محمد شراب
محمد محمد حسن شُرّاب
التقيته بعد نحو عام 2004 م وقد قارب السبعين من عمره إذ هو من مواليد عام 1938م في خان يونس في جنوب قطاع غزة قريباً من ساحل البحر المتوسط ، ومن عائلة خانيونسية عريقة وشهيرة هناك ، إلا أنه كان يردد القول بأنه من الجهة الفقيرة من هذه العائلة ، وهو معروف بين أبناء جيله هناك بابن بحريّة ، ويبدو أنها جدته أو أمه .
تعلمّ في خانيونس تعليماً عاماً وتأثر بالشيخ سليم سالم شراب خريج الأزهر في صرامته وشدته واعتنائه بالعلم إذ هو أكبر من محمد شراب باثني عشر عاماً، وتأثر بتجربته العلمية فارتحل إلى الأزهر وتلقى العلم في المعهد الديني هناك وكان الشيخ سليم شراب يدرّس هناك في مدرسة عمر طوسون بالقاهرة، إلا أن صلته به كانت فاترة وأكثر ما يجمعهما الرباط العائلي الذي ينتهي بمجرد ارتباط محمد شراب بالعمل الذي أتى لأجله .
توجّه شراب إلى سوريا في زمان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1959 ودرس في كلية الآداب – قسم اللغة العربية بجامعة دمشق ، وكان متميزاً في دراسته حيث إنه تلقّى معظم المعارف التي كان يتلقاها في الجامعة حيث كان في المعهد الديني في الأزهر ، وكان يسكن معه أثناء دراسته أحد أعلام فلسطين ومن رواد الحركة الإسلامية وهو الشيخ أبو وائل سليمان عبد القادر الحاج ، وقد تحدّث عنه أبو وائل وقال إنه كان قريباً من التيار الإسلامي إلا أنه استقلّ بنفسه تماماً ولم ينخرط فيها أو في نشاطاتها.
تخرج في الجامعة عام 1963 في أجواء الانفصال بين البلدين ونهاية حلم الوحدة وتجربتها في الحقبة الناصرية، إلا أن انصرافه عن السياسة وأحوالها أبعده عن تأثيراتها المباشرة عليه ، فتابع دراسته بما ينفعه في حياته الشخصية بحصوله على دبلوم التربية اللازمة لعمله في مجال التدريس، ولم يدم الحال به في سوريا فانتقل إلى السعودية متنقلاً بين الدمام وحائل والمدينة المنورة كما كان حال الشيخ سليم شراب من قبل، وبعد عمله في التدريس لعدة سنوات عاد إلى سوريا وتزوج هناك من امرأة دمشقية عام 1968 وهو في سن الثلاثين تقريباً.
عمل في السعودية نحواً من ثلاثين عاماً في مجال التدريس، وكتب في صحفها ومجلاتها ولاسيما مجلة المنهل ومجلة الحرس الوطني وكتب في صحيفتي عكاظ والبلاد ، وكتب عن المدينة المنورة وأخبارها وتاريخها ، وكتب عن شعراء السعودية وأدبائها ولاسيما أثناء تدريسه في الكلية المتوسطة في المدينة المنورة، ونال درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية من معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة عام 1980م أثناء عمله في السعودية.
لم يترك شرّاب الكثير من الأصدقاء في السعودية حيث كان شديد الوطأة على خصومه، وخاض تجارب مؤلمة في الصحافة لم يجد فيها نصيراً ممن عمل معهم ، ثم ساءت حاله حين دخل صدام حسين إلى الكويت مطلع تسعينيات القرن العشرين ، فاضطرته الظروف إلى ترك السعودية والارتحال إلى مدينة زوجته دمشق يحمل معه ثروة صغيرة مما جناه من عقود ثلاثة فاشترى في داريا من ريف دمشق نحو ألف متر من الأرض الزراعية فيه بيت متواضع صغير قديم البناء تجد في مدخله عريشة عنب تتسلل أشعة الشمس من خلالها على زروع صغيرة من الورد والزهور والنباتات العطرية ، فإذا دخلت البيت انتقلت عبر غرفة منه إلى الحديقة فتجد هناك شجرة توت شامي كبيرة وأشجارا مثمرة قريبة منها من الزيتون والمشمش والخوخ والتين وبينها المزروعات البيتية من الخضار والفلفل والنعناع والبقدونس .
