أخذ العديد من الفنانين التشكيليين الشباب مؤخراً في الخروج عن المألوف ومحاولة كسر تابوهات التشكيل القديم بالتخلص من صندوق الألوان والاعتماد في رسومهم على مواد غريبة تراوحت بين أعواد الثقاب وتبغ السجائر وحتى الرسم باستخدام الدم.
هذا التوجه الجديد أدى إلى اشتعال حدة الجدل بين التشكيليين حول تلك الصرعات الجديدة لدى الرسامين المصريين الشباب، فمنهم من يرى أنها مجرد تجارب أو “فرقعات” و”تقليعات” هدفها الترويج واكتساب الشهرة، بينما يرى فيها آخرون فنا حقيقيًا غير تقليدي لأن الناس أصابهم الملل من الألوان الزيتية واستمرار الرسم بالطرق التقليدية.
وبرزت اتجاهات جديدة للرسامين المصريين فراحوا يستخدمون الرمال الملونة، والرسم باستخدام الفواكه والخضروات والصلصة الحمراء المدلوقة فوق الخبز، وأخيرًا لوحات بأعواد الثقاب والتبغ الممزوج بالبارود المشتعل ويعتبر عبدالرحمن الحبروك أحد روادها، أو تشكيل منحوتات فنية باستخدام قطع الخردة القديمة.
تلك الاتجاهات أتت في ظل اتجاه عالمي لابتكار أساليب جديدة للرسم، بينها الرسم تحت الماء واستخدام السمك النافق، ووصل الأمر إلى درجة استخدام فنانتين تشكيليتين مصريتين دم الحيض في إنتاج لوحاتهما.
يقول الفنان التشكيلي المصري محمد عبلة “إن الأجيال القديمة من الفنانين أنتجت وأبدعت العديد من المدارس الفنية وجربت كل شيء، والآن بات من حق الفنانين الشبان البحث عن شيء جديد لتجربته”.
للجمهور الحكم
الفنانون الشباب يدافعون عن ابتكاراتهم تلك بأن اتجاههم الجديد يحمل هدفا اجتماعيًا لخدمة الجمهور العريض وأخذ الفن بعيدًا عن القاعات مكيفة الهواء، وعلى سبيل المثال فإن الرسم بالتبغ ومسحوق البارود يهدف للتوعية بمخاطر التدخين واستخدام الدم في الرسم يحمل رسالة بضرورة نبذ العنف ويتساءلون: ما العيب في الدم.. أليس هو سائل الحياة؟
أصحاب هذه التجارب من الشباب يتعللون بأن الجمهور أصابه الملل وبات يبحث عن فن بديل بعيدا عن القاعات مكيفة الهواء
هؤلاء الفنانون الجدد يعتنق البعض منهم مذهب “العبثية” الفلسفي الذي يرى أنه ما دام الإنسان يولد ويعيش ويموت دون مبررات مفهومة وما دام الوجود الفردي يخضع لهذا المبدأ فلا معنى إذن للاهتمام بالقواعد والقيود الفنية أو أيّ شيء وبالتالي فهم لا يهتمّون بمدى إمتاع المتذوق بالعمل الفني.
أضاف عبلة لــ”العرب”، أن “الفنان حرّ في تقديم أيّ شيء والجمهور بعد ذلك هو الذي له حق التذوق وحرية القبول أو الرفض وأنه لا يمكن الحجر على فنان ما وعلى أفكاره مسبقا بداعي أن لوحاته مقززة، فهناك رسامون قدامى تخصصوا في رسم الجانب المرعب من النفس البشرية والشياطين والأرواح المعذبة والصور الدموية في الحروب.
قائمة الأعمال العالمية المشهورة في التشكيل تشتمل على لوحات مخيفة على شاكلة “تدهور العقل” للفنان النمساوى أوتو راب التي توضح جمجمة بشرية بشعة أثناء تحللها، بينما تخصص الفنان الإسباني فرانشيسكو جويا في رسم اللوحات السوداء المخيفة، ومن أعماله “زحل يلتهم ابنه”، و”سبت الساحرات” و”رحلة إلى سان إيسيدرو” و”مكب المكتب المقدس” و”ليوساديا”.
ولأن الفنان يترك جزءًا من روحه في اللوحة التي يرسمها فإن بعض الفنانين تميل أرواحهم إلى التعبير عما يعتبره الآخرون أمورًا غريبة، وهناك جمهور يتذوق ذلك بل ويستحسنه بالضبط كما يستحسنون أفلام الرعب المليئة بالدم وتقطيع الأعضاء رغم أنها تثير التقزّز لدى آخرين.
