قد تكون الديمقراطية مطلباً تنشده الشعوب، وبحسب كثيرين هي أفضل طرق الإدارة والحكم، لكن لا تستغرب إن عرفتَ أنها غير مطلوبة في قطاع الأعمال، بل إن أبرز الأعمال الناجحة قادها دكتاتوريون!
“الاتحاد السوفيتي الذي تركته كان ديكتاتورياً لكن مكان العمل كان ديمقراطياً؛ قد تكون الولايات المتحدة حرة لكن مكان العمل دكتاتوري” كانت هذه كلمات لين إيرليخ عندما وظف في بنك “فيرست بوسطن” العام 1986، كونه يهودياً هرب من الاضطهاد الديني الممارس من قبل الاتحاد السوفيتي.
وبقيت كلمات إيرليخ دائماً عالقة في الذهن لوقت طويل؛ فالأمر صحيح، ففي الدول الرأسمالية تكون أماكن العمل استبدادية؛ إذ عليك أن تنفذ فقط ما يطلب منك ولا تملك أي حق في التعبير عن رأيك حول استراتيجيات الشركة وطريقة تنفيذها لعملياتها، وهو على النقيض من الهيئات التعاونية السوفيتية التي كانت تسمح بمشاركة العمال بنسبة كبيرة، وربما يكون هذا سبب فشلها.
فقيادة الأعمال التجارية ليست مسابقة حول من يحصل على أعلى شعبية؛ فأحسن الشركات تدار من قبل دكتاتوريين لكنهم مثقفون.
ويتوجب على المدراء التنفيذيين الاستماع بعناية فائقة لموظفيهم، لكنهم مجبرون على تنفيذ ما يصب في مصلحة الشركة والموظفين والمساهمين، وعليهم كذلك اتخاذ قرارات هامة وتحمل المسؤولية عند حدوث الأخطاء، فهم يتوقعون أنه عند اتخاذ القرار يتوجب على الجميع الالتزام به، سواء أكان القرار سيئاً أم جيدا، وأفضل القادة يقومون بمشاركة الفضل عند تحقيق النجاحات ويتحملون كل اللوم عندما تسوء الأمور.
بينما الدكتاتورية لا تبدو أمراً لطيفاً لكنها ما تتطلبه قيادة الأعمال التجارية؛ فالناس يحبون اتباع قادة أقوياء، فهم يرغبون بأن يقودهم أشخاص أصحاب رؤية وقناعة وقيم جيدة، قد لا يتفقون مع كل قرارات قائدهم، لكن طالما لا يتم تجاوز الحدود الأخلاقية فسيتبع الموظفون التعليمات، ويعملون بجد، ويكونون مخلصين.
إليك أمثلة، استعرضتها صحيفة “واشنطن بوست”، لبعض أنجح قادة الأعمال التجارية لكن تذكر لا تستغرب أنهم دكتاتوريون:
* كان والت ديزني يطلب من موظفيه الإدلاء بآرائهم من خلال الدراسات الاستقصائية ثم يقوم بعدها بتطبيق رغباته. وعندما كان الموظفون لا يقومون بمهماتهم يتم طردهم على الفور.
وكانت لديه رؤية واضحة، وكان محكماً وأخلاقياً، وذا متطلبات كثيرة، لكن ديزني أصبح في نهاية المطاف استبدادياً بشكل مفرط وفقد صِلته بما جعله ناجحاً في البداية. لكن بالرغم من ذلك، لامس ديزني قلوب وعقول مليارات الأشخاص حول العالم وخلق إحدى أكبر الشركات في وقته .
* عرف هنري فورد على أنه قائد صلب يتدخل في جميع القرارات الأساسية، كان يطلب الكثير من موظفيه لدرجة أنه كان يراقب أنشطتهم خارج أوقات الدوام؛ لكنه بالرغم من ذلك كان صاحب رؤية حازمة.
تحدى فورد مستثمريه عندما طالبوه بصنع سيارة خاصة بالأثرياء، قام برفع متوسط الأجور بمقدار 5 دولارات في اليوم مع تقليل ساعات الدوام إلى 8 ساعات فقط، انتهى به المطاف إلى إحداث ثورة في عالم وسائل النقل، ووضع معايير جديدة لسوق العمل.
* كان ستيف جوبز يحكم بقبضة من حديد ويطالب موظفيه بالسرية المطلقة والولاء، كان مغروراً ومتقلب المزاج، لكن مع ذلك، كان جوبز يملك رؤية رائعة وعزيمة لا تلين وفهما غريبا لما يرغب به المستهلكون، وقام بإنشاء أكثر الشركات قيمة في العالم ووضع معايير جديدة للتصميم التكنولوجي.
