الفنانة فيرا تماري
الفنانة التشكيلية الفلسطينية “فيرا تمارى” من مواليد مدينة القدس عام 1945، تلقت تعليمها الأكاديمي في ميادين الفنون الجميلة التشكيلية والتطبيقية في بداية رحلتها الفنية والنضالية بوسائط الفن، في كلية الفنون الجميلة للبنات بمدينة بيروت اللبنانية ما بين أعوام 1962-1966، واستكملت مناهل صقل مواهبها المنحازة لفن الخزف في مدينة فلورنسا الإيطالية ما بين 1972-1973، فضلاً عن خضوعها لدورات مكثفة في بريطانيا واليابان.
تابعت مسيرة بحثها الأكاديمية العليا بجامعة أكسفورد البريطانية، متخرجة من قسم الدراسات والفنون الإسلامية، وحصولها على ماجستير فلسفة الفن والعمارة الإسلامية عام 1984. تعيش الآن في مدينة رام الله، وتُدير محترفاً خاصاً بفنون الخزف في منطقة البيرة بفلسطين، وتشغل موقع أستاذة لمواد تاريخ الفن والعمارة الإسلامية بجامعة بير زيت الفلسطينية. أقامت مجموعة من المعارض الشخصية في مدينتي القدس ورام الله ما بين 1974-1981، ولها مشاركات عديدة في المعارض الجماعية داخل فلسطين وخارجها، سواء أكانت في الوطن العربي والدول الأعجمية، شاركت بتأليف كتاب “البيت الفلسطيني” الذي صدر عن منشورات المتحف البريطاني في لندن.
لقد زاولت جميع الأعمال الفنية التعبيرية من رسم وتصوير وسواها من تقنيات العصر المعلوماتية من غرافيك دزاين والتركيبية والمتحركة المرئية والسمعية، مُنحازة لخيارها التقني والأكاديمي المتجلي بفن الخزف وتقنياته المتعددة. تُعد الفنانة “تمارى” -إن لم نقل الوحيدة في ميدانها “فن الخزف” في مجتمعنا الفلسطيني- بل هي الأبرز والأكثر جودة ومهارة من حيث إتقان الصنعة، وممارسة فنيات الحرفة التقنية منذ تشكيل الخامة الأولية من طين وصلصال وتدوير على الدولاب، وقولبة وتدخين في أفران خاصة بالخزف، ووضع ملوناته شديدة الخصوصية، وصولاً إلى مقاماته النظرية والثقافية والفكرية وما يحتوي من جماليات ونفعيات شكل وتوظيف محتوى، وتقديمه كولائم بصرية مقاومة في سياقه التشكيلي الفني الجمالي والإنساني بعيداً عن الحرفة التقليدية الخالصة.
لقد أخرجت فن الخزف من دائرة الحرفة المهنية النمطية انتقالاً مُحبباً إلى ميدان الفن التشكيلي، ومن دائرة النفعية الجمالية، إلى بوتقة الوعي الحسي والثوري والنضالي والإنساني الملتزم بالقضية الفلسطينية. وغدا فنها تعبير عن القرية والريف والمدن الفلسطينية العامرة بالحياة، وبالإنسان الفلسطيني المكافح من أجل وجوده الحر الكريم على تراب وطنه، ضمنتها بوسائط سرد بصري مادي ورمزي وبتعبيرية وصفية تليق بمقام القضية ونضال الشعب الفلسطيني، والمساهمة في ولادة فن خزفي متحرك في فضاء القضية بفاعلية وآثر، والتدثر بملامح تعبيرية إنسانية الوقع والصدى والتأثير في النفوس والأعين والعقول المبصرة.
فنونها الخزفية، هي فنون مقاومة بحدود أشكالها التعبيرية، وطاقته الطين التقنية ومقدرتها التشكيل والتوصيل. فن خارج من أنفاس الأرض والتربة الفلسطينية، صلصال مقاوم وملتزم في مكوناته، وتشكيلاته الفنية ورمزية الوصفية والدلالية بالقضية الفلسطينية من أوسع أبواب التعبير. وأمست الخزفيات في حضرة محترفها ويديها المبتكرتين وذاكرتها البصرية الجامعة والحافظة، والموصولة بتجليات الوطن والأرض الفلسطينية، هي السمة الغالبة والأكثر تميزاً ووجوداً في عموم أعمالها الفنية التشكيلية، وهي بمثابة أسلحة ثقافية وفكرية وجمالية توظفها في مقارعة العدو الصهيوني.
