كانت رحلة إلى مدينة تشوفو أثناء دراستي في جامعة شاندونغ للمعلمين عام 2011 بمدينة جينان في الصين هي ما أثارت انتباهي إلى اهتمامي بالترجمة، فقد كانت مسرحية تُعرض على شاشة التلفزيون في الحافلة، وفي العادة يظهر شريط أسفل الشاشة بما يقال لمساعدة المشاهدين سواء أكانوا صينيين أم غيرهم على فهم ما يُعرض، حينها أخرجت مفكرة كنت أحملها دائمًا لتسجيل أي كلمات جديدة أو عبارات، وبدأت في تسجيل بعض الجمل التي أثارت اهتمامي في المسرحية وترجمتها. ربما كانت هذه هي البداية، لكني لم أفكر ولم يخطر ببالي الاشتغال في مهنة الترجمة، ناهيك عن اختيار الترجمة الأدبية كتخصص! ثم إن دراستي في الصين آنذاك كانت منصبة تمامًا على محاولة الاندماج مع اللغة قدر الإمكان وتشربها والاحتكاك المباشر بها مع أهلها، ولم أفكر فيما سأعمله بعد تخرجي، إلا أن هوايتي _القراءة_ كانت تدفعني دائمًا إلى التجول بين أكشاك الكتب والجرائد وشراء ما يثير اهتمامي، إلى أن عدت إلى مصر لاستكمال السنة الرابعة في كلية الألسن جامعة عين شمس/ قسم اللغة الصينية، وطلبت مني مجلة (الإعلام والعصر) كتابة مقال عن رحلتي إلى الصين، وإذ كان المقال بسيطًا وعاديًا في نظري الآن، فإنه ربما كان بداية إدراكي لموهبتي إذا أردنا القول، أو أن ثمة مشروع مُترجم ربما. وفي أحد الأيام قرأت قصة قصيرة في مجلة من المجلات التي اشتريتها من الصين وهي مجلة (القارئ)، وكانت أول نص ترجمته بعنوان (أبي وأمي) للكاتبة “فانغ جي” الذي نشر في مجلة دبي الثقافية، حينها لم أكن أعي ماهية الترجمة، وما المجهود الذي يتطلب من المترجم بذله لإخراج العمل في صورة جيدة قدر المستطاع، وبرأيي لا يدرك المترجم أن التجربة عملية معقدة وبها من التحديات الكثير إلَّا حينما يخوض تجربة ترجمة العمل الأول، التحدي الأول الذي يختبر قدرتك في التعامل مع اللغة، ويختبر تمكنك من لغتك الأم ويختبر كذلك قراءاتك، فالعمل الأول ينبهك إلى ما ينقصك في بداية عملك كمترجم. وكنت قبل ترجمتي للمجموعة القصصية (العظام الراكضة) ــ العمل الأول ــ والتي صدرت عن دار الحكمة للترجمة والإعلام، قد ترجمت العديد من القصص القصيرة والدراسات والنصوص الشعرية في عدد من الدوريات العربية، مما كان تدريبًا وعملية إحماء قبل الشروع في ترجمة كتاب.
الترجمة بالنسبة لي شغف وهواية، وعمل ومُتنفس، وحالة أعيشها مع كل نص أترجمه وأتخيل أحداثه كما لو كنت شخصية من شخصياته، وأعتقد شخصيًا أن هذا من أهم مقومات مترجم الأدب: القدرة على تخيل النص، القدرة على تخيل الألوان والأصوات والمشاهد بحيث يعيشها المترجم تمامًا، ثم يبدأ الترجمة.
ولمّا كانت الترجمة مسؤولية وأمانة، مسؤولية تجاه الكاتب وتجاه المترجم ذاته، وأمانة يقدمها للقارئ، فلا بد أن يكون متمكنًا من اللغة التي يترجم عنها، ومتمكنًا كل التمكن من اللغة التي يترجم إليها، وأن يكون باحثًا، وباحثًا صبورًا، يبحث عن بواطن المفردات والإشارات الثقافية والتاريخية والاجتماعية وغيرها في النص، والتي تعزز من قدرتك باعتبارك مترجمًا يتحمل مسؤولية العمل الذي يترجمه.
