20 عاماً على الرحيل: بماذا أخبرنا ونوس؟
تمرّ اليوم الذكرى العشرين لرحيل المبدع المسرحي السوري، سعد الله ونوس.
قبل واحد وعشرين عاماً، وبينما كان العالم مأخوذاً بالكلام الإمبريالي عن “نهاية التاريخ” بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وسيادة واشنطن على العالم، وقف ونوس على خشبة مسرح الحمرا بدمشق، ليلقي رسالة يوم المسرح العالمي، التي جاء فيها:
لو جرت العادة على أن يكون للاحتفال بيوم المسرح العالمي، عنوان وثيق الصلة بالحاجات التي يلبيها المسرح، ولو على المستوى الرمزي، لاخترت لاحتفالنا اليوم هذا العنوان «الجوع الى الحوار». حوار متعدد، مركب، وشامل. حوار بين الأفراد، وحوار بين الجماعات. ومن البديهي أن هذا الحوار يقتضي تعميم الديمقراطية، واحترام التعددية، وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء وعندما أحس هذا الجوع، وأدرك إلحاحه وضرورته، فإني أتخيل دائماً، أن هذا الحوار يبدأ من المسرح، ثم يتموَّج متسعاً ومتنامياً، حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه، سيظل ذلك المكان النموذجي، الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي معاً.
وميزة المسرح التي تجعله مكاناً لا يضاهى، هي أن المتفرج يكسر فيه محارته، كي يتأمل الشرط الإنساني في سياق جماعي يوقظ انتماءه إلى الجماعة، ويعلمه غنى الحوار وتعدُّد مستوياته، فهناك حوار يتم داخل العرض المسرحي، وهناك حوار مضمر بين العرض والمتفرج. وهناك حوار ثالث بين المتفرجين أنفسهم.. وفي مستوى أبعد، هناك حوار بين الاحتفال المسرحي «عرضاً وجمهوراً» وبين المدينة التي يتم فيها هذا الاحتفال. وفي كل مستوى من مستويات الحوار هذه، ننعتق من كآبة وحدتنا، ونزداد إحساساً ووعياً بجماعيتنا.
ومن هنا، فان المسرح ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب، بل هو شرطٌ من شروط قيام هذا المجتمع، وضرورة من ضرورات نموِّه وازدهاره. ولكن عن أي مسرح أتكلم؟! هل أحلم، أم هل أستثير الحنين إلى الفترات التي كان المسرح فيها بالفعل حدثاً يفجر في المدينة الحوار والمتعة!
لا يجوز أن نخادع أنفسنا، فالمسرح يتقهقر. وكيفما تطلعت، فإني أرى كيف تضيق المدن بمسارحها، وتجبرها على التقوقع في هوامش مهملة ومعتمة، بينما تتوالد وتتكاثر في فضاءات هذه المدن الأضواء، والشاشات الملونة، والتفاهات المعلبة.
لا أعرف فترة عانى فيها المسرح مثل هذا العوز المادي والمعنوي. فالمخصصات التي كانت تغذيه تضمر سنة بعد سنة، والرعاية التي كان يُحاط بها، تحوَّلت إلى إهمال شبيه بالازدراء، غالباً ما يتستر وراء خطاب تشجيعي ومنافق. وما دمنا لا نريد أن نخادع أنفسنا، فعلينا الاعتراف بأن المسرح في عالمنا الراهن بعيد عن أن يكون ذلك الاحتفال المدني، الذي يهبنا فسحة للتأمل، والحوار، ووعي انتمائنا الإنساني العميق.
وأزمة المسرح، رغم خصوصيتها، هي جزء من أزمة تشمل الثقافة بعامة. ولا أظن أننا نحتاج إلى البرهنة على أزمة الثقافة وما تعانيه هي الأخرى من حصارٍ وتهميشٍ شبه منهجيين. وإنها لمفارقة غريبة أن يتم ذلك كله، في الوقت الذي توفرت فيه ثروات حوَّلت العالم إلى قريةٍ واحدةٍ، وجعلت العولمة واقعاً يتبلور، ويتأكد يوماً بعد يوم.