عاش حقبة التسعينيات في داريا بعيداً عن الأضواء إذ إنه يحمل وثيقة سفر مصرية لا تتيح له الإقامة في سوريا ولا تتيح له السفر إلى أي مكان ، وكان يخشى من انكشاف أمره فيدخل في إشكالات أمنية لا يطيقها ، وعاش معه ولداه أحمد الذي تخرج في كلية الاقتصاد ، وابنته كوثر المتخرجة في جامعة العلوم التطبيقية في تخصص الفيزياء التطبيقية ، وله من ولديه أحفاد .
أنجز محمد شراب قرابة الأربعين كتاباً غير الدراسات والبحوث والمقالات ، ومعظمها منشور مشهور، وبعضها أوصى ألا يطبع إلا بعد وفاته لما فيها من نقد لاذع للكثير من الشخصيات المعاصرة له ، ومعظم نقده عن ضحالة علمهم وثقافتهم وسوء لغتهم، وقد سلّمني معظم مخطوطات كتبه ورسائله ومقالاته ، وصوراً عن مقالاته المنشورة ، وكان حريصاً أن تصل إلى يدي شخصياً لظنه أنني سأعتني بعلمه وأعرف قدرَ ما يكتب ، وما زلت أحتفظ بها إلى يومنا هذا ، ثم علمت أن نفراً من المجرمين اقتحم مكتبنا في نهاية عام 2012 وسرق كل محتوياته مستغلين حالة الانفلات الأمني في مخيم اليرموك ، ولا أدري ما جرى لها .
الأستاذ شراب شخصية علمية خاصة ، تعيش تفاصيلها في شخصيات أخرى كتب عنها وتأثر بها ، وتشكلت له شخصية خلافية استثنائية ، فهو شخص شديد النفور عظيم السخط قاسي الملاحظة يحطّ من قدر مَن أمامه لخلاف صغير في الرأي ، ويعزّي نفسه بأنه لا حياء في العلم ولا مهادنة في الحقيقة ولا مجاملة في الصواب .
لا يحسن المجاملة ولا يعرف طريق الدبلوماسية ، لم ينفعه المخزون اللغوي الذي يمتلكه ، ولا المعرفة البيانية التي ينقدها ويعرف دروبها بين سطور الكتب ، ولا يعرف إنشاءها بين الناس من حوله .
وكثيراً ما ينشأ غضبه من خطأ لغوي يقع فيه المتحدث ، أو سقطة تاريخية شائعة ، أو لفظة عامية لا يتناسب مدلولها مع مقامه ، وإذا فار غضبه فإنه يواصل الضغط به ، ولا يبالي إن أصدر الفتاوى بتحريم الاستماع إلى من ينتقده أو النظر في رأيه .
وهو يحسن الاستماع قبل ذلك ، ولديه جلَد عجيب في الاستماع ، وكأنه نمر ينتظر فريسته من وراء أجمة قرب غدير فإذا أحاط به غرز به أسنانه دون رحمة.
وهو نشيط في حضور المحاضرات والمنتديات العلمية، يلبّي الدعوة ، وينتظر دوره ليحمل سيفه فيقع فيمن يحاضر ، وإذا لم يجد مكاناً للكلام مع مضيّ الوقت ينطلق مارده ويخرج مغضباً مهتاجاً والشرر في عينيه لا يكاد يرى من أمامه، وتجري عكازه أمامه بغضب تفتح له الطريق بين الكراسي المتراصّة.
