حمامات دمشق… مأثرة تاريخ وعمران
إذا كانت التقاليد صفة تتميز بها الشعوب عن بعض، وكان لكل شعب تقاليده وعاداته وأعرافه.. فإن هذا للمؤرخين المعاصرين كنز ثمين يحرصون على حفظه خشية النسيان والضياع، وخاصة بعد أن تغيرت الظروف وتطورت الحياة. ولعل من الممكن القول إن الجمهور الدمشقي المخضرم ممن عاش في النصف الأول من القرن العشرين وأدرك النصف الثاني من هذا القرن ليعجب ويسر بما تحيي هذه التقاليد في خلده من ذكريات الماضي التي عاشها ونعم بها، فهي بالنسبة إليه جزء لا يتجزأ من شخصيته، إذ إنها حبيبة إلى قلبه يأنس إليها ويرى فيها شرخ شباب بل مناسباته العائلية والاجتماعية والوطنية وحنينه إلى الأهل والصحب وأيام الصبا والصفاء. وإذا كان المؤرخون في الماضي يهتمون بأخبار الأباطرة والملوك والخلفاء والقديسين والأولياء الصالحين والأبطال وبالسياسة والسياسيين أكثر من اهتمامهم بالشعب وحياة الشعب. فقد أصبح المؤرخون بعد انتشار أفكار الحرية والديموقراطية يعمدون إلى الاهتمام بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية والحياة اليومية بكل ما فيها وما لها وما عليها… أي بكل ما له صلة وثيقة بالشعب وبكل ما هو أصيل فيه ويتكرر في حياته ويأخذ صفة ملازمة لهذا الشعب وخاصة من خواصه يُعرف بها في فترة زمنية أو عصر من العصور. فالحمامات الدمشقية والحال هذه تعدُّ تراثاً معمارياً فريداً ووجهاً من وجود مدينة دمشق المعمارية، وهي بالإضافة إلى ذلك مظهر من الحياة الصحية وملتقى للحياة الاجتماعية، حتى إنه قل أن نجد من يذهب إلى الحمام في ذلك الحين بمفرده رجالاً كانوا أم نساء، لئلا يشعر المرء بالاغتراب والاعتزال عن الحضور في الحمام فلا يستطيع أن يكلم أحداً إلا ما ندر.. حتى إنه سرعان ما كان يغتسل ويلملم نفسه خارجاً من الحمام أما الصحب والأصدقاء في الحمام فهم على غير عجلة من أمرهم ففيه يقضون الساعات الطوال في الأحاديث الودية والعائلية والعملية والاجتماعية وتبادل الأخبار والفكاهات والنوادر، على مسطبة الفناء الجواني من الحمام، والعرق يتصبب من مسام أجسادهم، وبودهم ألا يغادروا هذا المكان الدافئ بحرارة الصداقة وروح اللقاء. وقد اشتهرت مدينة دمشق بحماماتها في الشرق كله وإنك لتجد منها ما هو من روائع الفن الإسلامي بطرز عماراتها وريازتها وزخارفها ونقوشها، فقد تفنن الدماشقة بحمامات مدينتهم.. رصعوا جدرانها بالقاشاني وفرشوا أرضها بالرخام وعقدوا على أطراف قبابها عقود الجص النافرة.. كما أقاموا نظاماً هندسياً بارعاً لتزويدها بالمياه الساخنة وتدفئتها، وتزويد البحرات في فنائها البراني بالمياه الباردة التي تتشامخ منها نوافير المياه بأشكال بديعة أخاذة.. وكان الناس يرتادون هذه الحمامات للاغتسال ولقضاء وقت هني في الاستشفاء من بعض الأمراض وفي تناول الطعام وفي إحياء بعض المناسبات الاجتماعية بتقاليد متوارثة. ويميز في الحمام الدمشقي ثلاثة أقسام، فضلاً عن الإقميم (القميم) مكان تسخين مياه الحمام، وهذه الأقسام هي براني ووسطاني وجواني. فالقسم