيد رؤى متغيرة وواقع ينفلت نحو الخيال
المفاهيمية رؤية فنية حديثة تبلورت أسسها في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية نهاية الخمسينات لتنتشر في بقية دول العالم، تعبّر في محتواها العام عن حالة تحويل الفكرة إلى أعمال ملموسة وتجسيدها واقعا بصريا بناء على تصورات مختلفة التقبل الذاتي لها، حيث تصاغ بخامات متنوعة، فمن يتبعون هذا المسار يؤمنون أن الفن خلق مفهومي بالأساس فالمنجز الفني يكتسب جماليته من الحالة والفكرة المجسّدة حتى لو كانت غير مألوفة في تنسيقاتها وعناصرها، فالفكرة مرتبة وفق السياق البصري ومدلولاته بمعنى تحويل الفن البصري إلى فن ثقافي له منحى فلسفي وجودي وعلمي، وبالتالي كسر القواعد الكلاسيكية والتمرد البصري بالفكرة والرمز مع التركيب المبني على الأداء والتجسيد والانشاء والفوضى والترتيب والعرض الذي يرتقي لمستوى الفهم والتعبير وفق موقف وحالة ومشاعر وتراكمات ولعل التجارب العربية التي كسرت قواعد الفن أكاديميا سواء من خلال المفاهيمية أو غيرها من أساليب التعبير المعاصر متعددة وعالمية وحرفية وعميقة في محتواها ومستوياتها التعبيرية وسنلقي الضوء على بعض التجارب المفاهيمية العربية التي يقدّمها “متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية”، ضمن مجموعة الفن العربي المعاصر والتي تضمنت أعمال الفنانين محمد السعدون وفرات الجميل ونديم كوفي من العراق، أيمن بعلبكي من لبنان، إلهام فرجاني من ليبيا، ماري توما وميرفت عيسى أشرف فواخري وراجي كوك من فلسطين.
ظهر الفن المفاهيمي عربيا كتعبير عن الواقع والوجود وانطلاقا من فكرته التي تفسره فهو يعود إلى نهاية الستينات تعمّق مع تنوع التجارب والتأثر بالتجارب الغربية وبالواقع العربي، فمقصده لفت النظر بالتعبير عن مواقفه وما يعايشه وما يطمح إليه من تغير وتراكمات مختلفة اجتماعيا وسياسيا في ظل التفكك والتغير ورغم الانتقادات تواصل واستمر التعبير والتطوير البصري من خلاله ما شكّل علاماته التي تعبّر عن تحرّر من القيود وفق منطلقات فكرية وهو ما وسّع دوائر تعبيره وأفقها الممتد سواء في الفكرة أو الخامات والمادة التي يجسد وفقها عمله، فالفكرة هي الهدف وهي المفهوم هي كسر حدود الواقع .
كما بدا في تجربة التشكيلي اللبناني أيمن بعلبكي إذ تخضع الفكرة للموقف الإنساني للهم السياسي وللوجع الداخلي فقد حمل جماليات العمل الفني المعاصر ومنحه ألوانه في قلق لامس إنسانية تبحث عن الأمان في صخب الواقع فزعا من الدمار والانهيار ومن المشاهد الأليمة للانفجارات التي عايشها منذ طفولته ورسمت فكره التعبيري ونسق الوصول للفكرة فقد رتب الركام والخلل انطلاقا من المحامل الشعورية ومن المأساة التي دمجت الرسم بالأداء الواقعي فقد أعاد فنيا وبصريا ترميم المشاهد وتجميع مواده التي عبرت عنها مثل عمله “صناعة جاهزة” الذي حمّله كل مواقفه من المجتمع والسياسة برمزية لها أثرها في المعنى الدلالي المألوف والمتعارف والذي شكله بقوة انفعالية وترديد متكامل للتداخل الذي عايشه والذي لا يمكنه أن ينفصل عنه كذات وإنسان.
