مهاجرون يوثّقون رحلاتهم بعدسة «المحمول»
الأحد، ٣ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٧ م
قيس قاسم
في العام 2015، دخل إلى ألمانيا وحدها حوالى مليون مهاجر، كانوا بمعظمهم يحملون هواتف نقّالة، فاستطاعوا تسجيل تفاصيل رحلتهم المحفوفة بالأخطار عبر عدساتها. وهذا ما التفت اليه الوثائقي الألماني «رحلة الهروب برفقة الموبايل» (عرضته القناة السويدية)، بحيث اقترح إعادة سرد قصص الهروب كما صورتها كاميراتهم، ولولا بعض الإضافات الجديدة على الخامات الفيلمية المنقولة منها لصُنف الوثائقي التلفزيوني كـ «فيلم موبايل» بامتياز.
وأكدت المقابلات الشخصية- وهي أكثر إسهامة خارجية على المتن الحكائي- حقيقة أنّ المحمول كان من بين أهم ما ضمته عدة سفر المهاجرين في رحلة هروبهم من الحروب والصراعات المسلحة في بلادهم. فمن دونه لا يمكن أن يكمل المهاجر طريقه وسيفقد بطبيعة الحال سبل تواصله مع العالم الخارجي الذي ظل في حاجة اليه واستمد منه العون والمساعدة.
يقابل الوثائقي مجموعة من الشباب السوريين ممن ضاقت بهم السبل واستنفدوا كل إمكانات البقاء في الوطن فقرروا السفر وقرروا أيضاً تسجيل تفاصيل رحلتهم على «الموبايل». يقول عمر السوادي من دير الزور: «شحنت الموبايل وحرصت على أخذ بطاريات إضافية وبطاقات شحن الموبايل لأنني قررت تسجيل رحلة انتقالي من سورية الى ألمانيا عبرها».
يصوّر السوريون رحلات هروبهم بالتفصيل ووفق تسلسلها الزمني؛ أي من لحظة خروجهم مروراً بالحدود التركية وصولاً الى اليونان عبر البحر ومن ثم قطعهم طرق شرق أوروبا سيراً على الأقدام وبمختلف المواصلات وصولاً الى غربها. مشاهد ركوب القوارب هي الأكثر إيلاماً ودراماتيكية، لكنّ الموبايل يفصح عن مشاعر كامنة قلما تنقلها عدسات الآخرين. الانفعالات واضحة في الموبايل وكذلك التعابير، بل إن الصورة المهتزة قد تحمل أحياناً صدقية أكثر من الصورة المحترفة الثابتة.
ومن محاسن ما توفره التلفونات المحمولة إحاطة مشهد الهروب العظيم بإيجاز، فعبر رحلة مجموعة صغيرة من الأفغان والاريتريين يمكننا تصور حجم ما يتعرض له المهاجر من ابتزار وانتهاك جسدي ونفسي فظيعين! مشاهد عبور البحر بين ساحلي تركيا واليونان تكررت كثيراً ونقلت على الشاشات وهذا ما انتبه اليه المصور الصحافي الأفغاني رحمة حيدري، الذي قرر الهروب من «طالبان» بعد تهديدات وصلته بالقتل، فقال: «فكرت في تصوير تفاصيل رحلتي عبر البر وفي الجبال من خلال التلفون المحمول».
مشاهد سيرهم الطويلة لأيام وسط الصحراء والتعب الذي أجبر العديد منهم على التوقف، وفي مراحل أخرى سبّب نقص الماء في موت آخرين جاءت كما هي وخلال دقائق قليلة قالت الكثير عن رحلات لا تقل خطورة عن تلك البحرية وعدد ضحاياها لا يقل عن عدد الغرقى في مياهها الهائجة.
تضيف شهادة صبية هربت هي أيضاً من «طالبان» الذي يقوم بتهديد كل تلميذة تذهب الى المدارس الحكومية بالقتل، الى سجل الهروب العظيم فصلاً جديداً من الإذلال والتهديد الجسدي من جانب المهربين وحرس الحدود للمرأة المهاجرة. سوية مع المصور رحمة صعدوا الجبال العالية الفاصلة بين الحدود التركية -الإيرانية ورأوا الموت بأم أعينهم، فحرس الحدود يطلق النار عليهم وضيق ممرات الجبال تزيد من فكرة الموت سقوطاً في الوديان العميقة.
عدسات كاميرات موبايلات الارتريين فضحت الأهوال التي يتعرض لها المهاجر في رحلته البرية الطويلة التي يقطع خلالها أراضي بلدان عدة، ليصل الى صحراء السودان ومنها الى ليبيا ومن هناك يركبون البحر. مشهد مهاجمة قطاعي طرق لقافلتهم مؤلم. جردوهم من القليل الذي عندهم وتركوهم عرضة للموت عطشاً ولولا إخفاء شاب ارتري تلفونه عن عيونهم لما عرفنا حقيقة المهانات والمخاطر التي يتعرضون اليها، وسيزيد اليها البحر من عنده حين يركبونه وقد فقدوا كل شيء إلا التلفونات المحمولة التي ظلّت وسيلة تواصلهم الوحيدة مع أهلهم.
يقاطع الوثائقي مصائر المجموعات المهاجرة من كل صوب نحو أوروبا ويجد في ما سجلوه على تلفوناتهم ما يكفي لسرد فصول من رحلات هروب مختلفة الوجهات ومشتركة المعاناة. بشاعات ما تعرضوا اليه يكفي لصنع عشرات بل مئات الأفلام عنها، ومع ذلك استعان الوثائقي بالمقابلات الشخصية وبالرسوم الخاصة لبعض مراحل عبورهم من بحر الى بحر أو من صحراء الى يابسة ليأتي مقنعاً شديد الصدقية أضفت اليه صور الموبايل جمالاً خاصاً. بل أعادت النقاش «النظري» حول الحدود «الفاصلة» بين الفيلم السينمائي التقليدي والآخر المعتمد على وسائل تقنية جديدة تقدم خامات لا يمكن إبعاد صفة «الفيلمية» عنه، ما دام انه يسرد بصرياً تجارب وقصص تغني التجربة الانسانية كما جاء في ختام الوثائقي الألماني وأضاف اليه أرقاماً وإحصاءات عن عدد المهاجرين المفقودين خلال رحلات العذاب ليعزز من طابعه الوثائقي الصرف ويعزز ما أخذه المهاجر بنفسه من مشاهد ولقطات.