أوراس زيباوي يحلم بول ديلفو ويحول أحلامه أعمالاً فنية. يغوص في المناطق اللاواعية من ذاته ويستخرج درراً. وليست مصادفة أن يكون عنوان المعرض المخصص له حالياً «سيد الحلم»، لأنه من عالم الأحلام يأتي بعدما قطع روابطه المادية مع عالم الواقع. المعرض الذي يقام في متحف «قصر الأنوار» في مدينة إيفيان الفرنسية المطلة على بحيرة ليمان الفرنسية – السويسرية، للفنان البلجيكي بول ديلفو(1897 – 1994) هو رحلة في عالم هذا الفنان الساحر الذي يعد أحد أبرز وأغرب الفنانين السورياليين في القرن العشرين.
يشعر زائر المعرض بأنه أمام مسرح يظهر فيه أشخاص من عالم الخيال: نساء لا مباليات صامتات، هياكل عظمية، محطات قطار مهجورة، وجوه غامضة الملامح، أما المشهد الطبيعي الذي يشكل خلفية، خصوصاً الصروح المعمارية التي تطالعنا فيها، فهي أيضاً تبدو طالعة من عالم الحلم على رغم دقة وصفها وتصويرها، وهي تجد مرجعيتها عموماً في العمارتين اليونانية والرومانية القديمتين. فهنا مكمن الغرابة فيها لشدة ما تشبه النساء اللواتي يتجولن في أرجائها. وهناك بالفعل هيمنة الحضور النسوي في هذه الأعمال المعروضة. غرائبية العمارة هنا مقابل غرائبية الأشخاص وحركتهم في المكان. بل إن عمارة بول ديلفو تذكرنا أيضاً بالصروح التي رسمها الفنان الإيطالي جورجيو دي كيريكو. وكان ديلفو قد تعرف الى أعمال دي كيريكو عام 1934 وتأثر بشحنتها الشعرية الكثيفة فأصبح ذاك العالم جزءاً من عالمه الخاص.
لكن مثلما يتميز نتاج ديلفو عن نتاج الفنانين السورياليين، يحاول أن يتميز أيضاً عن دي كيريكو من خلال جعل المكان المؤلف من معابد إغريقية مليئاً بالحضور النسائي ما يجعل اللوحة خشبة المسرح الفعلية. هكذا تمكّن ديلفو من صوغ عالم يزاوج بين السوريالية والواقعية السحرية. عالم غريب وقلق يتجاور فيه ما سبق أن رآه في طفولته من الهيكل العظمي الذي طالعه في صف الموسيقى في المدرسة التي درس فيها أو في أعمال الفنان جيمس أنسور، إلى القطارات التي كانت تبهره يوم كان طفلاً وكذلك التراث الإغريقي الروماني الذي انجذب إليه في سن مبكرة ودرسه في الجامعة لأهميته الهندسية وكذلك للمواضيع الأسطورية التي يعبر عنها خصوصاً من خلال المنحوتات التي تزين المعابد القديمة، وأخيراً المرأة التي تمثل العمود الفقري لأعماله والتي استوحى منها عناصر تكشف علاقته المعقدة بها. ومن المعروف أنه عانى كثيراً من تسلط والدته عليه وهذا ما انعكس على سلوكه مع المرأة.
تبرز في إحدى اللوحات امرأة ممددة وقبالتها امرأة أخرى معتمرة قبعة حمراء وجالسة أرضاً، يدها اليسرى تسند بها خدها أما اليمنى فتتكىء على إحدى ركبتيها، ووراء هاتين المرأتين امرأة طويلة القامة تخرج من بوابة أحد الهياكل ولا نعرف تماماً الى أين يتجه نظرها. كل ما في هذه اللوحة يدعو إلى الغرابة والدهشة، إلى الوحدة والصمت والوقت المعلق، وكل ذلك يشي بعالم جامد لا تواصل فيه ويحيلنا على أجواء لا صلة لها بالعالم المحسوس.
ولا بد من الإشارة إلى أن ديلفو السوريالي كان بعيداً عن اهتمامات السورياليين الاجتماعية والسياسية وكان يقف دائماً على الحياد مأخوذاً فقط بالجانب الجمالي لأعماله وبمشروعه الفني.
رسم ديلفو لوحته السوريالية الأولى عام 1935 وكان عنوانها «قصر الأنقاض» وتمثل أجواء قيامية من خلال مشهد صحراوي مفتوح على الخواء. لكنه سواء رسم الطبيعة الصحراوية أم العمارة اليونانية أم المرأة، فهو ينطلق في عمله من رؤية ميزت عمله على المستوى العالمي، هذا العمل الذي يغرف من المخيلة ويهرب من خلالها من عالم الواقع والخيبات الى عالم آخر هو بمثابة ملجأ يختصره الفنان بقوله: «العناصر التي أتعامل معها موجودة في الواقع لكنني أحملها الى إطار أخر هو من طبيعة شعرية». وفقا لما نشر بصحيفة الحياة.