تحتوي أعمال بعلبكي على مشهدية لونية متداخلة وتلطيخات بألوان متراكمة وأحجام ضخمة
تصل إلى ستة أمتار لتحاكي أحداث واقعية وسياسية ميّزت الواقع اللبناني من تفجيرات واغتيالات وتدمير ورغم أنها غارقة في الذاكرة إلا أنها لم تنتف من الذكرى والفكرة المنجزة في الألوان المفخخة وفي المواد المتصارعة وفي ثقل المواد التي تحاول الانفلات والتي جمعها لتحمل مشهد الأنقاض وتنقل الصورة بكل تشوهاتها فالعمل تحوّل إلى تصوّر متداخل للفكرة وفق حضورها السوداوي على المسطحات وبانفعال الفنان في العبث بها، فبعلبكي يعتمد الأسلوب المفاهيمي ليتحرك بحرية أكبر وليكون أكثر حضورا في الحدث والوقائع بديناميكية وبجرأة في التحوّل داخل الفضاء باضطراب وسكينة ببحث وتردد بتناقض وانسجام ليحاكي فلسفة الوجود فهو يحاول بطابعه المفاهيمي أن يمنح الحياة إلى عناصره الجامدة حتى يكون أكثر جرأة ومواجهة للفكرة في استنطاق الأمل والوصول أبعد.
أما العراقي محمد السعدون فقد تأثرت فكرته بواقع وطنه ومواقفه وأحاسيسه التي كانت تعالج الأحداث المتغيرة حيث أثرت فيه مشاهد الكراسي والكتب المشدودة إليها والملطخة بالألوان والأبواب المحروقة التي علقت في ذاكرته بأساها الذي عبر إلى مخيلته التي تفاعلت مع مواقفه فنيا لتحدث ترميمات تعبيرية بصرية وجمالية رغم بشاعتها فقد صاغ فيها فكرته التي حاكت العراق بتفاصيله التي تعنيه حضارة وتاريخا بالحرف والخط والزخرف والخامات فقد اعتمد المفاهيمية لترتيب أعماله ونفض الفوضى عن فكرته متكئا على الكولاج أو التجميع حيث يقوم بقص ولصق المواد التي تقع عليها الفكرة من كتب قديمة وورق وقصاصات جرائد، خشب حجر أثاث قديم ويشتغل على تلوينها بتلطيخ مقصود يتجادل بين الألوان الحارة والباردة بين الداكن المعتم في فعل الحرق مجسما الفكرة في إحساسها الذي يصل مبعثرا إلى عين المتلقي ورغم ذلك مفعما بالذوق والحنين، بالوجع والأمل بالمشاعر المختلطة وبالفكرة في آن واحد، فهو تصوّر معاصر الرؤية يعبر من الذهن إلى المادة ليحدد الفكرة التي بدورها تتفرع في دلالات بصرية وإيماءات زاخرة تعكس الخطاب الفني الذي يهدف لإنطاق تلك المادة لتعبر عن الواقع بصريا وروحيا وحسيا يتجادل داخليا في تجاذبات الانفعالات الشعورية التي تحاول مداعبة وجدانه وترويض تعاصفاتها التي تتداخل بين الألم والأمل.
أما نديم الكوفي فقد حملته أفكاره إلى المفاهيمية لنبش فلسفته الترابية التي تنبع من الأرض من الطين من التراب من أول الخلق والتكوين إلى تبلور الفكرة والحنين يبعثرها بصريا حتى يصل إلى مدارات عمقها الواعي بالفكرة فيقودها إلى اللاوعي تبصرا في ذاكرة الحلم فقد انطلق من خامات مألوفة ليحركها في الفكرة ماورائيا في دورها البصري مثل الصور الفتوغرافية والطين والتراب وكل ما يترسب ويتشكل مع الماء يثير تصورات توقف عناصره على جدلية الفكرة والصورة وازدواجية المفاهيم في المكان بين الشرق والغرب وثنائية الحضور والغياب في الحاضر والماضي حيث خلقت عنده تناسقا بين النظرة البصرية والذهنية للفكرة فهو يعبّر عن جذوره العراقية وهويته الباقية حلما وتذكرا وانفعالا وعن غربته وعن ثقافته التي لا تختلف في مساراتها عن الوطن في معايشاته وفي تلونه وتغيره، فيتناحت منها الصورة ويبتكر منها التعبير بفكرته التي تخلق بصمته وتدمجها مع التقنية الحديثة والميديا المعاصرة ليصل إلى الفكرة مجسدة بكل تناقضاتها بفعلها وردات فعلها بقسوتها وبهدوئها بإنصافها وتطرفها بوجدانيتها وعقلانيتها وبذلك يحمله المنهج المفاهيمي إلى العمق الروحي فيستبدل الواقع الكئيب الذي انطلق منه بحلم واقعي ممكن.
