تمت إضافة 2 صورتين جديدتين بواسطة Saad Alkassem.
طابت الذكرى فمن راجع بي
سعد القاسم
حضرت دورة معرض دمشق الدولي في سنة افتتاحه، وليس في ذاكرتي أي صورة منها، ليس لبعد الزمان الذي بلغ اليوم ثلاثاً وستين سنة، وإنما لأن عمري يومذاك لم يكن يتعدى السنة إلا ببضعة أشهر.و كان جدي – السلام لروحه- مازال فرحاً بقدومي كأول حفيد له،فصار اصطحابه لي إلى المعرض شكلاً من التعبير عن بهجته، بالحدثين معاً، ولو اضطره ذلك أن يحملني بين يديه ساعات مديدة ضارباً عرض الحائط باعتراضات (نساء العيلة) اللاتي لم تستسغن خروج ابن عمهن عن المظهر التقليدي، الرصين إلى حد التجهم، لوزير مرموق. وبعد سنوات طويلة حين علمت بالواقعة، صار للمعرض نكهة خاصة في نفسي ما زالت ترافقني حتى اليوم، وقد عززتها عشرات الصور التي بدأت تتراكم بحضور أبدي منذ بدأت تجذب عينا الطفولة الفضولية الصور المدهشة الخاصة حصراً بمعرض دمشق الدولي.
أحتار اليوم عن أي من هذه الصور المتدافعة من أعماق الذاكرة أحكي: عن نوافير الماء المتتالية على امتداد (بردى) الملاصق لمدينة المعرض من بابها الشرقي بجوار المتحف الحربي، إلى بابها الغربي على تخوم ساحة الأمويين، وبرفقتها بضع نوافير وشلالات في الحدائق والساحات، يندفع منها الماء بحيوية مفرحة تتضاعف بهجةً مع حلول المساء حين تسبغ عليها الأضواء الملونة حالة احتفالية يستكملها صوت فيروز المتدفق من مكبرات الصوت العمودية الخضراء الرشيقة الموزعة في أرجاء المكان، فتخلق باجتماعها مع ألوان الأعلام الخفاقة والزهور والأشجار الوفيرة ورذاذ الماء المنعش المتطاير في الهواء تلك الخصوصية المبهجة لأواخر صيف دمشق؟
أم عن منحوتات شيخ النحاتين السوريين (سعيد مخلوف) المتناثرة في أرجاء المعرض تسبغ على الاحتفال البصري لمسة إبداعية رفيعة، أم عن قطار المعرض المكشوف الذي ينساب بين جموع الزوار كثعبان لطيف ملون قادم من حكايات الأطفال، حاملاً معه أصوات ضحكاتهم البريئة الفرحة؟
أم عن النصب التذكاري للمعرض يرتفع في ساحة الأمويين رشيقاً شاهقاً معبراً عن النهضة الصناعية بإنجازات العمارة المعاصرة ومحتضناً على واجهتيه الزجاجيتين الملونتين المضاءتين أعلام الدول المشاركة في المعرض، قبل أن تطلق عليه الرواية الشعبية اسم (السيف الدمشقي) حين رأت أنه حال بين طائرات العدو المغيرة على دمشق في حرب تشرين، وبين تحقيق غايتها، ليتحول من رمز للمعرض إلى رمز للمدينة كلها؟
أم عن أجنحة الدول المشاركة تتنافس في عرض الأحدث والأكثر إدهاشاً بين منتجاتها، ويتسابق الأطفال للحصول على (دعاياتها) الأنيقة الملونة، فيما الكبار يتأملون باهتمام ومتعة المعروضات جميعاً من أصغرها حجماً حتى الآليات والمعدات العملاقة وصولاً إلى مركبات الفضاء والأقمار الصناعية؟
أم عن (سوق البيع) حلم الأطفال حيث السلع الصينية الجميلة الملونة غاية للجميع من حزم أقلام الرصاص إلى الثياب الجميلة إلى مظلات الشمس الصغيرة، لا تنافسها إلا المنتجات الغذائية السورية التي تباع بأسعار مخفضة بمناسبة هذا المهرجان، مثلها مثل المصنوعات اليدوية التي يبرع الحرفيون السوريين في صنعها أمام عيون زوار المعرض المندهشة والمستمتعة؟
أم عن مقصف المعرض الشهير فوق سطح (سوق البيع) حيث يحرص كثيرون على تناول كنافة (أباظة) النابلسية – الدمشقية الشهيرة، بما فيهم بعض الأطفال الذين فضلوها عن البوظة اللذيذة؟
أم عن مسرح المعرض، ومهرجانه الفني الشهير تتوجه فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية، وتزينه أصوات عمالقة الغناء العربي، والفرق الفنية الساحرة القادمة من أرجاء العالم.
معرض دمشق هو موسم للمدينة بكل معنى الكلمة، و كان كذلك بالنسبة لعائلتي الصغيرة حيث يزدحم بيتنا، على اتساعه، بالأقارب القادمين من لبنان والأردن والضفة الفلسطينية (قبل احتلالها) إلى حد اضطرار أبي وعمي إلى اللجوء المؤقت في بيت خالهما، وهو طقس سنوي لم يتبدل حتى في سنة حرب حزيران حيث قام الفنانون بمبادرة من (دريد لحام) و(عمر حجو) بإنشاء مقهى الفنانين الذين تطوع الكثير منهم لخدمة الزبائن فيه، وكان الريع لصالح المجهود الحربي. أما بعد حرب تشرين فقد تحولت الساحة المجاورة للمدخل الغربي، والتي تشغلها (دار الأوبرا) اليوم إلى متحف مكشوف لغنائم جيشنا البطل في هذه الحرب الخالدة.
في الحروب التي شنت من الخارج لم يتوقف المعرض، وتوقف فقط عندما أصبح العدو في الداخل. واليوم، حين أرى الجموع الهائلة تتجه نحو المعرض، متحدية إجرام القتلة، أحس أن البهجة التي غمرت جدي حين تجول في المعرض الأول قد ولدت من جديد.
*نشرت في ملحق (الثورة) اليومي الخاص بمعرض دمشق الدولي
________________________
– الصورة الأولى مع شقيقتي فدوى فوق دبابة إسرائيلية غنمها جيشنا في الحرب عرضت مع مجموعة غنائم في جناح حرب تشرين التحريرية الذي أقيم عام 1974 في الساحة التالية للمدخل الغربي للمعرض التي تشغلها اليوم دار الأوبرا.
– الصورة الثانية صورة مزدوجة تسبب بها خطا ميكانيكي في آلة التصوير التي لم تحرك الفيلم ففتحت العدسة مرتين على نفس الكادر، التقطت الصورتان بفارق دقائق في الجناح ذاته، وأظهر في إحداها مع النصب التذكاري للمعرض وبوابة المدخل وصارخ سام 6 كان ضمن المعروضات، ويظهر في الصورة الأكثر شفافية الصديق غسان جركس أمام راجمة صواريخ.