تسالي أدب على العيد
د. أحمد الخميسي
علاقتي بالفنون غريبة، وإذا بدأنا بالموسيقا فأنا أعشقها، أسمعها، أستمتع بها، أهتز معها وأحفظ الألحان في داخلي، وتمسي النغمة في رأسي، أكاد أراها مثل طيف ملائكي يشجيني فإذا غنيتها خرجت مثل قردة قبيحة تبحلق في هاتفة:” أذناك من أسمنت وحديد مسلح ولا علاقة لك بالموسيقا”! حاول أحد الأصدقاء أن يعزيني في أذنيي الحجريتين فقال لي:” وإيه يعني بيتهوفن كان أطرش”! مع ذلك استمر عشقي لعالم النغم بروح المحب الوفي الفاشل الذي يهتدي بعبارة محمد عبد الوهاب الشهيرة” عشق الروح مالوش آخر.. لكن عشق الجسد فاني”! بدأت أولى محاولاتي للارتباط بهذا الفن الرفيع وأنا في الإعدادية بمدرسة مصطفى كامل، وكانت آخر محاولاتي مع المايسترو سليم سحاب ونحن طلاب ندرس معا في موسكو. في المدرسة لاحظت أن بوسع التلاميذ المشتركين في فرقة الموسيقا الزوغان من الحصص بذريعة حضور بروفات الفرقة. قلت لنفسي” أذني موسيقية وصوتي جميل فلأرتبط بالفن إذن”. كان مدرس الموسيقا إنسانا طيبا جدا يدعى حمدي همام. رحب بي وطلب مني – كأن قلبه يتوجس شيئا- أن أغني أي شيء ليتعرف على قدراتي. سألته ” أغني إيه؟”. قال” أي حاجة”. خطرت لي أغنية بتلوموني ليه لعبد الحليم وكانت شائعة. فردت ظهري مثلما يفعل كبار المطربين، وزدت على ذلك نحنحة، ثم اتكلت على الله. وما إن أطلقت صوتي حتى تشنجت ملامح الأستاذ بألم رهيب كأنه طعن بخنجر مسموم! قلت لنفسي” اثبت واصمد. كل المطربين العظام وجدوا صعوبة في البداية” وواصلت بلا رحمة! وعندما بلغت مقطع ” لو شفتم عنيه حلوين قد إيه ” لوح الأستاذ بذراعيه في الهواء مثلما في المآسي اليونانية وصرخ” كفاية”. والتقط أنفاسه وقال مدهوشا” دي معجزة”! ظننت أن قوله ” دي معجزة ” يعني إعجابه بالجريمة، فسألته بزهو” يعني آجي بروفات الفرقة بكرة؟”. أجابني وهو يوشك على البكاء” لاء. ما تجيش خالص”. وأضاف” دي أول مرة أسمع كلمات بتلوموني ليه على لحن ياظالمني. حرام عليك. والله حرام”! لكن ذلك الاجحاف البين لم يقطع صلتي بالموسيقا، فرحت أتردد مع عدد من الأصدقاء على مكتبة الفن، وكانت في الستينيات مكتبة أنيقة تقع خلف جروبي طلعت حرب. تدخل وتجلس في قاعة واسعة وتحجز أي سيمفونية لتسمعها مع الجالسين، وتستمع قبلها لما سبق من حجوزات. في تلك المكتبة التي اختفت الآن سمعت لأول مرة”رقصات هنجارية” لبرامز، وافتتاحية” إجمونت” لبيتهوفن، وبحيرة البجع لتشايكوفسكي، وهزتني تلك الأعمال بقوة وبقيت في نفسي، ثم ظهر لدينا ذات يوم ” بيك آب” دخل به والدي علينا ومعه مجموعة اسطوانات، وبفضل ذلك الجهاز استمعت لأعمال أبو بكر خيرت” المتتالية الشعبية”، و” كونشيرتو البيانو” وغيرهما من روائع هذا الموسيقار العظيم الذي نقل للمرة الأولى الأنغام الشعبية إلي عالم أوركسترالي. ورسخت الموسيقا في نفسي حين اصطحبنا والدي إلي دار الأوبرا القديمة لحضور مسرحية سيد درويش ” شهرزاد”. في تلك الليلة فوجئت ونحن ندخل بالموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب يدخل الصالة مستندا إلي ذراع زوجته ويجلسان على مقعدين من الصفوف الوسطى، فسألت والدي بدهشة ” هو عبد الوهاب ليه ما بيشتريش تذكرة غالية في الكراسي الأمامية؟”