الفنان اكسم طلاع

الفنان التشكيلي الفلسطيني السوري “أكسم طلاّع” المولود في قرية “شكوم” في “الجولان” المحتل عام 1963، سليل أسرة عشقت الفنون الجميلة الموسيقية والتشكيلية، وعاشت في متنها كهواة سابحين في بحورها الجمالية، عبر ترجمات حسيّة وانفعالية ذاتية حيناً، ومحمولة بالأنا الجمعية المجتمعية حيناً آخر. السابحة في تجليات ذاكرة المكان السورية الطبيعية والحلم الفلسطيني بالعودة، فتراب الأرض التي عاش في رحابها طفلاً هي دفتره الأول والأخير، والمخاض السردي لمداعباته اليدوية الأولى، والشهداء في رمزيتهم المتوارين في تجريديات مركباته الخطيّة والتشكيلية. هم محطته الثانية المتقدمة في مناحي وعيه بالأماكن والأشياء والشخوص، وأول من دفعه لإتقان مهارات الخط العربي في سياقاته التقليدية، ونقلته من واحة الهواية إلى الحرفة المهنية.

عايش والداه رحاب سهول مدينة طبريا الغناء، الذين خبروا مسيرة الآلام الفلسطينية والسورية في هجراتها القهرية المتعددة. الأولى عقب نكبة فلسطين الكبرى عام 1948 كلاجئين مُشردين، والثانية في يوميات النزوح عقب حرب حزيران 1967. فكانوا على موعد مع خيام البؤس والتشرد، وظاهرة المخيمات صانعة الرجال، المعجونة بالماسي ودماء الشهداء والفقراء، ليستقر به المطاف في مدينة دمشق، متعلماً في مدارسها وحاملاً في ضلوعه مواهب عديدة، وذكريات دفينة حول جماليات الطبيعة السورية المكحلة بأشعة الشمس الذهبية، وملامح الخيرات الوفيرة في مخيلة طفل سابح في مواسم الحصاد وغلال الأرض الطيبة. التي صبغته طفلاً برحيقها البصري، وأدخلته خيام النزوح وهو في سن مٌبكرة، إلى مجرة الأحزان المشبعة بقصص الألم والتشرد والمرارة، لتنتقل أحاسيس فطرية متمردة في مضامين لوحاته وتقنياته. منسقة في ذاكرته كتهويمات صور وظلال لأحلام سعيدة قليلة وأحزان مؤلمة كثيرة.

فكانت جميع ذكرياته الظاهرة والمتخفية في لوحاته، تجسد هذا التناغم البصري لسجلاته الشخصية الحافلة بالمشاهد الصوفية، المشبعة بحزن اللون وحرية انسيابه وتداعياته، كمحرضات أساسية في تجلياته الفنية. ولتكتمل دورة ابتكاره من حيث لا يدري، أو يدري بنقل الخط العربي من باب الهواية إلى موجبات الضرورة الحياتية المهنية. ومواكبة طبيعية لخطوطه المكتوبة على قماش اليافطات وصور الشهداء الذين قضوا منارات في معركة الوجود مع الكيان الصهيوني، أولئك المُشيعين إلى مقابر الشهداء في المخيمات الفلسطينية واليرموك خصوصاً، من فدائيين عابرين حدود الوطن في فلسطين المغتصبة والجولان السليب، جعلت منه الخطاط الأكثر كتابة وبراعة في ابتكار أنماط خطوط وتقنيات كتابة تدون تلك المآثر.

إتقانه المشهود في كتابة جميع أنواع الخطوط العربية المتداولة. مكنته من العمل كمهني متخصص في الصحافة السورية المكتوبة، كخطاط ورسام ومصمم غرافيكي لأغلفة وكتب ومطبوعات متنوعة. هو عضو في اتحادي الفنانين التشكيليين والصحفيين السوريين، شارك في المعارض السنوية للفنانين الصحفيين بدمشق من عام 2000 لغاية 2007، ومهرجان “دمشق” للثقافة والتراث 2005، والمعارض الجماعية في “تدمر” عام 2009، ملتقى “القدس” الدولي بدمشق 2009، ملتقى “الشارقة” وورشة عمل 2010، خريف “فري هاند” في “دمشق” عام 2010، الفنون الإسلامية في “بكين” عام 2010، “طهران” الدولي عام 2010، تجارب حروفية “دمشق” عام 2010، السنوي لوزارة الثقافة السورية عدة دورات. حصل على شهادة تقدير من “بينالي الشارقة” عام 2008، وشهادة تقدير ملتقى “الدالية” الدولي 2008 أيضاً، وجائزة “البردة” 2011 في “أبو ظبي”.

جودته في كتابة الخطوط العربية، وموهبته المفتوحة على التعلم المستدام والجلد والمثابرة، والمعايشة الثقافية لأقرانه وزملائه في أماكن عمله المتعددة، والتفاعل الفني التشكيلي مع أخوته وزوجته، وخاله الفنان الفلسطيني”محمد الوهيبي” الأكثر تميزاً في ميدانه. وتشجيعهم جعله أكثر انفتاحاً وتألقاً في ميادين حروفية الأرابيسك، أي “التشكيل الحروفي”. مغادراً بطبيعة الحال سربي الخط العربي التقليدي من ناحية، واللوحة الفنية التشكيلية التصويرية النمطية من ناحية ثانية، ليستنبط لذاته الفنية طريقاً فنياً ثالثاً، يجمع فيه خاصية الرسم والتلوين وجودة الكتابة في لوحة بانورامية جامعة، عنوانها التجريد ورومانسية الفكرة، وصوفية البحث البصري ما بين مؤتلفات الخط واللون والحركية ومداعبة التقنيات للمساحات المرصوفة.