المخرجة فرات الجميل فقد اعتمدت في أسلوبها على الفكرة النابعة من لغة الصورة والفيديو والتعبير التقني القائم على العناصر المكملة لمجاز الوطن وحكاياته لهويتها الثابتة وحضورها فيها فقد قدّمت أعمال فيلموغرافيا كرتون أنيمايشن وأعمال إنشائية حملت الفكرة من تصوراتها الذاتية وعبّرت عنها في تداخلاتها، عبرت من العراق إلى العالم وبتقنياتها ثلاثية الأبعاد وبتركيبات الصورة لتغوص في عمق الحضارة والتاريخ العراقي فهي تخترع شخصياتها من الحضارات التي تعاقبت على العراق السومارية والبابلية والإسلامية وحكايات ألف ليلة وليلة التي تعتبر أنها إرث عراقي ويجب أن يظهر للعالم بكل اشراقه الشرقي فهي تحوّل بمفاهيميتها الفكرة المعتقة في التاريخ إلى عناصر حديثة مؤثرة خدمة للمضمون الذي يعبّر عن ازدواجية الهوية الاندماج والتأقلم والمعايشة بين الذات والثنائيات.
أما التشكيلية ماري توما فالمفاهيمية عندها تنطلق من عمق جذورها الفلسطينية الايرلاندية في التراب والطبيعة والقماش والفكرة المعبرة عن الهوية والأصل والانسان فهي تعتمد على موهبتها في الحياكة لتصنع فساتين ضخمة تخرجها من سياقها المألوف لتعبر عن الجغرافيا في امتدادها ألما وحقا صمودا وتمزقا مشتت المسارات.
تصوّرها خلق توجها جديدا للتّعبير عن قضايا تهم الجسد والروح والهوية، تستخدم القماش والنسيج وتعتمد أشكالا مادية تكوّنها حسب متطلبات الفكرة و المقصد والمفهوم، تقوم ماري بتصميم الملابس وتركيبها مع مواد مختلفة فتصبح عميقة الاستقراء تدخل المشاهد في عالم استكشافات داخلية للحالة الإنسانية وهي تنقل المتلقي إلى عوالم من التحولات المادية والروحية ترافقها رؤى عن الحياة والموت وتغيراتها المؤلمة فردية وإنسانية تقوم بتفصيل عام لمتغيرات الجسم الدّاخليّة والخارجيّة وتفسّر كيف تعلو الروح في سمو مركزة على تجارب الانفصال والتمفصل والذات والروح والجسد.
في عمل “رقصة البنات” اعتمدت على الدراجات ذات الثلاث عجلات معلقة في الفضاء بسلسلة بيضاء من السقف على نحو يحاكي صعودا إلى عالم ما ورائي من عوالم الميتافيزيقا فالدراجة على هذا الشكل هي حنين للطفولة وتدرج في الذات خاصة بتلك الظّلال التي تحدثها على الأرضية المعروضة مما يجسّد حركة حسيّة داخل الحركة نفسها وهو عبارة عن خرق للموت بالحياة وما بعدهما وكذلك تثبيت لعلاقة متناقضة بين الجسد والروح والعالم المحسوس فهي تحيل المتلقي إلى سفر داخل الفكرة بخيال جمالي عميق فلسفي الأبعاد.
