في تكوّن الشخصية وحياتنا الصحية
شخصيتنا هي أول ما نعكسه للعالم الخارجي من كل ما ترسب وكوناه خلال سنين تربيتنا في أي مجتمع كان. وهي ما تعكس نضج الإنسان أو عدمه، وهي تتغير أو تتطور مع الزمن ومع اكتساب المعرفة والخبرة. كان هذا ما استند عليه علماء النفس في تحليلهم الشخصية عند الفرد، كونها مكونة من ترسبات متراكمة، وعي ولا وعي شخصي نتيجة ما أثر فينا وأدى إلى تكون شخصيتنا.
آليات دفاعية
يذهب علم النفس أبعد من ذلك ليفصّل في أن الفرد يكوّن آليات دفاعية حول شخصيته، لتقوم بحمايته من أي حدث أو مشاعر سلبية. لذلك قد تتكون الشخصيات «الدفاعية» غالباً في تناقض مع موقعها الاجتماعي او مع ما نعتبره طبيعيً في أية شخصية ناضجة، نتيجة الرفض السلبي للواقع. من هذه الآليات الدفاعية التفاعلات التي قد نراها مثلاً: في التكيف مع الأحزان، أو الحالات الاجتماعية الصعبة، المزاح والتهكم، أو التمثل بشخصية ما (شخصية المثقف أو الموسيقي…). وما تقوم به هذه الآليات الدفاعية، من كبح للمشاعر، يؤدي إلى تراكمها، ما يؤدي إلى اضطرابات نفسية، عقلية، أو جسدية، أحياناً مع مبرر بيولوجي، وأحياناً من دونه.
مقاربات بسيطة من يومياتنا قد توضح المسألة: فالحزن، القلق، والعصبية مثلاً، هي من الأسباب التي تؤدي إلى أمراض القلب والسكري، وممكن أن تؤدي إلى أمراض أخرى ربطها يصبح أعقد.
بين فرويد ورايش
يعود جزء كبير من الفضل لهذا الربط لفرويد الذي كان، مع انزلاقاته جميعها، أول من ربط الشخصية بنشوء الاضطرابات. أما التحليل الذي استند إلى فرويد بتعقيد أكثر، هو الذي ربط حركة أعضاء الجسد بالطاقة السلبية (غير الفاعلة) والإيجابية (الفاعلية)، وهو ما قام به في منتصف القرن الماضي فيلهلم رايش (أحد علماء النفس) حيث ربط حركة الجسد بالطاقة – أطلق عليها اسم الأورغون-، تفصيلاً بكيفية استيعاب الطاقة الخارجية، التي تأتي من كل ما يحيط بالإنسان، وضرورة خروج هذه الطاقة مجدداً إلى خارج الجسد، لكي يحافظ على توازنه، ولكي يبقى الجسد بعيداً عن الاضطرابات. ولقد ركز رايش أبحاثه حول السرطان، كونه يعبّر عن تخثر الطاقة داخل الجسد، فتصبح سلبية عند عدم قدرتها على الخروج(التبادل) وإعادة التوازن للجسد. المعادلة بسيطة من حيث المبدأ، ولكن رايش ابتعد أكثر من ذلك، فتفسيره لعلاقة الطاقة بالجسد، لم يكن مطلقاً أو عاماً، بل كان تفصيلياً في كل عضو أو عضلة في الجسد وفي علاقة هذه الأعضاء بعضها ببعض. ولقد ربط رايش سلبية الطاقة أو تخثرها مع آلية الدفاع عند الإنسان، وما يسمى في علم النفس تحليل الشخصية(الطباع).
العامل الجنسي والاجتماعي
المؤسف أن أبحاث رايش تمت مقاطعتها ومنعها من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية، واعتقل رايش وتوفي في السجن، فلم يعد متداولاً بها كثيراً، ولكنه كان أول من ربط أسلوب الحياة بقدرة أعضاء الجسد على إخراج الطاقة وإعادة التوازن، وبالتالي بنشوء الاضطرابات. ومع ربطه الحياة الاجتماعية أو المحيط بتكون الشخصية والاضطرابات، ابتعد رايش كباحث ماركسي ،كما يعتبر هو، عن فرويد وتقدم عنه، من ربط العامل الجنسي فقط بتكون الشخصية إلى ربط العامل الاجتماعي أيضاً.
وإذا كنا نعيد إلى رايش تحليل الشخصية وآليات الدفاع، فلأن علم النفس السائد بتسطيحه لحياة الإنسان وإدراكه، وعلاقته بمحيطه لم يستطع الإجابة عن أسئلة كثيرة تتعلق بصحة الأفراد. بل ربط بعض الآليات الدفاعية عند الأفراد التي نراها سلبية في المجتمع بعامل شخصي أو مادي معزول(التربية، الفقر المادي أو الذهني).
أبحاث صينية مقاربة
الأهم في علم النفس، هو فهمنا لواقع حياتنا وشخصيتنا، وما هي مصادر الطمأنينة ومصادر القلق أو الخوف عند كل فرد منا. وهذا ما جاء في دراسة صدرت عن جامعة نانجين (الصين) في العام الحالي، حول آليات الدفاع التي نقوم بتشكيلها، حيث خلص الكاتبان إلى خلاصات متقاربة من حيث منهجية البحث والنتائج مع أبحاث ونتائج رايش. وما يمكن أن يختصر بآليات الدفاع السلبية (غير الفاعلة) وآليات الدفاع التكيفية (التي نستطيع أن نتكيف من خلالها مع الحدث). وبكون الأولى ستؤدي إلى إعاقة الإدراك وبالتالي إلى اضطرابات، أما الثانية فقد تقلل من المشاعر السلبية أو تتحكم بها بفعالية، وتؤدي مع الوقت إلى التكيف التفاعلي مع الأحداث السيئة. ما يثير الإعجاب أن الباحثين استعملا آلية بحث متقاربة من آلية بحث رايش، حيث استندا إلى الطاقة لقياس آليات الدفاع وتاثيرها على الافراد، وانطلقا من فرويد، ولكن لم يذكرا رايش في الدراسة. وهذا ما تعبر عنه الولايات المتحدة ب«حرية التعبير».
إدراك الآليات
من اي تيار في علم النفس انطلقنا والنقد لهذه التيارات، نصل إلى النتيجة نفسها، أنه لا يمكن لأي فرد تفادي تشكيل آليات دفاعية حول شخصيته، ليس لأننا ضعفاء بل لأننا نعيش ضمن مجتمع لا نتحكم بالياته عند تكون هذه الاليات الدفاعية. ولكي نستطيع الاجابة عن هذا السؤال يجب أن ندرك آلياتنا، وأين ولماذا نشأت، وكوننا ننطلق من تيار علم النفس الذي يقول بارتباط العامل الاجتماعي مع العامل النفسي والجسدي، فالعامل الاجتماعي هو الأهم في التقليل من الآليات الدفاعية السلبية، والتي لا نراها متناقضة مع الخروج من الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي السيء الذي نعيش، ومن دائرة الحروب كعامل مهم وأساس.