إنهم سوف يقدمونكم قرباناً لخلودهم/سيرتبون لكم طقوس رحيلكم على هيئة ألغام/حتى تكون في النار/راحتكم الأبدية» (جورج حنين).
يعتبر جورج حنين (1973-1914) رائد السيريالية المصرية ومُنظرها الأول، وكانت محاضرته التي قدمها عام 1937 حول حصاد السيريالية، التي أذيعت بالقاهرة والأسكندرية، هي المحاضرة التي قدّم فيها الحركة السيريالية للشباب المصري. فكانت السيريالية هي الحركة الأدبية الوحيدة التي واكبت فيها القاهرة باريس، مع ملاحظة أن السيريالية المصرية لم تكن تقليداً لسيريالية أوروبا، فقد كانت مُقترنة بالثورة لا بالإحباط، وبالأمل في التغيير وليست نتاجاً لأهوال الحرب. هذه الحركة المصرية الخالصة التي غيّرت الراكد في الفكر المصري، رغم وقوف العديد لها بالمرصاد منذ نشأتها، يدل على مدى التأثير الذي مارسته حينها، رغم محاولات التشويه التي نالتها على يد الكثيرين، خاصة المثقفين المصريين الذين اختلفوا مع الحركة ورموزها، لأنها استطاعت تعرية مواقفهم وكشف زيف الكثيرين منهم. يُذكر أن من مؤسسي هذه الجماعة كل من الفنانين رمسيس يونان 1966-1913/أنور كامل 1991-1913/كامل التلمساني 1972-1917/ فؤاد كامل 1973-1919.
سيريالية أوروبا
ارتبط نشوء الحركة السيريالية بالأحداث التي توالت على أوروبا وفرنسا بالتحديد في مطلع القرن العشرين، والتي انفجرت بقيام أول حرب عالمية تشهدها البشرية، وكان لها التأثير المباشر والرئيسي في نشوء حركات الرفض والتمرّد والثورات الفنية والأدبية، والتي تعتبر السيريالية أكثرها اكتمالاً، بعد محاولات حركة الـ (دادا) التي صاغ بيانها «ترستيان تزارا» عام 1916 والذي جاء به … (دادا لا تعني شيئاً/لا مجال للرحمة/يبقى لنا بعد المجزرة أمل في إنسانية مُطهّرة/كل ما ننظر إليه زائف/أنا ضد كل الأنظمة/الأفضل ألاّ يكون لك أي نظام/ وحتى تكون أحد أعضاء الدادا .. يجب أن تقف ضد الدادا نفسها). وكانت الدادا على عداء مع مؤسستين، هما الكنيسة والجيش. وسرعان ما انضم إليهم كل من … أندريه بريتون وفيليب سوبو ولوي آراجون، هؤلاء الثلاثة الذين شقوا معاً طريق السيريالية فيما بَعد.
وفي العام نفسه عُرض باليه «باراد» على مسرح «شاتلييه»، الذي أصاب البرجوازيين بخيبة أمل، فقد بدا لهم العرض مؤامرة على قيم الثقافة التقليدية. كانت هذه المؤامرة من تأليف كوكتو، مع ديكور بيكاسو التكعيبي، وموسيقى آريك ساتي، التي كانت عبارة عن طلقات مسدس، وضوضاء آلة كاتبة. لكن الشاعر أبوللينير تحمّس للعرض، و قال إن اندماج التصميم مع الموسيقى قد أعطى دَفعة لنوع مما فوق الواقعية أو الحقيقة العُليا … (سيرياليزم) وكانت هذه أول مرّة يظهر فيها المُصطلح، الذي عاد واستخدمه أبوللينير في مسرحيته نهدا تريزياس، وقد أطلق عليها .. دراما سيريالية، ولكنها تختلف تماماً عن مقصد السيرياليين، فهي بعيدة عن التلقائية والتداعي الحُر للأفكار واللاوعي، مصدر الإلهام الأول للسيرياليين.