، فضحك وقال لي ” ده أستاذ كبير وعارف فين الكراسي اللي لما تقعد فيها تسمع أحسن”. في تلك الليلة جلست مبهورا بالممثلين والمطربين في ملابسهم الملونة وهم يتحركون على المنصة ويغنون، وبالأوركسترا الذي كان يعزف، وظل هدير الآلات الموسيقية الحية والألحان العبقرية يملأ نفسي إلي اليوم. عام 1972 سافرت إلي روسيا للدراسة وقد تجاوزت العشرين، وكان يدرس معنا من الموسيقيين رمزي يسى، وجمال سلامة، وأيضا المايسترو سليم سحاب. وجمعتني بسليم صداقة قوية مازالت مستمرة ولم يكن قد أنهى بعد شهادة الكونسرفتوار في قيادة الأوركسترا. حينذاك فكرت في تكوين فرقة موسيقية للأغاني الوطنية، ووجدت ملحنا شابا ومطربا واحدا من لبنان، أما كلمات الأغاني فكنت أنا أكتبها. قلت أتوجه إلي سليم سحاب لينضم إلينا ويقود الفرقة، ووافق سليم وبدأنا البروفات، لكن سليم سحاب لاحظ بعد مرتين أنه لم يسبق قط لمايسترو أن قاد فرقة مكونة من مطرب واحد! واقترح أن نبحث عن طلاب ليشاركوا في الغناء. وكان الدارسون المصريون حينذاك قلة قليلة في موسكو، فلم أجد سوى صديق عزيز واحد هو حسام حبشي عرضت عليه الفكرة فقال لي بصوت عبد الفتاح القصري” لكن أنا صوتي وأنا بأتكلم سيء فما بالك إذا غنيت؟”. قلت له” هذه فرقة أغنيات وطنية، المهم الهدف الوطني”. بعد إلحاح قبل صديقي الانضمام إلي المهمة الانتحارية، فأخذته إلي سليم وقدمته قائلا ” عندليب الجيزة وكروان الشرق”. طلب سليم من الكروان أن يغني أي شيء، فبدأ الغناء وأخذت الكارثة تتضح. انتحى بي سليم سحاب ركنا وقال مذهولا بلهجته اللبنانية” العمى؟ ماهذا؟ صديقك إنسان لم تدخل نغمة واحدة إلي واحدة من أذنيه في حياته”. قلت له” يا سليم يا عزيزي، أتعرف من والده؟ والده إنسان تقدمي مناضل كافح من أجل العدالة الاجتماعية والتحرر الوطني”! دق سليم كفا بكف صائحا”العمى. شو أنا بأعمل فرقة ولا حزب سياسي؟”. مع ذلك استمرت الفرقة حتى أننا ذات يوم قدمنا عرضا بحضور الشاعر الكبير محمود درويش الذي كان في زيارة لموسكو، وكنا قد اشترينا للفرقة زيا موحدا فأخذ محمود درويش يسمع الأغاني ويهز رأسه وأنا جالس بجواره ثم همس لي” أحسن شيء يا أحمد حكاية زي الفرقة الموحد. حقكم كمان تعملوا زي موحد للمستمعين عشان اللي يهرب تعرفوا تجيبوه بسرعة”! بعد تلك الفرقة توقفت محاولاتي للانضمام النشط إلي عالم الموسيقا الرفيع، واكتفيت بأن” عشق الروح مالوش آخر.. لكن عشق الجسد فاني”! وأمست علاقتي بذلك الفن علاقة عشق من طرف واحد، من بعيد بس، أحتفظ بوفائي له، لكننا لا نلتقي.
***
د. أحمد الخميسي. كاتب مصري