يُفرغ في سطوح خاماته المتنوعة، شحناته وأحاسيسه ومطالعاته القرائية المستعارة من متن الكتب والنصوص البصرية، متعددة الخصائص والسمات، يجمعها في بوتقة صنائع مبتكرة، تستدعي العزف البصري كخلاصة تصويرية، راقصة على أنغام التجلي الذهني وصوفيته، وسردية كتابة تولي الحرف العربي بكل زخرفه وأناقته الشكلية ومدلوله الرمزية الأهمية القصوى. ولتشكل خلفياته التجريدية لملونات صوفية بطبيعتها الحسيّة، المنفتحة على جميع التجليات الصوّرية لفنان امتلك ناصية نصه التشكيلي، وطوّع أدواته وأحباره بشكل متمايز وغير مسبوق في ميدانه. مؤسساً لذاته الفنية خصوصية تأليف وتفرد رصف شكلي ولوني، وكتابة سردية سابحة في حدائق الأسطورة الحسيّة لمكونات عناصرها ومفرداتها الموصوفة داخل أسوار كل لوحة من لوحاته.

اللوحة لدية محكومة ببنية تشكيلية هندسية رصينة، عمارتها الوصفية ترنو بلوغ جمالية متوازنة الحروف، ومتداخلة الملونات وتدريجاته في لحمة شكلية متناسقة، كل جملة متواضعة في مكانها الصحيح في أروقة بنيانه النصي، ومُحاطة بهالة لونية آسرة كخلفيات متجانسة. يُشكل خط الثلث في تجلياته السحرية المجال الحيوي لتأليف معالم الصورة المرئية وإحالاتها الرمزية، محكوم بإضافات حركية تُقربه من مساحة الجدة والجودة غير المسبوقة في الصياغة، والحبكة التقنية المغموسة بأدوات الرسم والكتابة، والمتداعية بأناقة يده الماهرة التي تُحسن وظيفتها الجمالية المسرودة فوق سطوح الخامة. ولتشكل الخطوط المتوالية رصفاً في أبعاد ومساحات كل لوحة من لوحاته بحسبة هندسية وتقنية مناسبة، محققة لخصائص الفن العربي الإسلامي، وزخارفه الحيوانية والنباتية والهندسي على وجه التخصيص. لتصنع من انتشارها المدروس في ثنايا اللوحات حكاية صوفية من نوع فني جديد.

لوحاته مصحوبة بمسحة جرافيكية متناغمة ما بين كتلة الخطوط والأحرف العربية والمساحات المتوالدة في وسط ومقدمة اللوحات، والمتوازية مع نظيرتها المتداعية في خلفيات اللوحة، في ملونات أحادية متدرجة تفضي بك كمتلق إلى عالم أسطوري مشبع بالأحاجي والألغاز. وتارة أُخرى يجوب بك في مناهل ابتكاره لتُعمل بصرك وبصيرتك تأملاً وتحليلاً ومتعة في فهم معاني النص المكتوب، وتجد نفسك على حين غرة مأخوذاً بسحر الحالة التشكيلية، وجودة هندسة عمارته الوصفية، والحاضنة لأحرفه الملونة التي تجعل لحسبة الخلفيات الملونة، وعراكها الشكلي المتفاعل من النصوص لحمة جغرافية واحدة لعالم صوفي.

ملتزمة إيقاعات الحروف ومقاييس النقطة، وتوازن المقامات الشكلية المرصوفة داخل الخلفيات الملونة. ترسم معالم وحدتها العضوية الشكلية، تقابلاً وتوازياً ومشروعية التأليف والحركة اللولبية المتداخلة فوق السطوح، مفردات وعناصر شكلية مؤتلفة، وتقنيات لونية منتقاة بعناية، مُقصية الاتجاهات التعبيرية الواقعية، ولا مكان فيها لرموز الطبيعة والإنسان في أوصافها الشكلية التقليدية المعروفة. بل وجود الإنسان فيها رمزي، ويدخل في مجاز الوصف، جاثم أمام اللوحة وليس في داخلها، تشده الخطوط والملونات إلى أسرار لعبته الشكلية فراسة وتأملاً وبحثاً عن مقولة ما، ومحاولة طموحة لكشف ما يكتنفها من غموض، وما يطوقها من إحالات رمزية وتورية، وتدفعه للبحث الطوعي في ثنايا الأحرف والكلمات المسطرة.

لوحاته جميعها محكومة بحركية مرئية، تفسح المجال لرقص الحرف فوق منصة مسرحها الوصفي، قاعدتها الأساسية متكئة على تكرار الأحرف بأنساق جمالية متوازية حيناً، ومتداخلة حيناً آخر، وتسبح في طيات مؤثراتها اللونية المكشوفة على دائرة الألوان الخمسة الرئيسة، والألوان الأساسية، لاسيما الأصفر الذهبي في تواشيحه المحلقة في واحة الجمال المتحرك بصوفية الأزرق وتجليات الحرف واللون. وهي أشبه بقصص قائمة بأبعادها الشكلية وبرودة وحرارة ملوناتها المتداعية فوق مسرحها اللوني التجريدي في الكتل الرئيسة والخلفيات، وبرشاقة يده المرنة في التوليف التقني لمداد الحرف والكلمات، في حركة سردية محسوبة ومتواترة القسمات. وكأنك تسبر أمواج رؤاه الجمالية ومقولته الفنية، وتقودك طائعاً إلى مناطق لعبته ومسارح أسراره، ومشابك قدراته الذاتية كخطاط مميز ورسام وملون مميز أيضاً.
ــــــــــــــــــــــــ

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.