ومع هذه التحولات، وتراكم تلك الثروات، كان يأمل المرء، أن تتحقق تلك اليوتوبيا التي طالما حلم بها الإنسان. يوتوبيا أن نحيا في عالمٍ واحدٍ متضافر، تتقاسم شعوبه خيرات الأرض دون غبن، وتزدهر فيه إنسانية الانسان دون حيفٍ أو عدوان. ولكن.. يا للخيبة فإن العولمة التي تتبلور وتتأكد في نهاية قرننا العشرين، تكاد تكون النقيض الجذري لتلك اليوتوبيا، التي بشَّر بها الفلاسفة، وغذت رؤى الإنسان عبر القرون، فهي تزيد الغبن في الثروات، وتعمِّق الهوة بين الدول الفاحشة الغنى، والشعوب الفقيرة والجائعة. كما أنها تدمِّر دون رحمة، كل أشكال التلاحم داخل الجماعات، وتمزقها إلى أفرادٍ تضنيهم الوحدة والكآبة.
ولأنه لا يوجد أي تصور عن المستقبل، ولأن البشر وربما لأول مرة في العالم، لم يعودوا يجرؤون على الحلم فإن الشرط الإنساني في نهايات هذا القرن يبدو قاتماً ومحبطاً. وقد نفهم بشكلٍ أفضل مغزى تهميش الثقافة، حيث ندرك أنه في الوقت الذي غدت فيه شروط الثورة معقدة وصعبة، فإن الثقافة هي التي تشكل اليوم الجبهة الرئيسية لمواجهة هذه العولمة الأنانية، والخالية من أي بعد إنساني، فالثقافة هي التي يمكن أن تبلور المواقف النقدية، التي تعري ما يحدث وتكشف آلياته، وهي التي يمكن أن تعين الإنسان على استعادة إنسانيته، وأن تقترح له الأفكار والمثل التي تجعله أكثر حرية ووعياً وجمالاً.
وفي هذا الإطار، فإن للمسرح دوراً جوهرياً في إنجاز هذه المهام النقدية والإبداعية، التي تتصدى لها الثقافة. فالمسرح هو الذي سيدربنا، عبر المشاركة والأمثولة، على رأب الصدوع والتمزقات التي أصابت جسد الجماعة.
وهو الذي سيحيي الحوار الذي نفتقده جميعاً. وأنا أؤمن أن بدء الحوار الجاد والشامل، هو خطوة البداية لمواجهة الوضع المحبط الذي يحاصر عالمنا في نهاية هذا القرن.
إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ
منذ أربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان. وكانت الكتابة، وللمسرح بالذات، أهم وسائل مقاومتي. خلال السنوات الأربع كتبت، وبصورة محمومة، أعمالاً مسرحية عديدة. ولكن ذات يوم، سُئِلت وبما يشبه اللوم: ولِمَ هذا الإصرار على كتابة المسرحيات، في الوقت الذي ينحسر المسرح، ويكاد يختفي من حياتنا! باغتني السؤال، وباغتني أكثر شعوري الحاد بأن السؤال استفزني، بل وأغضبني. طبعاً من الصعب أن أشرح للسائل عمق الصداقة المديدة التي تربطني بالمسرح، وأنا اوضح له، أن التخلي عن الكتابة للمسرح، وأنا على تخوم العمر، هو جحودٌ وخيانةٌ لا تحتملها روحي، وقد يعجِّلان برحيلي. وكان عليَّ لو أردت الإجابة أن أضيف: «إني مصرٌّ على الكتابة للمسرح، لأني أريد أن أدافع عنه، وأقدم جهدي كي يستمر هذا الفن الضروري حياً». واخشى أنني أكرر نفسي، لو استدركت هنا وقلت: «إن المسرح في الواقع هو أكثر من فن، إنه ظاهرة حضارية مركبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً، لو أضاعها وافتقر إليها. ومهما بدا الحصار شديداً، والواقع محبطاً، فإني متيقن أن تضافر الإرادات الطيبة، وعلى مستوى العالم، سيحمي الثقافة، ويعيد للمسرح ألقه ومكانته.
إننا محكومون بالأمل. وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ..!
مقاطع من كلمة ونوس في مسرح الحمرا دمشق احتفالاً بيوم المسرح العالمي 27/3/1996قاسيون