يميل إلى التشدد في الرأي ويتبنى الطريق الأكثر وعورة ، ولا يثق برأي من سبقه ولا يكاد يعترف بعلم أحد ، ولم يسلم أحد من كبار اللغويين أو المحدّثين أو النحويين القدماء من سلاطة لسانه وقسوة ألفاظه.
ولم يسلم أقرانه أيضاً منه ، وله قصة طويلة جرت فيها المحاكم ، وتكلم فيها القضاة على خلفية ما وصف به الشاعر الدكتور عدنان علي رضا النحوي وهو أديب وداعية فلسطيني من صفد يحمل الجنسية السعودية من أنه رجل عاق لِمَا كتبه أحدُ مَن قدّم لأحد كتبه من الشخصيات السورية عن الشعب الفلسطيني أنه بانصرافه عن الدين أصابه ما أصابه ، فطلب النحوي من شراب أن يعتذر فأبى ، فرفع الأمر إلى القضاء ، ولم تنجح الوساطات في تليين موقف شراب رغم أنه طلب من كثيرين أن يتوسطوا بينهما على قاعدة أنه على الحق ، فلما لزمته القضية وصدر الحكم بإدانته والتعويض بنحو عشرة آلاف دينار أردنيّ امتنع عن الأداء، فغرمت الدار الأهلية في الأردن الناشرة لكتبه ذلك .
ووقع لسانُه في كثير من الأدباء والكتّاب وقد أغلظ في مرة كثيراً للباحث العراقي الدكتور فاضل الربيعي صاحب كتاب فلسطين المتخيّلة وأفتى بحرمة الاطلاع على كتابه لجهل صاحبه، وأعلن ذلك أمام الدكتور فاضل بحضور جمع من الباحثين والأدباء مما أثار الناس ضده رغم موافقة بعضهم لما يقوله.
يدخّن بشراهة، ويتلذذ بتنفيس السجائر بانضباط وهو على هيئة الجالس المتمكّن ، وهو يعرف أن التدخين ليس من شيم العلماء ، وهو المحسوب على أهل العلم الشرعيّ إذ هو خريج الدراسات الإسلامية !، وكان قد أنشأ قصيدة قديمة هجا فيها الدخان والتدخين وأغلظ في وصف المدخن بأنه كلب يعض ورقة ، ولدى سؤاله عن مفارقة قوله لعمله في هذا الشأن كان يجيب بأنه هجا السيجارة لعله يهجرها وتلومه نفسه على تعاطيها إلا أنه ازدادت رغبة فيها .
وقد عملت تركيبته الجسدية على زيادة تعقيد شخصيته وتضييق طرق التواصل فيها إذ هو معتدل القوام يميل إلى الطول فيرى نفسه أعلى ممن حوله فيزيد ذلك من بطش لسانه، وهو يميل إلى البياض ولكن وجهه مقشّر ليس فيه بهاء ولا يشدك إليه من النظرة الأولى فلا تشعر معه بالألفة والراحة، وهذا يتناسب عكسياً مع اعتنائه بقشرة الأشياء وظاهرها، ويسيء الظن جداً بمن حوله استناداً إلى لفظة عابرة أو رأي قاله؛ ومن أطرف الشواهد على ذلك أن وزير الثقافة في حكومة حماس الدكتور عطا الله أبو السبح عام 2006 زار محمد شراب في منزله ليتعرف إلى هذه القامة العلمية التي أصدرت هذه الكتب ، فتعاظمت نفس شرّاب بهذه الزيارة وأهدى أبا السبح مجموعة من كتبه ، فعلّق أبو السبح على ذلك مبتهجاً أنهم حُرِموا من كتب كثيرة نتيجة الاحتلال وكم كان يتمنى أنه قرأها في وقت مبكّر فأخذ بيد شراب وقبّلها، فلما فات عن عن منزله سخر شراب منه وقال: هذا وزير ثقافة لا يقرأ لطه حسين فلسطين ، لقد خاب وخسر .
