واقعية مفرطة توثيق جمالي وخيال فنيّ
للصورة الفوتوغرافية تاريخها التعبيري والفني المدوّن والموثق للّحظة بعمق تلوّنها، حسب اختلاف الأحداث والأساليب وتطوّر التقنيات.
ولا يمكن فصل الصورة الفوتوغرافية عن عصرها ومسارها الذي انفلت من تداخلات الواقع، ويرى بعض النقاد أن الصورة كانت ملاذا للفنانين التشكيليين في عصر الحداثة وما بعدها في تصميم لوحات وأعمال فنية معاصرة عبّرت بتلقائية حرفية عن الواقعية بإفراط كبير في تصوير الواقع وقدّمته وفق أطروحات فنية مركّبة عبّرت عن الواقع بصدمة مدهشة التفاصيل فتشابهت مع اللوحة في ملامسة خيال من نوع آخر ما جعل بعض النقاد يعتبرون الصورة بديلا معاصرا للوحة وتحوّلا عصريا غيّر خامات الفن وحوّل الوجهة في الأسلوب التعبيري إلى اعتماد الواقعية المفرطة أو “الهايبرياليزم”.
وقد انتشر التعبير بالصورة وفق التفاعل التقني والتركيب الانفعالي مع الفكرة بواقعية طرحت الجمالية المدهشة من خلال الصدمة المبالغة لتتشكل إستطيقا مغايرة للمألوف، فالعدسة التي ترصد الواقع تلتقط ما يفوت العين البشرية وتغوص في تفاصيله ما يحيل على البعد الجمالي الرمزي والتعبيري، ويلفت الانتباه إلى الجمال المختلف والدقيق في كل زواياها التي قد تكون مهملة ولكنها تعني الكثير فهذا الفن الواقعي تجاوز الواقعية بمفهومها الكلاسيكي وتجاوز التعبير الفوتوغرافي البسيط الذي يكتفي بنقل الحدث.
فالهايبيرياليزم تعني نقل تلك الدهشة في الواقع لتكون اقتناصا للحظة منفلتة ما يحوّل الواقع نفسه إلى خيال.
وسنرصد بعض التصورات التي تقع بين الواقع والخيال فنيا من خلال مجموعة من الصور الفتوغرافية لمصورين صحفيين من لبنان وفلسطين ووكالات أنباء أجنبية تعود إلى فترات ومراحل مختلفة من تاريخ لبنان إضافة إلى التجربة التشكيلية الفوتوغرافية لرولا حلواني وسمر غطاس من فلسطين (متحف فرحات مجموعة فن تشكيلي عربي معاصر).
يعبر الفن الواقعي عن المظهر الدال على الجوهر العميق للسطح الذي يراه المتلقي فهو انغماس في التفاصيل الجوهرية وليس نقلا حرفيا واستنساخا بصريا بل امتداد موقف لما يُرى وما لا يُرى من وجدان ومشاعر وانفعالات تحوّل الصور الواقعية إلى جزء من الفكر والنقد والتبصر، وفي الصور الفتوغرافية التي تعود للحرب الأهلية اللبنانية اشتغل عدة مصورين على صورة الحدث كإخبار والصورة المقتنصة من زوايا معتمة لتكون بدورها علامة جمالية تحوّل فكرة توثيق اللحظة إلى عنصر له ذاكرته الجمالية ونذكر ما أنجزه المصورون “جورج سامرجيان” و”بلال قبلان” و”محمود الزيات”، “محمود زعتري”، “مروان تحتح” وغيرهم حيث تعبّر كل عناصر الصور عن اللحظة ولكن في تأملاتها انعكاس يشبه الخيال والحلم فكل مصوّر التحم مع كاميرته وبذل مجهوده الخاص في المواجهة التي رمته مع الحدث لحظة بلحظة فكل صورة تسرد حكايا و تسمو إلى واقع يتجاوز الواقع نحو الخيال والسريالية فنيا و فكريا حيث تحلّل من الواقع بوعي يتجه نحو اللاوعي إلى رؤية شمولية متسعة الأبعاد تجاوزت النظرة التقليدية الجامدة للصورة و امتزجت مع محتواها الحي ذي الأبعاد الرمزية التي تثير انفعالا يدفع إلى التأمل والتفكير.