التشكيلي الفلسطيني راجي كوك لم ينفصل بدوره عن الموقف وعن الفكرة ودلالتها في التعبير عن الوطن بعمق مفهومه الداخلي وإحساسه بواقعه المأساوي فقد عبّر عن الانسان عن الروح عن العمق والأرض معتمدا الحجارة للتعبير تلك التي جمّعها رمزيا داخل صندوق من صنع غربي يحمل لغة أجنبية لكن بداخله حجارة من أرضه بكل ثقلها ليدل على الأثر والبقاء على الانسان وحقوقه.
كما عبرت كذلك ميرفت عيسى بالنحت والتصميم والتجميع والتحويل بنفس اللغة التي تنبع من الوطن وخاماته وتعبر عن الفكرة ومضامينها والتي تتبع الموقف الإنساني فهي تنتقل من الحجارة إلى الطين ومن الورق إلى المناديل وكل ما يخدم فكرتها تطوعه بصريا وتنطقه دلاليا.
التشكيلي أشرف فواخري يتجادل مع فكرته بالفكرة نفسها فهو عنيد في اتباعها وعنيد في تحديد المفهوم الذي يحوّله من صداميته وصدمته إلى سخرية سوداء على واقعه بمفاهيمه ورموزه الدلالية التي تحوّل صورة “الحمار” مثلا إلى رمز رئيسي في الفكرة فيصنعه حسب كل مواقفه وكل معايشاته وكل مفاهيمه التي يتحملها بصبر، وفق أسلوبه المفاهيمي الذي يحوّل الصراع اليومي لرموز تسرد بصريا بتشكيلية تناقض المعنى بين الحياة والفناء في انسجام المفهوم المؤثر على الذات والتي بدورها تقوم بردات فعل مؤثرة على رموزه، فهو كذات إنسانية لم يتخل عن انتمائه المركب وهويته المعقدة حيث يبدو في أعماله باحثا في الأرض والطبيعة بحكمة وتوازن ومحبة وأحيانا بسخرية تنافي المنطق، في تحويل حماره من الفكرة إلى الرمز والمفهوم حتى يفسر التناقض الساخر التداخلات والكثافة البصرية بين التصالح والتناحر بين الصخب والهدوء بين التاريخ والجغرافيا بين البقاء والطرد بين القبول والتهميش.
التشكيلية الليبية إلهام فرجاني تحاول خوض المفاهيمية في مواضع مختلفة وتعبيرات متنوعة لم تفصلها عن اللوحة المألوفة ولكنها حوّلت تصوراتها الفنية نحو الحداثة في التعاطي مع الفكرة فقد اعتمدت الأداء التعبيري المسرحي عبّرت عن الإنسانية في الأداء والأضواء، وفي لوحة معتقل الخيام اعتمدت الخامات الطبيعية الحجر التراب الأغصان وربطت بينها سلسلة لتحيل على المكان في تصوّرها لفكرة الأسر والحرية.
تعتبرهذه التجارب بعضا من بقية التجارب العربية العميقة والمتنوعة التي اعتمدت المفاهيمية كمسار ابتكاري متعدد الوسائط والأنماط التعبيرية التي تبدأ من الفكرة لتتكئ على الوسائل المتعددة التي يراها الفنان مناسبة خدمة لمفاهيمه، فهي كتعبير تفسح المجال لتبني المعنى والهدف بالإدراك المكتمل للمحيط والاحساس والذاكرة التي تقع بعد الوعي على حدود القوة الثقافية بكل الفانتازيا المتشكلة من الصور والشعور المعتق فالزمن له اتجاه وفضاء وإدراك جوهري لا محدود والسلوك انبعاث الروح والتأمل في الفكرة بصميم الإحساس بالثقل والتوازن بالقرب والبعد بالحركة والثبات بالعلو والنزول.
الأعمال المرفقة:
*متحف فرحا الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection