«ستيفن شور» يقرأ اليومي والمألوف ليصنع الغرابة
أبوظبي .. شعرية الجَمال
سلمان كاصد
غريب هو أمر الصورة الفوتوغرافية.. أتساءل حقاً.. هل الضوء والظل خطوتان تقيدان مكاناً، أم هما خطوتان تمتدان في مكان لا متناهٍ.
بالأمس البعيد قال الشاعر إن حافري فرسه يقيدان المكان والأوابد، واليوم يقول المصور الفوتوغرافي: إن عدسة كاميرته تطلق المكان والزمان إلى اللاحدود واللارؤية.
المساحات لم تعد مساحات، هي رؤى ذات تصور فلسفي، لم تعد الصورة صورة للرؤية، بل هي فكرة للتأمل وخلق تخيلات أرادتها عدسة المصور.
الصورة رمز جريء يبحث عن تأويل. الصورة هوية ذات معنى إنساني حتى وإن التقطت للمكان المحض، مَنْ قال إن المكان لا يمتلك إنسانيته؟، فكل شيء فيه ينم عن شعرية أراد لها المصور أن تتجسد بكل قوانينها الجمالية. الصورة حدس الفنان الفوتوغرافي بأهمية اللحظة التي لا يريد أن تهرب، انه سارق النار في تلك الاختطافات المتخيلة.
الصورة ليست نزهة سائح يجوب العوالم البعيدة، هي بؤرة زمانية تلتقط التاريخ الذي يريد أن يزول، إذ لا تعاد أبداً لقطة عبرت لحظة تاريخية، ولا صورة تنطبق على أخرى، كل صورة لها زمانها، انخطافها الذي لا يعيد نفسه.
ذلك ما أفهمه من معرض “تعابير إماراتية” 2011 والذي أقامته شركة أبوظبي للتطوير والاستثمار السياحي في أبوظبي، والذي ضم أعمال فنانين مهمين من الإمارات.
تعابير إماراتية، رؤية للإمارات، لحياة الناس فيها، لعالم معلوم ومجهول، للهامش والمركز، للغائب والحاضر، للجمالي والمهمل، للإعلان وصياغته، للغرابة والمألوفية، للضوء والظل، للظلام والإشراق، للبناء والهدم، للصحراء والبحر، للنخلة والفيء.. لكل شيء.
تأصيل الهوية
معرض “تعابير إماراتية” قراءة فوتوغرافية لعالم الإمارات، لاستكشاف الذات ولتأصيل الهوية، قراءة فوتوغرافية للإلهام، لصناعة الإنسان لخيالاته التي صاغها في المكان، قراءة لأفكار إنسان صنع ورحل، إنسان مجهول لم يعلن عن اسمه لصناعة بشر مروا من “هنا”، لامتزاج حضارات أسهمت في صياغة مقولاتها الفلسفية في الأشياء.
ما أدهشني حقاً هو ما قدمه “ستيفن شور” المصور الأميركي العالمي “1947” والذي نشرت أعماله على نطاق واسع في العالم، وكان ثاني مصور فوتوغرافي يعرض منفرداً في متحف الميتروبوليتان في نيويورك. “شور” الذي قدم مع طلابه أعماله التصويرية في معرض “تعابير إماراتية” كونه المشرف على ورشة العمل فيها والتي انضم لها شباب وشابات من الإمارات. “شو” الذي زاوج بين التصوير والتأليف فيه، فكان بصرياً ورؤيوياً تمتزج عنده الصورة.
الفن لدى “شور” استكشاف وليس هدفاً، وهو محاولة للإجابة عن سؤال عن مفهوم المتعة في الصورة، عن مفهوم الفرح في لحظة التوثيق التي يكتنفها الجمال الذي يصوغ كيمياء حدس اللحظة المصورة وتركيبة الأشياء وعلاقاتها ببعضها في الصورة، الضوء، الظل، أجزاء المكان، إشراقة الوجوه، غموض الأجساد، اقتطاع الأجزاء، اكتمال العالم”.
رؤية معرفية
يرى “شور” أن ثقافة المصور مستمدة من رؤيته للمعرفة، وكلما تعمقت تلك الرؤية زاد بريق الصورة الفوتوغرافية التي يلتقطها، بل زادت لحظة الإدهاش التي يصنعها، إن الفوتوغراف فن صناعة عالم آخر هو عالم التخيل الذي نهض من الواقعي.
أتساءل.. لماذا عندما نمر على الواقعي لا نحفل به؟
أتساءل.. لماذا عندما نمر على المتخيل من الواقعي ذاته نراه أكثر غموضاً وإشراقاً فيثير فينا التساؤلات الكثيرة؟
يرى “ستيفن شور” أن التصوير يصبح مشكلة خاصة، فالوسيلة في حد ذاتها تفرض الكثير من التدقيق في النتيجة النهائية”.