إن مجموعة الصور الفتوغرافية استطاعت أن تكون بانوراما للتاريخ فهي أقرب للحدث والواقع وقد زادها التاريخ تأثرا وتأثيرا ليخلق داخلها فنية فمن خلال تجربة المصورين اجتمعت التفاصيل الفنية والاخبارية مع الواقع بإفراط تعبيري ارتقى بالصورة وحوّل دورها من الإخبار والوصف إلى الفن والرمزية الواقعية المفرطة لما حملته داخل أطرها من مقاييس وعلامات بصرية تمثلت في صراع الظلام والعتمة مع النور والأضواء التي تنفلت فيما بينها لتواجه ذلك الظلام وتنغرس في الذهن بشكل مختلف قد نراه اعتياديا في لوحات تشكيلية منجزة بحرفية وبتعامل مباشر بين الرسام وألوانه المختارة، لكن هذه الرؤية استحوذت على جوانب الصورة الفوتوغرافية والصحفية في أبعادها التي تحكمت بدقة في الأضواء وتداخلاتها في الألوان وتعبيراتها وفي الزمن وتجلياته لتمتلك قراءات فنية اتكأت على رمزية بصرية امتلكت انفعالاتها معان مجازية السرد في الرؤية وما بعدها.
أما حضور الصورة الفوتوغرافية في الفن التشكيلي فقد بدا أكثر خيالا وتأملا وموقفا مبرمج التريب الفوضوي فمثلا تجربة رولا حلواني استطاعت من خلالها أن تخلق لها فلسفة في محاكاة الصورة فقد تحولت بها إلى رؤية إنسانية ووسيلة تعبير رمزية عكست الواقع بتفاصيله التي انعكست كحلم مزعج اقتلعته من المكان المألوف ملامحا وطبيعة وثّقته بشكل قد يبدو مشوّها لكنه حقيقي وقدّمته فنّييا باعتماد النيجاتيف المعالج ضوئيا بين العبثية والرمزية بين الفوضى وترتيب المعنى لتعلمنا كيف يتحوّل المكان في الصورة إلى عنصر ثابت في الذهن حيث تمارس طقوسه من خلال الزاوية المحدّدة للفكرة في ذهنها حتى تظهرها بحرية وحيوية، حيّة تخترق اليومي بجميع تفاصيله المملّة والموجعة وتوثّق لتلك الممارسات وكيف تترك علاماتها على الأفراد في ذلك النيجاتيف كصور مبطنة برمزية الدلالة البصرية.
هذه الصور تعكس الحياة رغم ما تبثّه من حزن وألم ومرارة ممزوجة بحنين وأمل يسطع مع التذكر وينعش الذاكرة البصرية التي لها علاماتها في تحريك الوجدان كما في تجربة سمر غطاس حيث مكنتها الصورة من أن تنفذ إلى الواقع من خلال النفسية التي بدورها أعادتها إلى صورها المصممة بالفنية التي تحوّلها إلى لوحة ذات موقف حيث ابتدعت لغة صادقة وعميقة نقلت الواقع الفلسطيني بعيون عدستها طوّرته بأفكارها ومشاعرها لتثبت أنها تتعامل مع إنسان يحب السلام ولكنه لا يتنازل عن أبسط ذكرياته المفرحة والمؤلمة وذاكرته التي تصارع واقعا رماديا يبحث عن منفذ الألوان والنور في مختلف العناصر التي تعنيه فردا ووطنا.
إن تحديد قدرة الصورة بمقاييسها على التعبير الواقعي هو رؤية النور في الحياة الذي يعني الصورة والتشبث باللقطة التي تحيل على الموقف الجمالي من ذلك الواقع لتتحدى الزمن فاقتناص الصورة واقتناص الفكرة ليس وليد الصدفة بل هو احتكاك بالوقائع واندماج داخلي معها بحركة تنسجم في عمق الحدث والصورة وفكرة تتنبأ بالرؤى الماورائية فالكاميرا ليست أداة تسجيل للصورة بل أداة توثيق فنية وجمالية خالدة لا تنتهي بنهاية الحدث بل تعبر عن طاقات فنية ثرية تتجاوز اللحظات العابرة لتتحول إلى لغة بصرية شاهدة على تلك اللحظات وتولد معها أفكار تحاور روح اللقطة التي تحمّل الصورة مزايا جمالية تحاكي إنسانية عميقة.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection