حياتُه الشخصية
علاقاتُه خارج الزواج
أولى علاقات فيودور المعروفة كانت مع فتاة تُدعى أفدوتيا ياكوفليفنا التي التقى بها في جمعية بانايف أوائل عقد الأربعينات 1840. وقد وصفها بأنها تلميذة مُتعلّمة مهتمة بالأدب وأنها امرأة فاتنة لعوب.[104] وقد قال في وقتٍ لاحق علاقتهما غير واضحة وغير متأكد منها.[105] ووفقاً لمذكّرات آنا عن زوجها، بأنه قد طلب الزواج منها مرّة ولكنها رفضت.[106] وكانت عشيقة دوستويفسكي الثانية هي الكاتبة بولينا سوسلوفا وكانت علاقة قصيرة ولكنّها حميميّة بلغت ذروتها في شتاء 1862-1863. التقت سوسلوفا به في إحدى المحاضرات التي كان يُلقيها حيث كانت محاضراته تحظى بشعبية كبيرة بين الشباب. في ذلك الوقت، كان دوستويفسكي 40، وكانت 21. وكانت العلاقة صعبة ومؤلمة لكلا الطرفين، خاصة دوستويفسكي.[107] حيث كان مُرهقاً وقواه مستنزفة من العمل وحالته الصحيّة والمالية السيئة.[108] وكانت سوسلوفا متعجرفة وغيروة، وكانت تُطالبه باستمرار تطليق زوجته ماريا.[109][110] وبعد وفاة ماريا في عام 1865، طلب الزواج منها لكنها رفضت.[111] وعلى عكس زوجته الثانية آنا، نادراً ما كانت سوسلوفا تقرأ كتبه، ولم تحترم أعماله، وبعد انفصالهم حرقت كُل الرسائل بينهما.[112] وقد وصفها دوستويفسكي في إحدى رسائله بأنها أنانية ومغرورة، وبعدها ذكر: “ما زلت أحبها، ولكن لن أحبها أكثر من ذلك، فهي لا تستحق هذا”.[113]
في عام 1858 أحبت دوستويفسكي الممثلة الهزلية أليسكاندرا إيفانوفنا شوبرت، وكانت قد انفصلت عن صديقه ستيبان يانوفسكي لتوّها. لم يبادلها دوستويفسكي نفس الشعور ولكنّهما كانا صديقين جيّدين.[114][115] وخلال عمله في مجلة Epoch تعرّف على مارثا براون، وعلاقته معها عُرِفَت فقط من خلال الرسائل المكتوبة بين نوفمبر 1864 و يناير 1865.[116][117] وفي عام 1865، التقى دوستويفسكي آنا كورفين، لم يتم معرفة طبيعة علاقتهم، وقالت زوجته آنا أنها كانت علاقة جيّدة، بينما قالت شقيقة كورفين أنها رفضته.[118]
توجهاته السياسيّة
قرأ دوستويفسكي في شبابه تاريخ الدولة الروسية للمؤرّخ الروسي نيكولاي ميخائيلوفتش كرامزين، الذي أشادَ بمبادئ المُحافظين وباستقلالية وسيادة الدولة الروسيّة، وهي الأفكار التي تبنّاها فيودور في وقتٍ لاحق. وقبل اعتقاله بسبب رابطة بيتراشيفسكي التي كان أحد أعضائها عام 1849، ذكر دوستويفسكي أنه “ليس هناك فكرة أسخف من أن تكونَ الحكومة جمهورية في روسيا”. وفي عام 1881، في مُذكَراته ذكر دوستويفسكي أن الشعب والقيصر يجب أن يكونوا صفّاً واحداً: “بالنسبة للشعب، القيصَر ليس سلطة خارجيّة، ليس سُلطة لبعض الناس … بل هو قوّة وسلطة لجميع الناس، وهي قوة لتوحيد جميع الناس”.[119]
في الوقت الذي انتقد فيه القنانة، كان مُتشككاً حول إنشاء الدستورية الملكية واعتبره مفهومٌ دخيل على الثقافة ولا علاقة له بالتاريخ الروسي. ووصفه بأنه “سلطة النبلاء” وأن الدستور “سيستعبد الناس أكثر بكل بساطة”. ودعى للإصلاح الاجتماعي بدلاً من ذلك، فمثلاً إزالة النظام الإقطاعي وتقليص الفروقات بين طبقة الفلّاحين والطبقة الغنية. أفكاره كانت يوتيوبية ذو نزعة دينية مسيحية نوعاً ما: “إذا كان الجميع مسيحيين، سيتم حل جميع المشاكل والمسائل”.[120] كما اعتقدَ أن الديمقراطية والأوليغاركية أنظمة سيئة، وكتب بخصوص فرنسا: “الأوليغاركية تهتم فقط بمصلحة الأثرياء بدرجة أولى، أما الديمقراطية تهتم بمصلحة الفقراء فقط؛ ولكن مصلحة المجتمع، ومصلحة فرنسا ومستقبل فرنسا بأكمله لا أحد يُزعج نفسه بالتفكير بهذه الأمور”.