في عام 1922 أدرك أندريه بريتون رائد السيريالية ومُنظّرها الأول أن الأمر يحتاج إلى ما هو أكثر إيجابية بخلاف الدادا ذات السلوك الهدام، فانفصل ورفاقه عن الدادا، التي وَجَدَت خلاصها في الغرق، أما السيريالية فوجدت نفسها في المواجهة. ويلاحظ .. أن سيرياليي باريس كانوا يميلون إلى فرويد، أما الألمان فكانوا يميلون إلى هيجل وماركس، فكانت النتيجة أن أصبحت السيريالية مزيجاً من فرويد وكارل ماركس
وكان عام 1928 هو عام اكتمال السيريالية، ولم يكن هناك فارقاً كبيراً في العقل السيريالي بين الحماس للحُب والفعل السياسي، فهم آخر الرومانسيين، وعلى الحب والحرية ابتنوا فلسفتهم الأخلاقية، فلا غرابة بأن يُهاجموا كل من الفاشيين والشيوعيين، انطلاقاً بإيمانهم برفض الشوفينية والاستعمار، والديكتاتورية، حتى ولو كانت ديكتاتورية حزب شيوعي، فكان لابد وأن تضيق الشيوعية بعالمهم الفسيح.
إرهاصات السيريالية المصرية
كانت الجماعات الأدبية والسياسية في نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات تتجمّع وتتفرّق إيذاناً بوعي اجتماعي جديد يتغلغل في مصر، سمته القلق. وكانت فئة من أبناء البرجوازية قد وَجَدَت تأكيداً لشعورها بالاغتراب العام، فجاءت كلمة «المُعذَبون» التي استخدمها طه حسين لتعبر عن شيء أكبر من العذاب .. كانت تعبر عن المحنة. ونتجَ عن ذلك صراعاً بين الاتجاهات المختلفة، ما بين الإخوان المسلمين ومصر الفتاة واليسار، والجماعات الصغيرة الأخرى، التي اتخذ عملها شكلاً يفتقر إلى التناسق، فكانت دلالتها أكبر كثيراً من ثقلها ومن هذه الجماعات كانت جماعة «الأسبوع المصري» التي كانت تشمل عدداً من المثقفين الذين يتحدثون ويكتبون بالفرنسية، من أمثال .. «موسكاتللي» و»أحمد راسم» الشاعر الذي تولى مهام محافظ السويس فيما بعد، إلاّ أن هذه الجماعة قدمت شيئاً يُبشر بأمل كبير، قدمت «جورج حنين» … (أنا الإنسان الجالس على حافة الطريق/ليكتب وهو يحتبس الكلمات/وهو يرمي مَن يكتفون بالنظر/على رأس مَن يكتفون بالفهم/وتنتج عن ذلك هالة بنفسجيّة كبيرة حَول العينين/لا يشفى المرء منها أبداً …. أنا ذلك الذي جلس على حافة الطريق/والذي يُبقي أعداءه تحت رحمة تعبه).
يحيا الفن المُنحَط
صَدَرَ بيان «يحيا الفن المُنحَط» وكان أول مَظاهر جماعة «الفن والحرية» وقد جاء رداً على الحظر الذي فرضه «هتلر» على فن التصوير الحديث. فقد كان حنين وجماعته الجديدة ينفرون من الفاشية التي فتنت الكثير من المصريين وأحزابهم! وضع حنين البيان، الذي وقعه ما يزيد على أربعين من المثقفين المصريين، وجاء به «… نحن نعتقد أن التعصب للدين أو للجنس أو للوطن، الذي يريد بعض الأفراد أن يُخضع له مصير الفن، ما هو إلاّ مجرد هزء وسخرية … يجب أن نقف في صف هذا الفن المُنحَط، ففيه كل آمال المستقبل فكانت الفن والحرية وقتها تضم أكبر تجمع ثوري شهده مَطلع الأربعينات، وفي يناير 1940 صدرت مجلة «التطور» لسان حال الجماعة. فهاهُم يخرجون بالكامل وللمرّة الأولى باللغة العربية لنشر أفكارهم، التي قد تنتمي للحركة اليسارية الوطنية، دون الانخراط في تنظيماتها وانقساماتها، وكان من الطبيعي أن يُقابلوا بالهجوم والاستهجان من الكثيرين، الذين هَدَدَت الحركة كيانهم ومَصَالحهم، وأن يكسبوا من الأعداء أكثر ما يكسبونه من الأصدقاء. وكتب حنين عن موقف الجماعة قائلاً: «إن هدفنا ليس تغيير الرغبة، بل تغيير المجتمع وتكيفه مع رغباتنا، لا يمكن للفن أن يكون عاطفياً فقط، فهو ضد النظام القائم وضد الطبقة الحاكمة، فالفن ليس سوى مَعْمل بارود».