* أعظم مبتكر في عالم التكنولوجيا اليوم، إيلون مسك، هو شخص غير مثالي بشكل كبير، يطالب بأمور متطرفة ويحدد مواعيد نهائية غير واقعية لموظفيه أمام الجمهور. بيد أنه وحده يقوم بتغيير العديد من الصناعات، من ضمنها الفضاء والطاقة والنقل.
لكن القيادة الاستبدادية تنجح فقط حتى تبدأ بالفشل، عندها تسوء الأوضاع؛ وتنهار شركات بأكملها، غالباً ما يصبح المدراء التنفيذيون الاستبداديون في مأزق عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات؛ لأن جميع القرارات يجب أن تحصل على موافقة منهم، وهم يقودون بالنتيجة إلى توقف الموظفين عن المجازفة بسبب الخوف من اتخاذ القرارات الخاطئة. عندها يبدأ هؤلاء المدراء التنفيذيون بالشعور بالضغط الذي وضعوه على عاتقهم ثم يفقدان الاتصال بما جعلهم ناجحين؛ فإذا ألقيت نظرة على أي من الشركات المنحلة التي كانت تشكل علامات تجارية معروفة، ستجد أنهم كان يترأسهم مستبدون مضللون.
يجب أن يكون هناك توازن بين القيادة القوية، والحكم الذاتي، وتمكين الموظفين، ويتوجب على القادة التنحي جانباً عند بلوغهم الذروة. وكان ذلك تماماً ما فعله جون شامبرز، المدير التنفيذي لشركة “سيستو سيستمز” في السنة الماضية. وهو أيضاً كان استبدادياً وصرح لصحيفة “نيويورك تايمز”: “أنا شخص أحب القيادة والتحكم. أحب أن أكون قادراً على أن آمر بالانعطاف نحو اليمين، ثم يقوم 67 ألف شخص حقاً بالانعطاف لليمين.”
أدرك شامبرز أن التكنولوجيا سمحت للقادة أمثاله الحكم بطريقة أفضل، بمزيد من التعاون والعمل الجماعي؛ إذ قال في العام 2009: ” لو أخبرت في السابق أنني سأكون أسجل الفيديوهات على المدونات باستمرار لقلت إن ذلك مستحيل، لكن الموظفين في العشرينات من عمرهم دفعوني لاستخدامه أكثر.”
دكتاتوريون ملهمون محفزون
وظيفة المدير اليوم هي القيادة ووضع الأهداف والإلهام والتحفيز والتمكين، يجب على المدراء التنفيذيين التسهيل بدلاً من التحكم، كما عليهم الاستماع أكثر لموظفيهم والتواصل معهم، فمع التكنولوجيا المتوافرة اليوم، أصبح بإمكانهم الحصول على مدخلات من جميع أجزاء الشركة وشرح القرارات التي لم تحظَ بشعبية. فأصبح بإمكان الشركات إشراك الجميع في حل المشكلات من خلال البريد الإلكتروني، ووسائل التواصل الاجتماعي الداخلي، وتبادل الأفكار.
يمكن أن يتم إشراك الموظفين في القرارات الصغيرة والكبيرة. ففي شباط / فبراير أخذت شركة “آي بي إم” للمعالجات الإلكترونية قراراً هاماً لإصلاح نظام تقييم الأداء العالمي، من خلال إشراك الجميع في إيجاد الحل.
قامت الشركة بشرح علل النظام القديم لموظفيها البالغ عددهم 380 ألف موظف موزعين على 170 دولة باستخدام نظام التواصل الاجتماعي الداخلي للشركة، ثم طلبت منهم اقتراح حلول، وبناءً على التعليقات الـ2000 التي حصلت عليها، أنهت شركة “آي بي إم” نظام التقييم السنوي واستبدلته بنظام يركز على الأهداف قصيرة المدى والمراجعات ربع السنوية.
هذه من أشكال التغييرات الهيكلية التي نحتاجها في هذا العصر الذي يمتاز بالتكنولوجيات العظيمة، إذ تعدّ فيه السنة وقتا طويلا جداً، والتغير في الإستراتيجيات أصبح ضرورياً كل بضعة أشهر.
بإمكان القادة أن يكونوا دكتاتوريين، وفي نفس الوقت هم ملهمون ومحفزون فقط إذا استمعوا وتواصلوا بشكل فعّال مع الموظفين، وبالتأكيد بشكل صادق. وللنجاة من الاضطرابات التي ستسببها التكنولوجيات في الصناعات العملية، ستحتاج الشركات لقادة دكتاتوريين مثقفين أصحاب ضمير حي.