أو الجناح البراني هو المكان الذي يدخل إليه من خارج الحمام، وهو على شكل فناء واسع مسقوف بعقود تتلاقى لتشكل رقبة تحمل قبة نصف كروية، وذروة هذه القبة تنعقد على شكل قفاعة جوانبها من نوافذ بلورها من الزجاج الملون حتى إذا دخلت الشمس إلى ذلك البراني تكون بألوان زاهية. ويتوسط البراني بحرة تتشامخ المياه من نافورتها وعلى جوانبها أصص من نباتات الصالون. وعلى جوانب هذا الجناح مساطب يرتقى إليها بدرجة أو أكثر وبكل منها مساند (قواطع) يرتاح عليها الرواد قبل وبعد استحمامهم حيث يحتسون القهوة أو الشاي والمرطبات وعلى هذه المساطب يخلع الراغبون بالاستحمام ملابسهم للاستحمام ويرفدونها عقب الاستحمام، وجدران هذا البراني مزينة بالحكم وعبارات الترحيب فضلاً عن السجاد والمناظر المرسومة أو المعلقة على تلك الجدران أما أرض هذا البراني فمبلطة بالحجر الوردي مع أميال من الحجر الأسود فضلاً عن تشكيلات من الرخام حول محيط البحرة. أما الوسطاني من الحمام فعلى شكل إيوانين يتوسطهما ممر بيت النار، وهو جناح متوسط الحرارة، وبكل من الايوانين مساطب يرتاح عليها المستحمون كما توجد في هذا الجناح مقصورة النورة (إزالة الشعر).. أرض الوسطاني مبلطة بالحجر الوردي مع أميال من الحجر الأسود أما السقف فعلى شكل جبلونة بها فتحات زجاجية قطر الواحدة منها 30 سم وتعرف بالقمرية، وهذه القمريات لتوفير الضوء في هذا الجناح، في هذا الوسطاني يتناول المستحمون طعامهم وبه تقام مناسبات الولائم والأفراح. أما الجناح الجواني من الحمام فهو للاستحمام، وهو على شكل ايوانين يتوسطهما ممر بيت النار، وفي بداية هذا الممر مسطبة بها كوة تطل على جناح تسخين الماء للاستحمام (القميم) ويرتاح المستحمون على هذه المسطبة للاستشفاء من بعض الوعكات الصحية، وفي جواب هذا الجواني أجران يتدفق إليها الماء للاستحمام، كما يتفرع عنه مقاصير خاصة للاستحمام، لعل أهمها مقصورة الصنعة التي يتخذها الريس لتحميم من يرغب بذلك. أرض الجواني مبلطة بالحجر الوردي مع أميال من الحجر اسود ولا تخلو أرض الجواني من تشكيلات الرخام المشقف بألوان زاهية. أما السقف فعلى شكل قباب قبة منها إلى الفناء وقباب أخرى للمقاصير وتضاء هذه القباب على نحو ما ذكرنا في سقف الوسطاني.. أما الجدران فغالباً ما تكون مزينة بعقود الجص النافرة. أما العاملون في الحمام فيتناسب عددهم مع سعة الحمام ومدى الإقبال عليه، وفي جميع الأحوال لا يخلو الحمام من المعلم وهو صاحب الحمام أو مستثمره ويأتي بعده الناطور الذي يقوم مقام المعلم في كثير من الأحوال وكذلك إن في الحمام ما يطلق عليه اسم الريس في فترة استحمام الرجال والاوسطة في فترة استحمام النساء، ولكل منهما القيام بتحميم الراغبين وتفريك أجسادهم فضلاً عن الليفة بالصابون وهناك الأجير أو التبع في فترة الرجال والبلانة في فترة النساء وعلى كل منهما القيام على خدمة المستحمين فضلاً عن القيام بنظافة الحمام. وتعود حمامات دمشق إلى مختلف العصور، وكان أهل دمشق يفاخرون بحمامات مدينتهم