[121] وأكد أن الأحزاب السياسية أدت في النهاية إلى خلافات اجتماعية. وفي ستينيات القرن التاسع عشر، اكتَشَف حركة البوكفنيتشيستفو وهي حركة شبيهة بالسلافوفيليا في رفضها للثقافة الأوروبية والحركات الفلسفية المعاصرة مثل العدمية والمادية. اختلفت البوكفنيتشيستفوتية عن السلافية في كونها تحاول جعل روسيا بلداً أكثر انفتاحاً وجعل روسيا دولة أوروبية سياسياً وثقافياً كما حاول بطرس الأكبر فعله.[122]
في مقالته الغير مكتملة “الاشتراكية والمسيحية” زَعم دوستويفسكي أن الحضارة -“المرحلة الثانية من تاريخ البشرية”- قد تدهورت وأنها تتوجّه نحو الليبرالية بخطى متسارعة وتفقد إيمانها بالله. وأكد أنه ينبغي استعادة المفهوم التقليدي للمسيحية. واعتبر أن هذه الأزمة هي نتيجة للاصطدام بين المصالح الطائفية والفردية، الناجمة عن تراجع المبادئ الدينية والأخلاقية.[123] كانت هناك ثلاث أفكار سائدة في عصره، الكاثوليكية الرومانية والبروتستانتية والأرثوذكسية الروسية. بالنسبة للكاثولوكية الرومانية قال بأنها واصلت التقاليد الإمبراطورية الرومانية وأصبحت بالتالي مُعادية للمسيحية حيث أن اهتمام الكنيسة في الشؤون السياسية والدنيوية أدى إلى التخلي والبعد عن فكرة المسيح. وبالنسبة له، كانت الاشتراكية “أحدث تجسيد للفكرة الكاثوليكية” و “حليفها الطبيعي”. ووجد البروتستانتية متناقضة، وادّعى أنها ستفقد السلطة والروحانية في نهاية المطاف. واعتبر أن الأرثوذكسية الروسية هي الشكل المثالي للمسيحية.[124]
خلال الحرب الروسية التركية، أكد دوستويفسكي أن الحرب قد تكون ضرورية إذا كان من وراءها الحرية والخلاص. وأعرَب عن أمله في استعادة الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، وفي تحرير السلاف البلقان وتوحيدهم مع الإمبراطورية الروسية وهزيمة الدولة العثمانية.[125] كما يُظهِر في كتاباته سواءً كانت روايات أو مقالات معاداة للسامية، وفي أحيانٍ أخرى يكتب عن اليهود ويدافع عنهم. وكثيراً ما أظهر مُذكّراته تلك المُعاداة.[126]
معتقداته الدينية
كان دوستويفسكي مسيحياً أرثوذكسياً، نشأ في أسرة دينية وعرف وتعلّم الإنجيل من سن مبكرة.[127][128] وقد تأثّر بترجمة يوهانس هوبنر للإنجيل مئة وأربع قصص خفية في العهد القديم والجديد للأطفال.[129][130][131] وكان يحضر الكنيسة أيام الأحد بانتظام في سنّ مبكرة كذلك، ويشارك في الزيارة السنوية إلى دير سانت سيرجيوس.[132] وعلمه الشماس الذي كان في المشفى تعاليم دينه.[133] من بين ذكريات طفولته كانت الصلوات التي كان يقرأها أمام الضيوف ويقرأها من سفر أيوب عندما كان صغيراً.[134]
وفقاً لأحد الضباط في الأكاديمية العسكرية، كان دوستويفسكي مُتمسّكاً بدينه، يتبع الممارسة الأرثوذكسية، ويقرأ بانتظام الأناجيل، ويقرأ كذلك كتاب هاينريش زكوك Die Stunden der Andacht والذي هو عبارة عن كتاب ديني خالٍ من الأوامر العقائدية ويركّز فقط على حب المسيح وتطبيق حبه في المجتمع. هذا الكتاب لاحقاً أثّر في آراءه الاشتراكية المسيحية.[135] من خلال تجميعه لآراء هوفمان وأوجين سو وبلزاك وغوته ورأيه الخاص، صنع لنفسه مذهباً دينياً خاصاً على غرار الطوائف المسيحية الأخرى.[136] وبعد اعتقاله وسجنه، ركز بشكل مكثف على شخصية المسيح وعلى العهد الجديد، وهو الكتاب الوحيد المسموح به في السجن.[137] في رسالة يناير 1854 إلى المرأة التي أرسلت له العهد الجديد، كتب دوستويفسكي: “أنا كطفل شكّاك ليس لدي إيمان حتى اللحظة، وأوقن بأني سأبقى كذلك إلى القبر … ولو أثبت لي شخص ما أن الحقيقة ليس المسيح، يجب أن أختار البقاء مع المسيح بدلاً من الحقيقة”.[138]
