نزار قباني، لماذا تكتب؟
أكتب لأنني لم أجد طريقةً أفضل للانتحار، ولأنني لا أستطيعُ استبدال دمي بعصير البندورة ، أكتبُ بالحتميّة ذاتها التي ترتفع فيها السنبلة، ويفيض البحر، ويكتظُّ الثديُ بالحليب، هل يجيبكَ ثديُ المرأة، إذا سألتَه لماذا هو مكتظٌّ بالحليب؟
إنني أكتبُ لتصبح مساحة الفرح في العالم أكبر، ومساحة الحزن أقلّ. أكتبُ لأغيّر طقس العالم.. وأجعل الشمس أكثر حنانًا.. والسماء أكثر زُرقة.. والبحر أقلّ ملوحة. إنني أكتبُ حتى أتزوّجَ العالم.. حتى أتكاثر.. حتى أتعدَّد.. حتى أصبح ١٥٠ مليون نزار قباني.
هذه هي خارطة طموحي. و لن أقبل أن تنقص الشعريّة مواطنًا واحدًا؛ لأنني سأكون حزينًا إذا لم يأتِ أحد أولادي إلى العشاء وسأقضي الليل بانتظاره. فأنا لا أستطيع أن أتناول الطعام وحدي أو أجلس مع القصيدة وحدي .
أنا مصمّمٌ على أن أتزوج العالم. هناك شعراء يتزوّجون العالم زواجا دينيّـًا، وشعراء يتزوّجونه زواجا مدنيًا، وشعراء يتزوجونه زواجا عُرفيًّا، وشعراء يتزوّجون العالم بالمراسلة، ولذلك فهم لا ينجبون ذرّية.
وهناك أخيرًا شعراء يُضاجعون أنفسهم، وليست لديهم الشهوة للاقتراب من الجنس الآخر (الجمهور)، أما أنا فشاعر طبيعيّ الميول، قرّر أن يتزوّج الوطن العربي، ويستولده أُلُـوف القصائد والأطفال.
لماذا أكتب؟ لأن بعض طموحاتي أن أغيّر جغرافيّةَ الوطن العربي بالكلمات، قد يأخذ ذلك وقتًا طويلًا وعرقًا كثيرًا ودمعًا غزيرًا، و لكن نقطة شعر من هنا ونُقطة شعرٍ من هناك و ينفجرُ الطوفان.
نزار قباني، لمـن تكتب ؟
لن أكون متواضعًا، فأقول إنني أكتب لنفسي أو للعائلة أو(لأولاد حارتنا). ففي ذهني مخطّطٌ للشعر لا أتراجعُ عنه، وهو مخاطبة أي شجرة أو غيمة أو سمكة أو هرّة أو نجمة أو يمامة في الوطن العربي. ومادامت هناك سنبلةُ قمح، تجد صعوبة في فهم الشعر، فسأذهب إليها في الحقل، و أقرأ لها الشعرَ قبل أن تنام.
وما دام هناك قِطّةٌ واحدة في شوارع الوطن العربي لا تهتم بالشعر، فسوف أضعها على حضني وأمشِّطها وأدلِّلُها وأُطعمها اللوزَ والفستق وأُسمعها قصائد الغزل، حتى تستيقظ أنوثتها.
ومادام هناك تلميذٌ واحدٌ في المدارس العربية، يخوّفونه بالشعر الجاهلي، ويعاقبونه بحفظ بعض نماذجه التي لا تُعصر ولا تُكسر فسأبدّد مخاوفه، وأمسحُ دموعه، وأجعله صديقي، وصديق الشعر.
وأخيرًا، ما دام هناك مواطنٌ عربيّ واحد، لم يستطع أن يحضر أمسيّةً شعريّةً لي، بسبب عرقلة السير، أو لأنه لا يملك أجرة أوتوبيس، فسوف أحمله على كتفيّ؛ لأنني لا أستطيعُ أن أبدأ الشعر إلا به.
عيون الناس هي المرايا العاكسة التي أرى فيها وجهي وأتأكد فيها من صباي. هي البوصلة التي تدلّني على موقعي في الزمان و المكان. و حين يقول لك شاعر إن العالم الخارجيّ لا يعني له شيئا وإنّه يكتبُ لنفسه، وإنّهُ سعيد بالحوار معها، فمعنى ذلك أنّه يمارس الحبّ مع نفسه، و يحترف العادة السرّية.
فحين لا يشتهي الكاتبُ الآخرين، ويكتفي بملامسة جسده، والاحتكاك بورقة الكتابة، فهذا يعني أنه منحرفٌ شعريًا. فالشعر هو بالدرجة الأولى فنّ الملامسة، فن ملامسة الآخرين، وبغير ملامسة الآخرين، لا نستطيع أن نكتشف أبعاد جسدنا، ولا أبعاد فكرنا. فبالإنسان تبدأ المعرفة وبه تنتهي.