إن مصر في الثلاثينات والأربعينات كانت أكثر تحرراً فكرياً، ونشاطاً ثقافياً مما هي عليه الآن، وقتها لم تكن بها هيئة للطاقة الذريّة، ولم تكن تصنع الصاروخ، بل كانت مُستعمَرَة يحكمها التاج البريطاني والمندوب السامي لجلالة الملكة، ومع ذلك كانت مصر جزءاً من الحيوية الثقافية العالمية، فبينما كانت مجلة آنيفور تنشر رسائل من بول فاليري إلى جماعة المحاولين، كان طه حسين ينشر في الكاتب المصري رسائل أندريه جيد، مثلما كان حنين ينشر رسائل بريتون إلي السيرياليين المصريين.
الموقف من الاحتلال الإسرائيلي
في عام 48 انفصل السيرياليون المصريون بقيادة حنين عن السيريالية العالمية التي كان يديرها بريتون، وذلك بسبب مُشاركة السيرياليين في بيع لوحات لصالح إنشاء دولة إسرائيل، كما أن السيريالية أصبحت مُنظمة كهنوتية تتم فيها المعرفة على درجات. فكيف تساعِد السيريالية في إنشاء دولة، وهي ضد فكرة الدولة! كما أن الكيان المزعوم يقوم على أسُس عسكرية، والعُنصرية الدينية التي طالما حاربوا من أجلها. من خطاب لــ «حنين» إلى «بريتون» .. يوليو 48 (عزيزي بريتون .. أكتب هذه السطور بلا مرح وبلا غم. قرار ترك جماعة ليس من تلك القرارات التي تؤخذ بقلب مسرور، وحتى يوجَد شئ أرقى .. سيظل الصمت هو الظاهرة السيريالية الأكثر احتراماً).
الموقف من الثورة
كان هاجس الثورة الاجتماعية ـ لا العسكرية ـ مُلحاً على السيرياليين، ورأوا أن نظام الحُكم هو السبب الرئيسي في الأوضاع المُترديّة، وعلي رأسها ثالوث الفقر والجهل والمرض، وقد كانت هذه الموضوعات محور مجلة التطور، وظهر برنامجاً سياسياً مُتكاملاً للجماعة في العدد السابع والأخير من المجلة، وكان عبارة عن مَطالِب وقتية كمقدمة لإصلاح أعمق .. كتحديد ساعات العمل وتخفيض الإيجارات، ونظام التأمين الاجتماعي وجعل التعليم الابتدائي مجانياً وإلزامياً، وتخفيض الضرائب على السِلع وإعادة توزيع ملكية الأراضي، الذي كان يختلف عن برنامج الإصلاح الزراعي، الذي تم بعد ذلك، والذي عكَس المفهوم البرجوازي للإصلاح،حتى يُظن أنه أُعد بواسطة خبراء أميركان!
مع نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات خَفت النشاط السياسي للسيرياليين، خاصة مع قيام الثورة، التي تفاءلوا بها مع الكثير من التوجُس، فها هي الأوضاع التي ثاروا عليها وسُجنوا وهاجروا بسببها في طريق التغيير، لكن المُغيّر ليس ثورة شعبية .. إنه الجيش رغم ترحيب الشعب!
ويُعلق حنين على قيام الثورة قائلاً .. «أواصِل تفاؤلي بالنسبة للتطورات المحلية، أعتمِد بالأخَص على بعض سمات واضحة مثل (محمد نجيب) الذي احتل الصدارة، فالرؤوس لها أهمية كُبرى في التاريخ». كان حنين يستمع إلى خطاب عبد الناصر في الراديو، وبعد قليل أغلقه، فسألته (بولا) (إقبال العلايلي زوجته وحفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي) : لماذا؟! فأجَاب أنه كان في ميونِخ عام 1939، وسَمَع هتلر يخطب، فذكّره صوت عبد الناصر به.