وكانت شخصيته المتشددة تحمل في طياتها قدراً كبيراً من الجبن العاطفي الذي ينكشف في أوقات الأزمات ومن شواهد ذلك أنه كان يتصل هاتفياً بمن ظل يتواصل معه فيطلب منهم أن يشيعوا وصيته بأنه لا يريد لأحد أن يمشي في جنازته ، ولما اشتد مرضه كان يتحدث إلى زائريه المعدودين أنه يخشى من أن يموت ولا يمشي في جنازته أحد حتى من جلسائه الآن.
وقد كان رغب إلينا مرة أنه يتمنى في آخر حياته التي يعيشها أن يقضي أيامه الأخيرة في خانيونس ليرى أخته الباقية هناك ، فلمّا أجرينا اتصالاتنا التي أسفرت حينها عن موافقة مبدئية لدخوله وكان ذلك بعد حرب غزة عام 2009 فلما أبلغناه بذلك جفل وخاف وقال إنه لم يقصد أن يكون ذلك سريعاً وأنها أمنيّة يخشى إن تحققت أن تنتهي حياته بقذيفة أو رصاصة .
لا يعتني بمظهره ويخرج للناس بجلباب أبيض من النوع الرخيص غير مكويّ ويضع الغترة المخططة بالأبيض والأسود مع عقالها، ويحمل عكازه ويمشي ، ويذهب إلى المحاضرات واللقاءات بسيارة أجرة في الغالب ، وقلّما تحرك بسيارته الصغيرة المتوسطة الحال .
أصيب بسرطان البروستاتا مطلع 2011 وأجرى عملية جراحية ناجحة لاستئصاله ، وقد ساءت أحواله بعدها ، ونعى على الناس الذين تركوه في آخر عمره بلا معين ، فبادر بعض الخيّرين إلى إقناع الأستاذ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس بتخصيص مبلغ شهري له فأقر له عشرة آلاف ليرة شهرياً ، ورغب إليّ الأستاذ حينها أن أرى حال بيته إن كان بحاجة إلى إصلاح وترميم أيضاً .
وكان شراب قبل ذلك يقع فيمن يقدم له المساعدة ، وقد كان من قبل يذكر سوء حاله وانقطاع مادته فاقترحت على هيئة علماء فلسطين في الخارج أن يخصصوا له مبلغاً شهرياً فلما أوصلتُ له الخبر ثار وهاج ، ولم أفهم سبب هياجه إلا بعد حين ، إذ كان معترضاً على كلمة ” الخارج ” في اسم هيئة العلماء ، لأن لها دلالات في العُرف الشعبيّ الشاميّ تذهب بها إلى المرحاض ، فامتنع عن قبول المنحة لهذا السبب .
وقد كان حريصاً على جلسات العلم يلقي فيها دروسه على نخبة من تلاميذه القلّة ، وكانت له مجلس بعد فجر يوم الجمعة يقرأ فيه من ألفية ابن مالك في النحو، والكامل للمبرد ، وكان يستعرض علمه فيها ويذهلهم بكثرة محفوظه من الشواهد الشعرية في باب النحو ، وكانت له اجتهادات مشهورة يستخدمها في التشنيع على مخالفيه من النحاة القدماء، ومن اجتهاداته : أن الإعجام ليس مانعاً من الصرف لأن أسماء إبراهيم وإسماعيل وأشباهها عربية أصيلة وأنها مُنعت عن الصرف سماعاً لا قياساً.
يقول عن نفسه إنه عظيم الاطلاع كثير القراءة يحب التدوين ويقضي حياته الأخيرة في الكتابة يعيش في أوراقه ويمضي وقته بينها، وهو جهير الصوت ، وإذا تحدث في مسألة عادية أمام ملأ يخطب بهم ولا يتوقف حتى ينهي ما يريد قوله ولو اعترض المعترضون ، فإن حصروه في وقت خرج من المجلس ثائراً ذاماً .
رحم الله الشيخ محمد محمد حسن شراب وأعظم الأجر في فقده .