خزفيات متناسلة من خضار الأرض الفلسطينية وتربتها الندية الطهور، المحملة بالتاريخ الحضاري الدالة على جميع مكونات الوجود الإنساني للشعب الفلسطيني فوق أرضه منذ غابر الأزمان، ودحض مادي وعلمي للرواية الصهيونية وأساطيرها العدوانية، وحتى اللحظة الحياتية المعاشة في وقتنا الحاضر. فن يتحدى فلول الاغتصاب الصهيونية العابرة فوق أرضنا والآيلة إلى زوال، بما تحمله مضامين الخزفيات من معاني ورموز متوارية خلف تفاصيلها الشكلية ونصوصها البصرية المسرودة هنا وهناك. يتجلى فيها أنفاس كفاحية وروح إنسانية متفاعلة مع شجون الطبيعة الفلسطينية، ومآثرها التاريخية وأوابدها وبيوتها وأماكن العبادة فيها المسيحية والإسلامية، والعامرة بناسها الطيبين الذين ليس لهم خيار إلا الصمود والتمسك بالأرض وبخيار المقاومة بأشكاله النضالية المتاحة.
فن الخزف بالنسبة إليها هو بمثابة رسالة ثقافية وتحريضية ومنشور شخصي تُعبر من خلاله على كينونتها، ومكانتها كفلسطينية ملتزمة بيانها السردي بوسائط الفن، وموقفها من ساحة الصراع العربي الصهيوني، ودورها كفنانة تمتلك أسلحة قتالية من نوع جديد، ومن هذا المنطلق يأخذ الخزف لديها مشروعيته الفنية التشكيلية، كجزء لا يتجزأ من الفنون الجميلة التشكيلية، وليس باعتباره فناً تطبيقياً وحسب، وما الصلصال المفخور والمدخن لديها مشغول وفق قوالب فكرية وجمالية مصاحبة لمقاماته الوصفية، المنحازة لمناطق وعيها النضالي والإنساني بالقضية الفلسطينية كواحدة من جنوده المقاومين.
في بداية الرحلة كانت الأعمال ذات طبيعة مهنية، متصلة في سياقها النفعي والجمالي، ثم ما لبثت أن لبستها القضية الفلسطينية وامتلكت حواسها ومناطق وعيها فيها، وكان للإنسان الفلسطيني المهموم والمتعب في وجوهه التعبيرية المكفهرة والقلقة، والمتناسبة ومراحل الحزن والأسى والحنين وفقدان الوطن عقب نكبة فلسطين الكبرى عام 1948، متسعاً لواحة تعبير، باعتبارها لازمة وصفية مواكبة لمرحلة اللجوء والنزوح، ويوميات الحزن الفلسطيني المقيم.
ولكنها بعد بزوغ الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، والمتجاوزة أيضاً لهزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران عام 1967، كرد عملي عن الهزيمة وإزالة أثار العدوان. أصبح المشهد البصري التشكيلي في أعمالها أكثر قرباً من واحة المقاومة وما يحتله المخيم والفدائي من موقع نضالي متقدم في مواجهة آلة العدوان الصهيوني، والتغني بالتراث الشعبي الفلسطيني وذكريات الأهل والأحبة، المحمولة بتجليات الأسطورة وترجمات الواقع المحفوف بالأمل والتحرير والعودة.
وتجلت المدائن الفلسطينية ومدينة القدس كبيت المقدس بأكنافها المترامية الأطراف، بمثابة المجال الحيوي لتوصيف فكرتها التعبيرية، عبر لوحات خزفية جدارية، محكومة بتداعيات الأمل الساكن في القلوب والنفوس والعيون والعقول، وترجمة حسيّة عاطفية وانفعالية من قبل الفنانة التي ترى الحقائق بعين فنانة أكثر تفاؤلاً وإشراقاً، وفي مكونات شكلية ومعالجات تقنية أكثر بساطة شكلية في محددات محتواها الرمزي والجمالي، وبما تحفل من ملونات وأصبغه خاصة عاكسة للطبيعة الفلسطينية، وحاملة لخاصية الطين والملونات المدخنة في ثنايا مفردات عناصرها الموصوفة.