خلال مكوثه في سيميبالاتينسكي، عاد إيمان دوستويفسكي لقلبه بعد تأمله المتواصل في السماء. وقد وصفه صديقه رانجل بقوله: “لم يذهب إلى الكنيسة في تلك الفترة، وكره الكهنة وخاصة السيبيريين منهم، لكنه كان يتحدث عن المسيح بشكل مطرد.” وقد تعرّف دوستويفسكي على الإسلام وطلب من أخيه إرسال نسخة من القرآن الكريم له.[139] من خلال زياراته إلى أوروبا الغربية ومناقشاته مع هيرزين وغريغوريف وستراخوف تعرّف على حركة البوكفنيتشيستفو ونظرية أن الكنيسة الكاثوليكية قد اعتمدت مبادئ العقلانية والقانونية والمادية والفردانية من روما القديمة ومررتها للبروتستانتية وبالتالي إلى الاشتراكية الإلحادية.[140]
المواضيع والأسلوب
تتضمّن أعمال فيودددور دوستويفسكي روايات، وروايات قصيرة، وقصص قصيرة، ومناشير، وإبيجراما، ولمريكة، وشعر. وقد كَتَب أكثر من 700 رسالة، ضاع العشرات منها.[141]
عبّر دوستويفسكي عن أفكاره الفلسفية والدينية والنفسية من خلال كتاباتِه، تحكي قصصه مواضيع عن الانتحار والفقر والخداع والأخلاق. مواضيعه النفسيّة حكى فيها عن الأحلام حيث ظهرت في قصّة الليالي البيضاء، وعلاقة الأب وابنه كما ظهر في المراهق.[142][143] وتظهر في كثير أعماله نواحي تكوين المجتمع الروسي الفوضوي في ذلك الوقت.[144] أعماله المبكرة تُظهِر المجتمع من خلال الطبعانية والواقعية الأدبية. وبسبب تأثّره الكبير بالكُتّاب الذين قرأ لهم، كان كثيراً ما يقتبس منهم وأسلوبه مشابه لهم لحدّ كبير، أدّى ذلك لاتهامه بالسرقة الأدبية في أعماله المُبكّرة، ولكن مع مرور الوقت أصبح لديه أسلوب خاصّ به.[145][146] الأعمال التي كتبها بعد إطلاق سراحه لوحِظَ أنها تتناول مواضيع دينية، وخاصة تلك المواضيع الخاصة بالأرثوذكسية الروسية. وعناصر من القصص القوطية، والرومانسية، والمواضيع الساخرة الهجائية يمكن ملاحظتها في بعض كتبه.[147][148][149]
دائماً ما توصَف أعمال دوستويفسكي بكونِها فلسفية، عل الرغم من قول دوستويفيسكي بنفسه أنه ضعيف في الفلسفة.[150] كتب صديقه نيكولاي ستراخوف يصفه: “أحب فيودور تلك الأسئلة حول ماهيّة الأشياء وما وراء حدود المعرفة”[150] العديد من الأفكار الفلسفية المطروحة في مذكراته والإخوة كارامازوف، وقد وصفه المفكر جورج فلورفسكي بأنه “مشكلة فلسفية”، فمن غير المعروف ما إذا كان دوستويفسكي يؤمن بالأفكار التي طرحها أو لا.[151] وربما كان دوستويفسكي ما أورد هذه الأفكار إلا لانتقاده لها فقد كان عقله فنّاناً أكثر من كونه عقلاني ومنطقي. وقد ذُكِرت عدم عقلانيّته في كتاب الفيلسوف ويليام باريت رجل غير عقلاني: دراسة في الفلسفة الوجودية، وكتاب والتر كوفمان الوجودية من دوستويفسكي إلى سارتر.[152][153]
أحد أساليب فيودور الكتابية هي البولفونية، وهي تعني تعدد الرواة والأصوات في الرواية الواحدة، كُلّ منهم بوجهة نظرة الخاصة. البولفونية الأدبية مشابهة للبولفونية الموسيقية المصطلح الذي وضعه ميخائيل باختين على أساس تحليلاته لأعمال دوستويفسكي.[154] وقال اللغوي الروسي ميخائيل باختين أن استخدام دوستويفسكي لهذا الأسلوب يُعدّ تقدماً كبيراً في تطوير الرواية.[155]