في الفنّ التشكيلي هناك اتجاه معاصر يسمّى بـ”الوحشية” يتميز بالثورة الصارخة الطاغية في استعمال الألوان القوية الصريحة المتفجرة، بل والمتضاربة المتصارعة، بالإضافة إلى الأشكال المخيفة وعدم الاهتمام بمطابقة الرسم للتشريح أو الشكل الطبيعي وتشبه أعمال أصحاب هذا الاتجاه القبائل آكلة لحوم البشر أثناء التهام ضحاياها.
المثير للاشمئزاز لا يدوم
يرى الفنان حمدي أبوالمعاطي، نقيب التشكيليين المصريين، في رسومات التبغ وغيرها مجرد تجارب من الشباب لا ترتقي للحديث باعتبارها أسلوبًا أو اتجاها فنيًا يتضمن سمات العمل الفني من حيث الاستمرارية، فتلك الأعمال ستغيّر لونها وطبيعة خاماتها بمرور الزمن لأنّ من أساسيات الفن الديمومة.
بورتريه شخصي بمادة التبغ
وقال لـ “العرب” إن “الفن هو قيمة جمالية إذا ابتعد عنها دخل في دائرة أخرى بعيدة عن الفن، وهذا الأمر ينطبق على التشكيل والسينما وغيرهما من الأعمال الإبداعية، واللجوء إلى استخدام الخامات الغريبة وارد على سبيل التجربة وكنوع من التغيير، لكنها غير مرغوب في استمرارها، فليس مطلوبًا من الفنان أن يثير اشمئزاز المتلقي بخامات لها رائحة نفاذة غير جيدة”.
يصرّ الفنانون القدامى على أن الفن التشكيلي تعبير عن الجمال ومخاطبة للروح للتأثير في انفعالاتها، وهذا لا يتحقق في الاتجاهات الجديدة التي يبدو بعضها مقززًا، ويحذّرون من فتح الباب أمام المغالاة في المواد المستخدمة وإلا فسنرى من يرسم مستخدمًا القاذورات والفضلات البشرية.
وقال عادل رازق، الأستاذ بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، إن “الفن في المقام الأول هو إبداع وابتكار يعبر عن شخصية الإنسان، وإن المشكلة الرئيسية في أن الأجيال الجديدة من الفنانين التشكيليين هي ولعهم بالتقليد والنقل من الأعمال الأجنبية. صحيح أن التغيير والتطوير مطلوبان ولا بد من الاستفادة من التقدم العلمي والتكنولوجي، لكن هذا يجب أن يصاحبه تأثر فني يحافظ على النسيج الاجتماعي ودون الابتعاد عن العمل الفني والانغماس في السطحية حتى لا يخرج الفن عن دوره في إبراز الجمال”.
وشدد رازق على أن الأعمال التقنية الدقيقة لا يمكن أن تدخل في الفن التشكيلي لأنها لا تتضمن تعبيًرا عن شخصية الفنان وهذا هو الجوهر والهدف الرئيس للتشكيل، مضيفا أن التحليل الفني لأيّ عمل يتضمّن رصد جميع أبعاده النفسية والمرئية، كاللون الذي يعبّر حال تكراره عن الحالة النفسية للتشكيلي.
وأكد لـ “العرب” أن العمل الفني لا يمكن وصفه بالجميل أو القبيح إلا إذا كان منقولاً، أما العمل الجديد فيتم تقييمه وفقًا لحجم الإبداع والشخصنة فيه، وشدد على أن الكثيرين من فناني الجيل الجديد غير مبدعين بل يكتفون بالنقل وأداؤهم سيء في الأعمال الميدانية ورغم ذلك يتلقون مديحًا عليها.
على عكس هذا، فإن أنصار مدرسة “مابعد الحداثة” يدعون إلى ضرورة التخلي عن الجمال والسعي في الفن إلى التعبير عن الذات باستخدام وسائل تعبيرية وتقنيات حديثة ومتنوعة، مع تجريد الفن من القيم المادية المسيطرة عليه وتحريره من سطوة دور العرض والمتاحف وكذلك من الانطباع البصري للمتلقي.
المشكلة الأساسية التي تواجه الفن التشكيلي في مصر تتمثل في غياب الناقد الفني الدارس الذي لا يكتفي بالانبهار بالعمل الفني فقط، وإنما يحلل جميع جوانبه ومدى اقتباسه وقدرته على التعبير عن شخصية الفنان والإبداع الذي يتضمّنه. وفقا لما نشر بصحيفة العرب.