إن الشعر هو السفر داخل الإنسان، والشاعر هو ذلك المسافر الأزليّ في النفس البشريّة. و الذين لا يُجيدون فنّ العلاقات العامة من الشعراء، يبقون في الحفلات وحدهم، يتحاورون مع كأس الويسكي، حتى تُطفأ الأنوار عليهم. هؤلاء الشعراء الذين لا يستطيعون أن يتفاهموا مع أية نملة أو نحلة أو شجرة أو أوتوبوس في العالم العربي، يتّهمون الشعب العربيّ، بأنه مجموعةٌ من المجاذيب والبهاليل والأُميين.. وأنه يحتاج كي يلحق بقصائدهم، و يكتشفُ جمالياتها الجُوّانية، إلى عشرين ألف سنة ضوئية.
أما أنا فصبري قليل و لا أستطيع أن أنتظر الشعب العربيّ عشرين ألف سنة ضوئية؛ حتى أتفاهم معه. فلا أحدَ يدري إذا كنّا بعد عشرين ألف سنة.. سنقرأ الشعرَ في الكتب، أم أنّنا سنجده في الصيدليّات على شكل حبوب، كالتي يستعملها رُوّاد الفضاء في رحلاتهم.
إنّني حريص على أن أكون شاعر هذه اللحظة، هذه الدقيقة، هذا اليوم، هذا الشهر، هذا العصر، هذا الزمن، أما الأزمنة التي لا أعرف شكلَها، فلا أفكّر بها أبدًا..
إنّني مقتنعٌ بهذا الشعب العربي، على ما هو عليه بأبيضه وأسوده وخيره وشرّه وجاهليّته وحضارته.. الشعب العربي هو قدرَي المرسومُ على جبيني وأصابعي، ولما كنتُ لا أستطيع أن أطردَ من جمجمتي ١٥٠ مليون عربي، و أستوردَ غيرَهم من سويسرا أو اسكاندينافيا، فسوف أبقى مرتبطًا بفصيلة دمي و تبقى قصائدي مرتبطة بالرحم الذي تكوّرتْ فيه.
لمن أكتُب؟ في الكتابة ، أبحث عن شركاء يقتسمون معي بصورة عادلة، فرحي وحُزْني، عقلي وجنوني، صحْوي ومطري، حناني وتوحّشي، مناخاتي الربيعية، ومناخاتي الاستوائية. في الكتابة أبحثُ عن كلّ أطفال العالم ومجانينه، وفوضويّيه، الذين لا يزالون يحتفظون بحدٍّ أدنى من البراءة والنقاء، وعن جميع التلاميذ الهاربين من زنزانات التعليم العثماني والانكشاري إلى براري الحريّة. أبحث في الكتابة عن مرضى الحساسيّة المُفرطة الذين يجدون في الشعر خلاصَهم، و ينامون على كتفِ القصيدة كما تنام السمكة على شاطيء رمليّ، بعد صراعٍ طويل مع الأمواج المجنونة.
أبحث في كتابتي عن كلّ النساء المدفونات كأسماك السردين في كتب عاد وثمود، والمشنوقات على بوابات المدن العربية، وعن الشفاه التي لا تستطيع أن تتكلّم، فأتكلّم عنها، وعن العيون التي لا تستطيع أن تبكي، فأبكي عنها.
وأخيرًا، أبحث عندما أكتب، عن لغة تكون القاسمَ المشتركَ بيني وبين جيل عربيٍّ لا أعرفه، و عن ملايين العقول التي لم تتشكّل بعد، ولكنها سوف تتشكّل بصورة حتميّة، داخل الشعر وداخل الثورة.
لمن الكتابة؟ لا مجالَ للتردّد في أنها للأسرة البشريّة كلّها، لخيرها، لسعادتها، لتقدّمها، و بغير هذه الرؤية تصبحُ الكتابةُ، لعبة مهارات، وتجريدات ذهنية ويدويّة، أشبه بأعمال الساحرات، وألعاب السيرك.
كلّ كاتب بالأساس ضدّ القبح، ومهمّته الأساسية أن يحتجّ على كل الممارسات والأساليب التي تجعل العالم مرعبًا ومظلمًا وقبيحًا؛ ولذلك يتعذّر على الكاتب منطقيّـًا، ومهنيّـًا وأخلاقيًا، أن يكون مع القاتل ضدّ القتيل ومع الظالم ضدّ المظلوم ومع الخنجر ضدّ اللحم الإنسانيّ ومع الفاشيست ضدّ الحريّة ومع المشنقة ضدّ الرقبة ومع الشيطان ضدّ الله، وفي عالم كعالمنا، يترنّح فوق بحر صاخب من العنف والجريمة والقمع والممارسات العنصريّة والبوليسيّة.
في عالم كهذا العالم، الذي يتحول فيه الإنسان يوماً بعد يوم إلى صرصارٍ مهروسٍ بآلة الحرب الاقتصادية والعسكرية والاستهلاكية، لم يعد بوسع الكاتب أن يُقفِل باب الغرفة على نفسه مع زجاجة ويسكي، معلنًا حيادَهُ بين البحر والسفينة، بين أسنان سمك القرش ولحم المسافرين.
إعداد: حمد الدريهم.