في زمن الأمويين فقد خاطب الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أهل دمشق عندما أخذ عليه من أنفق في بناء مسجد دمشق الكبير (الأموي) بقوله: «.. يا أهل دمشق تفخرون على الناس بأربع خصال، تفخرون بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم.. فأحببت أن يكون مسجدكم الخامسة». وكان أول من تكلم عن هذه الحمامات الحافظ ابن عساكر في العقد الثامن من القرن السادس من الهجرة في تاريخه الكبير، فقد أفرد لها جانباً من بحثه عن التعريف بغنى المياه التي بدمشق، فذكر أن في دمشق سبعة وخمسين حماماً. ثم جاء بعده ابن شداد في كتابه الأعلاق الخطيرة فزاد على ما ذكر ابن عساكر، فبلغت خمسة وثمانين حماماً، ثم أضاف إليها الحمامات التي خارج سور مدينة دمشق فبلغ مجموعها منه سبعة عشر حماماً وفي القرن الثامن من الهجرة ذكر الأربلي حمامات دمشق في زمنه، فبلغت مئة وسبعة وثلاثين حماماً، منها سعبة وسبعون حماماً بداخل سور مدينة دمشق. وذكر ابن عبد الهادي في مطلع القرن العاشر للهجرة في كتابه: آداب الحمام وأحكامه ما يمكن أن نعتبره صورة صادقة عن عادات الناس وتقاليدهم في الحمامات بالقرن العاشر الهجري من ناحية شروط بناء الحمام ودخول الرجال والنساء إليه وعن نفعه ومضرته والأوقات التي يُدخل بها إليه، وعن حكم العورة فيه وعن من مدحه من السلف.. كما نقل إلينا ابن عبد الهادي في كتاب آخر هو: عدة الملمات في تعداد الحمامات، فبلغ مجموع ما عدده مئة وسبعة وستين حماماً عدا الحمامات التي بأطراف دمشق وكانت حمامات دمشق وتطورها حتى القرن التاسع عشر للميلاد مكاناً في أبحاث المهندسين الفرنسيين ايكوشار ولوكور، فقاما بوصف هذه الحمامات، وبحثا في الحياة الاجتماعية فيها، فضلاً عن بيان أوقات عمل كل منها ليلاً أو نهاراً، أو ليل نهار. وقد أشار ايكوشار وزميله لوكور إلى أن أغلب حمامات دمشق وقفها أهل الخير على اعتبار أنها ذات نفع عام، على غرار المدارس والترب والبيمارستانات.. حتى المستحم في حمام فتحي بالميدان التحتاني كان يستحم بلا مقابل ويأكل قرصين من الصفيحة باللحم حسبة لوجه الله مقابل قراءة الفاتحة لروح واقف (باني) ذلك الحمام. وقد نجم عن تطور معطيات الحياة في المجتمع الدمشقي أن تناقص عدد حمامات دمشق حتى وصل عددها إلى سبعة وعشرين حماماً تقوم على استقبال روادها من الرجال أو النساء للاستحمام فضلاً عن إحياء بعض المناسبات الاجتماعية المتعلقة بالأفراح. أما الحمامات التي تخلت عن وظيفتها فمنها ما تحول إلى مخازن ومستودعات كحمام نور الدين بالبزورية وحمام فتحي في حي الميدان التحتاني وحمام الجوزة في حي سوق ساروجة وحمام الصفي بمنطقة الدقاقين من حي الشاغور.. كما أن من هذه الحمامات ما هدم وأنشئ مكانه بناء حديث من عدّة طوابق كما هي الحال بحمام الدرب بالميدان الفوقاني. ولولا اهتمام المديرية العامة للآثار والمتاحف ومحافظة مدينة دمشق وبعض العاملين في الحمامات بإعادة بعض الحمامات إلى دورها باستقبال روادها لكانت حمامات دمشق في خبر كان.