ويندهش “شور” حين يتحاور مع المصور الإماراتي سالم القاسمي “أحد المشاركين في ورشة تعابير إماراتية التي يشرف عليها (شور)” .
وفي خضم نقاشهما يقول القاسمي: “إننا نبتكر تقاليد جديدة في فن التصوير الفوتوغرافي”.
ويعلق “شور” على مقولة القاسمي فيقول: “وهذا بالضبط ما كنت أرمي إليه، فالحل بالنسبة لهؤلاء الفنانين – ويقصد المشتركين في ورشة تعابير إماراتية – لا يكمن في السعي للحصول على القبول في عالم الفن من خلال اعتماد الحس الغربي تماماً، ولا هو في لصق قشرة عربية على نواة الحداثة، وإنما على كل فنان أن يجد صوته الخاص، وهذا الصوت ليس مجرد رفض للماضي، ولا هو تكرار عبودي للتقاليد”.
كل ذلك يلح علينا هنا أن نبحث عن صوت “ستيفن شور” الخاص وكيفية تعامله مع العالم، وما هي مواطن الحداثة لديه في صورته الفوتوغرافية من خلال اشتراكه بجناح خاص في معرض “تعابير إماراتية” متجاوراً مع زملائه – طلابه المنضمين إلى الورشة التي أشرف عليها – من خلال 51 صورة فوتوغرافية تتحدث عن عالم أبوظبي في عام 2009.
أسيجة لا متناهية
التقط “ستيفن شور” من أبوظبي أسيجة شوارعها، أيقوناتها، ملامح بحرها، عوالمها الأسطورية، التقط “شور” شوارع أبوظبي، مساجدها، جماليات وطرز عمارتها، تقاليدها، وتشكيلة أسيجة بيوتها، لحظات إيداع صحفها على واجهات أبواب المنازل، شارع الكورنيش الذي يناغم ازرقاق أرضيته سطح البحر، نخلة وليدة على ضفاف البحر، شجر يتسلق بوروده الحمراء على بساط أزرق هو البحر، باب حديدي في جدار يحمل فانوسين عند ركنين بيضاوين، سياج طويل لبيت بعيد، نخلات تحيط بواجهة بيت يلمع زجاجه الأخضر الملون، نخلة وسط ممشى الشارع، ثلاث عمارات تتمشى في شارع أسفلتي، سعفة نخيل منحنية فوق الرمل، جلد نمر منشور على سياج شرفة بعيدة، سياج بيت أقرب لمنحوتة حداثية.
تلك هي عوالم أبوظبي التي التقطتها عدسة “ستيفن شور”.
يقول: “اعتمدت في هذه الصور منهجاً متخصصاً بعلم الإنسان، وأعني بذلك أنني تقصدت مراقبة الأشياء من وجهة نظر العالم بالأمور من الخارج، والذي يولي أهمية للاعتبارات الثقافية لكل ما يلاحظه”.
ملحوظتان غائبتان
في صورة لا تحمل “عنوانات” نجد شور يؤطرها بمساحات فقط طولاً وعرضاً، وقد أدرج عليها ملحوظتين وهما “أبوظبي 2009” و طباعة ملونة “ونحن نعرف جيداً” كما جاء في تقديمه لأعماله أن الأعمال جميعاً التقطت في أبوظبي من عام 2009 وأنها جميعاً ملونة.
وتتكرر هاتان الملحوظتان / العبارتان مع كل صورة فوتوغرافية، حتى الصورة 51 التي لا اسم لها مثلما هي أخواتها.
الصورة الأولى لسياج كورنيش أبوظبي أراد الفنان “ستيفن شور” منها أن يقدم لنا جزءاً من هذا السياج الذي يوحي بجسد امرأة حاملة شمعداناً فيه 3 شمعات تضيء المكان. الأزرق يناغم الأزرق واستغلال أمثل وجميل للفراغ والرمز يوحي بالمعنى، والتأويل لا يبتعد كثيراً عن شكل جسد آدمي يحمل شمعدانات ثلاثة.
ويتبع تلك الصورة لقطة من ذات المكان، ولكن هذه المرة من خلف ازدحام ورق الشجر حيث يبصر “شو” ما وراء الاخضرار من بحر ممتد ونخلات بعيدات زرعن حديثاً، كثافة أوراق الأشجار، امتزاج سعف النخيل، انطباق السماء الزرقاء على بحر مزرق.
يلتقط “ستيفن شور” صورة في صورة، لقطة في صورة فوتوغرافية. أراد “شور” أن يعيد لحظتها فالتقطها من صورتها، لا من الواقع، فاختلفت لحظتا الالتقاط، كل واحدة منهما تمتلك زمنيتها، ولهذا كانت تلك لا تشابه هذه، برغم أنهما لعالم واحد.
ويقتنص شور بناء مسجد صغير من زاوية زقاق بين عمارتين، بياض القبة وإشراقة الشمس على مسجد جلس هادئاً تظلله عمارات طويلة.