قبل البدء بترجمة أي عمل أدبي أطالع في البداية حياة الكاتب والظروف التي أحاطت بكتابة النص، وأجمع كل المقالات النقدية التي كتبت عن النص بما في ذلك تقييم القراء، ثم أراجع العمل مرتين أو ثلاث مرات، وأبحث عن لقاء تلفزيوني أو ندوة شارك بها الكاتب، ثم أبدأ بالترجمة، عن هذه الخطوات أضرب أمثلة من ترجماتي، فعندما ترجمت إحدى القصص في المجموعة القصصية الأولى “العظام الراكضة”، اضطرَّرتُ لقراءة ملف كامل عن اللؤلؤ كي أستطيع استيعاب النص وتخيّله، وفي ترجمة رواية “الذواقة”، قرأتُ مواد عديدة ومتنوعة عن مهنة الذواقة، وعن المدينة التي تدور فيها أحداث العمل، وعلى صعيد الشعر، فقد أوقفت ترجمة إحدى قصائد خاي زي عن الرسام الهولندي فان غوخ لأقرأ كتابًا عن حياة الأخير.
ولا بد أن تكون مترجمًا قارئًا، وتكون قارئًا نهمًا، فلا أثق في المترجم الذي لا يقرأ، فالقراءة عمود أساس في مهنة الترجمة، ناهيك عن أهمية فعل القراءة في يومنا هذا.
أعود وأقول إن العمل الأول يضعك في خط البداية، فتدرك بعدها إن كنت ستكمل هذا المسار أم لا، ومع كل ترجمة عمل جديد، ستنتبه مرة أخرى إلى ما ينقصك، من فهم اللغة ومفراداتها مثلًا، إلى الكتب التي لا بد أن تقرأها.
ومن الأمور المهمة التي لا بد أن يضعها المترجم في اعتباره بعد ترجمة عدة كتب وخوض الترجمة؛ العودة إلى الأصول المعرفية للترجمة، والتعرف على نظريات الترجمة وتاريخها، ورغم أن هذه الكتب تكون متخصصة بعض الشيء ومرهقة للذهن، إلا أن المترجم يجب أن يكون ملمًا بها، أو ملمًا بجزء ما على الأقل، فكل مهنة ولها أساس معرفي تقوم عليه. ثمة الكثير من الكتب حول الترجمة، لكني آثرت ذكر التي يمكن قراءتها واستيعابها دون أن تكون مرهقة للذهن ومملة مثل كتاب (في نظرية الترجمة: اتجاهات معاصرة)، الذي رشحه لي أستاذي المترجم القدير الدكتور محسن فرجاني منذ عدة سنوات، وكتاب (بناء الثقافات: مقالات في الترجمة الأدبية) ترجمة الدكتور محمد عناني، وكتاب بول ريكور الفرنسي (عن الترجمة) الذي يضم ثلاثة مقالات مهمة عن الترجمة، وكتاب (فن الترجمة) ترجمة د.حياة شرارة.
الترجمة هي فعل العزلة والانفتاح على عالم في الوقت ذاته، هي العزلة الضرورية التي لا بد منها، والتي تأخذ المترجم إلى عالم آخر يعيش فيه منذ أن يخطط لمشروعه إلى أن يسلم مخطوطه الأول.
#الصوت _الآخر
(يارا المصري مترجمة مصرية تترجم عن اللغة الصينية، فازت بالمركز الأول في مسابقة أخبار الأدب للشباب عام 2016، صدر لها عدد من الترجمات مثل: العظام الراكضة، الذواقة، الفرار، أحتضن نمرًا أبيض وأعبر المحيط)