وقف حنين أمام إعدام» شهدي عطية»، وكذلك حركة الإعدامات الأولى للإخوان المسلمين. وأصبح مناخ القاهرة يُضايقه، حيث أنه عانى من المنفى الداخلي قبل الخارجي. وذات صباح دَخل مكتبه في شركة جناكليس ليجد عقيداً يجلس مكانه، يُبلِغه أنه مطروداً. يقول حنين «أصبح عسيراً ومُتعباً أن أغادر الأراضي المصرية، كما لو كنت أهرب من قارورة، إنهم يعملون على إسعاد مَن كانوا عساكر أميين، وهم الآن وجوه القدر المشدوفة، إننا ننحدر مع طلوع كل شمس أكثر فأكثر للجمود السلطوي للأمير ذي الأنف كعمود الإشارة». هكذا كان يُطلق على عبد الناصر، وقد غادَر حنين مصر نهائياً عام 1960، حتى وفاته بها عام 1973.
ثورة الطلبة
تفاءل حنين كثيراً بـ ثورة الطلبة، التي شارك فيها بالبيانات المؤيّدة، وقد عادَت مرة أخرى عبارات السيرياليين فوق أسوار جامعات فرنسا… الخيال يأخذ السُلطة/ممنوع المنع/ أريد أن أقول شيئاً، ولكني لا أعرف ماذا. إن أعضاء «الأممية المواقفية» التي ضمّت حنين ومصطفى خياطي، وآخرين، هم الذين أشعلوا ثورة الطلبة، التي بَعَثت الروح ليس في فرنسا وحدها، بل وفي البلاد التي امتدت إليها الثورة، لكن الحزب الشيوعي الفرنسي كعادته خذلها، متحالفاً مع «ديجول».
مصير الجماعة
(أريد أن أغني وأضحك وأحلم وحيداً وحُراً) هذه الكلمات التي ترجَمها رمسيس يونان من نشيد سيرانو كانت تعبّر عن مفهوم الجماعة الماركسي تفكيراً والسيريالي فناً. يقول حسن التلمساني «سنضحك .. سنقهقه، ثم نصرخ حتى ننفجر». المشكلة أنهم سقطوا تحت عبئ أسئلتهم غير المُكتملة، فالأحزاب اليسارية والجماعات الأصولية تعرف كيف تهادِن، وتتحول من العَلن إلى السِر، بل والمشاركة في مهازل إنسانية، أما هُم فلا يعرفون المداراة والمشاركة في أفعال كاريكاتورية تدعو للمرارة والسّخف. وكما يقول حنين .. (إن تغيير العالم أمر يعود إلى الطفل، إنه بقطعة طباشير أو بفرع شجرة يرسم بلاداً ….. بلاداً حقيقية).
لتظل كلمات (جورج) الأخيرة تتردد في روح كل سيريالي، أو مَن يعتنق هذه الفكرة والحالة الإنسانية شديدة الصدق والرهافة، إذ يقول .. (كل ما أتمناه هو الوصول إلى نقطة الصفاء القصوى، حيث يحل الأدب محل الحياة، عندئذ، وعندئذ فقط .. ستكون هناك ضرورة للكلام، وستكون للكلمات سُلطة مُطلقة. السيريالية لا بداية لها ولا نهاية، إنما سيظل هناك سيرياليون وغير سيرياليين. السيريالية .. هي ما سيكون). وفقا لما نشر بصحيفة القدس العربي.
………….
المصادر
السيريالية في مصر/سمير غريب. مكتبة الأسرة 1998.
راية الخيال/سمير غريب. مكتبة الأسرة 2000.
تاريخ الحركة الشيوعية المصرية (1)/ د. رفعت السعيد. الأمل للنشر 1986.
لا مُبررات الوجود « شِعر»/جورج حنين ــ ترجمة أنور كامل، بشير السباعي 1987.
جورج حنين. ساران ألكسندريان ــ ترجمة كميل قيصر داغر/دار الجمل 1999.
منظورات/جورج حنين. ترجمة بشير السباعي. آفاق الترجمة/أكتوبر .1997
بيانات السيريالية/أندريه بريتون ــ ترجمة صلاح برمدا. آفاق الترجمة مارس 1998.
الكتابة الأخرى. الأعداد الكاملة لمجلة التطور/جماعة الفن والحرية.
مجلة القاهرة. عدد فبراير 1995/هيئة الكتاب.
تاريخ السيريالية. موريس نادو ــ منشورات وزارة الثقافة/سوريا.
*كاتب من مصر
محمد عبد الرحيم