مما يلفت الانتباه اهتمام هذا الفنان الأميركي المتمرس بأسيجة البيوت ونظرته لجماليات تكوينها.
شعرية السياج
الأسيجة رؤى أصحابها، شعرية أفكارهم، جماليات تصورهم، شعورهم بالاطمئنان، والفرح، عزلتهم عن الآخر، انفتاحهم على العالم، قراءتهم للتشكل الأيقوني، اهتمامهم بالتكوينات المعقدة، ربما البسيطة، ربما الساذجة، أو ربما القلقة، الأسيجة منحوتات لا مرئية يصنعها الإنسان وهو يقدم رؤيته للعالم.
أسيجة تقف عندها مندهشاً، أسيجة تمر بها مروراً عابراً، أسيجة نتساءل عندها: لماذا؟.. أسيجة تطلق لحظة رؤيتها كلمة “الله”.. أسيجة بلا ملامح، أسيجة نسوية الرؤية، أسيجة ذكورية الصرامة، أسيجة رقيقة، وأخرى حالمة، أسيجة طويلة وأخرى ضئيلة، أسيجة عالية، وأخرى قصيرة القامة، أسيجة ملونة وأخرى بيضاء، أسيجة وراءها أسيجة.
يلتقط شور بيتاً كبيراً، بأجنحة عالية، بامتداد بعيد إلى السماء بواجهات زجاجية خضراء.. بسياج لا يصل قامة رجل، يحيط به سياج آخر من شجرات النخيل خارج الدار.
يلتقط باباً حديدياً كأنه درع من حروب قديمة، محاط بنبال مسننة يحمله عمودان إسمنتيان طويلان مغلفان بالمرمر الأبيض وفوقهما فانوسان على جهتي الباب، وفي جهتي الباب الرئيسي بابان آخران صغيران توالدا من الباب الأكبر.. لماذا؟ إنها صورة للتساؤل.
بيت صغير.. بعيد، في آخر الأفق وسياج طويل ممتد كأنه جناحا طائر، وثمة باب يقابل الدار الذي بدأ يبتعد أكثر فأكثر عن عدسة “ستيفن شور”.
اللحظة التاريخية
يحاول ستيفن شور أن يلتقط المهمل والعادي والمألوف ليجعله لا مألوفاً في صوره، إنه يلتقط اللحظة التاريخية التي جعلت من هذا التكوين تكويناً غريباً.
وربما نتساءل معاً حين يلتقط “ستيفن شور” صورة فوتوغرافية لمزهرية تحمل شجرة صغيرة، أغصان شجرة تحمل أوراقاً خضراء. جسم المزهرية مذهب وقد نصبت وسط حديقة أرض خضراء. حجر المزهرية منحوت فتحول الى أيقونة تحمل إناءً تجلس في داخله الشجرة الصغيرة، وكأننا نتساءل انه اخضرار على اخضرار، كلاهما يناغم الآخر، ثمة تبادل روحي في الأخضر وانغمار فيه إلى حد اللذة.
ويحاول “ستيفن شور” أن يقدم الغرابة في عالم مليء بالواقعية، عمود كهرباء وشجرتان عند رصيف الشارع، وعند ذات المكان تجاورت التصاقاً إحدى الشجرات مع العمود نفسه، ثمة فراغ هناك عند الرصيف، غير أن الشجرة أبت إلا أن تجاور العمود.
هنا نتساءل: هل كانت الشجرة تبحث عن ظل العمود حينما التصقت به؟، أم أنها تريد أن تمنح ظلها للعمود الملتهب تحت الشمس؟.. إنه تساؤل فحسب.
ويقدم “ستيفن شور” الطرافة، واللقطة اللافتة والانتباهة الذكية للمصور المحترف وهو يلتقط أجزاءً من عوالم أبوظبي.. حيث لافتة تشير إلى عنوان لمحل لصناعة أدوات السيارات، لافتة مرسومة بإتقان لأجزاء محركات السيارة، براعة في الرسم، ودقة في الأبعاد، وجمالية في التكوين، وكأن “شور” يتساءل لماذا لا يشتغل هذا الصانع فناناً، وهل الفنان إلا صانع ماهر.
إن شور هنا يقدم فناناً بارعاً قادته الحياة ليكون صانعاً فيها.
في أبوظبي مهارات شعوب تريد أن تصنع حضارة، مهارات لنحاتين فطريين، لصناع أشكال أيقونية تحمل أساطير متعددة، صناع يحفرون على الخشب، وفي الأحجار، يحفرون زهوراً وأوراقاً تتحول بين أيديهم إلى حكايات، حكايات التناظر الجمالي الأخاذ، الدقة في مقابلة الجسد للجسد، الجزء للجزء، والكل للكل.
الموضوع الأصلي: الفنان «ستيفن شور» مصور يقرأ اليومي والمألوف ليصنع الغرابة بمعرضه في أبوظبي || الكاتب: بدر ظفور || المصدر: منتدى المفتاح