الرّواية والتّاريخ
يعكس الروائي نبيل سليمان الواقع الاجتماعي في تماسكه وتناقضاته وظاهره، لا انعكاساً بسيطاً ومباشراً، بل تعبيراً عن الطّموحات التي ينزع إليها وعي الجماعة التي يتحدّث الأديب باسمها. تعالج روايات نبيل سليمان، تاريخ سورية الحديث والمعاصر، منذ العهد العثماني وحتى اليوم.
لقد غطّى نبيل سليمان بإنتاجه الرّوائي قرابة ثلاثة أرباع القرن العشرين. وكان الطّابع العام لهذا الإنتاج هي التاريخية، والاجتماعية، معيداً الحق لأصحابه البسطاء العاديين الذين أهملهم التاريخ الرسمي، فجاء الفن الرّوائي ليصوّر بطولاتهم المنسيّة.
شخصيات مدارات الشرق (الأشرعة)
1ـ الذات/الموضوع: الشخصيات محورية، تقوم في رحلة البحث عن المصير (الموضوع).
2ـ المرسِل/ المرسَل إليه: تندغم «الذات» في المرسِل، و«الموضوع» في المرسَل إليه.
3ـ العامل المساعد/ المعاكس: يتمثّل العامل المساعد في النّصير، والمعاكس في النّقيض، فالمساعد هم الجنود الذين يعودون من الحرب، أملاً في بناء حياتهم وحياة الفلاحين المظلومين. والعامل المعاكس هو الاستعمار العثماني،، الفرنسي، الإقطاعيون، الرأسماليون، حيث يتصارع الخير والشر، وتشهد أماكن الأحداث ملاحم بطولية، ومظالم عديدة يندى لها جبين الإنسانية. ويؤمن نبيل سليمان بالمذهب القائل إن البطولة ليست لفرد واحد وإنما هي للجماهير.
الشخصيات المحورية:
1ـ راغب الناصح، من الجولان.
2ـ ياسين الحلو، من الزنبقلي في جسر الشغور.
3ـ إسماعيل معلا، من كفر لالا، في مصياف.
4ـ عزيز اللباد، من قبية، في صافيتا.
5ـ فياض العقدة، من المشرفة، في حمص.
هؤلاء الأبطال فرّوا من الجيش العثماني والتحقوا بالجيش الميمّم شمالاً، جيش الثورة العربية الكبرى. وبعد أن انتصرت الثورة رغب كل منهم في العودة إلى قريته، بعد أن انتهى الجهاد الأصغر، في محاربة العدو الخارجي، وجاء الجهاد الأكبر، في محاربة العدو الداخلي (الإقطاع، البورجوازية).
بنات نعش:
يهدي نبيل سليمان هذا الجزء قائلاً:
«لبو علي ياسين وعبد الرّحمن منيف،
لأفئدة تلوّح:
سلاماً
لشرق قضى
وقرن مضى
سلاماً
لدنيا جديدة».
حيث يتابع نبيل سليمان في الجزء الثاني من «مدارات الشرق» مصير الشخصيات، وتبدأ بطلقات عزيز اللباد على عبود بك الرشدة الذي قتل هيلانة:
«صارت البندقية خفيفة بين يديه، كالرّيشة. صارت دافئة وأليفة، كأنّها لم تغادره منذ انتزعوه من قبية، وجعلوه يقطع هذا السّهل حتى طرابلس. لا ينبغي له أن ينأى عنها ثانية، وحدها تستطيع أن تجمع في ومضة سنيه المقضيّة، أسفاره ومراراته، أصدقاءه وأهله، سنيّه التي قد تكون بقيت له، أجمل أو أقبح، ما الفرق؟
وحدها البندقية يستطيع أن يركن إليها وقت الشدة. وعما قليل سوف ترفع حذاء عبود بك وغير عبود بك عن رقبته. سوف تنتزع من تحت ذلك الحذاء وكل حذاء، سوف تنتزع هيلانة من أحضان الضيوف العرب أو الفرنسيين أو الأتراك، وتمسح دموعها وجراحها، تستر عريها، وتزفّها، أو تشيّعها كما يليق. لن يدع عزيز أحداً يخرج في جنازتها سواه. وإذ يصل بالنعش الصغير إلى أهلها يطلب يدها، ويدفن فؤادها معه، وينطلق ثانية مثلما انطلق من حمص بعد أن أودع نجوم لدى العم حاتم.
كان يعاين فتحات القصر ومحيطه، الأضواء والأصوات، والليل يعدو وهو يلهث خلفه، ويملأ صدره من الهواء المسائي القوي، ويحمحم مثل حصان، يكتم ضحكته مما كان بالأمس، بل لتوّه، ويحاول أن يقلّد نهيق الحمار.
قبيل الفجر قرّر أن الجميع قد هجعوا. تسلل من البرج خفيفاً وممتنّاً للعيون الغافلة. دار حول القصر حتى النافذة التي قدر أن وردة كانت تنام خلفها. أيقظت طرقاته الخفيفة من كانت نائمة خلف النافذة، وجاءه صوت غير أليف. أمر صاحبة الصوت بفتح النافذة. ظهرت وردة في النافذة، فشهق وسمّى باسم الله الرحمن الرحيم. سأله الصوت عما يبتغي، وخاطبه باسمه. صار الصوت أليفاً، بيد أن صاحبته لم تعد وردة تماماً. سأل عمن في الغرفة وأمر صاحبة الصوت أن تذهب لتنام في مكان آخر. قفز إلى داخل الغرفة وصوت وردة يشهق. أمر الخادمة بالصّمت، ثم أمرها أن تستطلع له الممر والطابق الأرضي. خرجت الخادمة منوّمة، ولم تلبث أن عادت بصوت وردة الرّاجف:
ـ لا أحد.
سأله الصوت أو رجاه:
ـ ماذا تريد يا عزيز؟
ـ ريثما أعود افتحي النافذة المجاورة للبوّابة. افتحي النافذتين المجاورتين وعودي إلى غرفتك، ونامي. أغلقي هذه النافذة ونامي. إياك أن يراك أحد.
ألحّ الصوت:
ـ ماذا تريد يا أخي؟
وكان قد ابتعد. جرت خلفه، لكنه كان قد بدأ يقفز فوق الدّرج إلى الطّابق العلوي. طارت إلى البوابة، ثم إلى غرفتها، وقبل أن تستلقي سمعت دويّ رصاصة أو رصاصتين. طارت إلى الممر، لكن صوت خبطة قوية سمّرها. تلفّتت حيرى، جزعة، فإذا بدويّ جديد للرّصاص. جرت إلى نافذة غرفتها تدعو الله أن يحمي عزيز اللباد، وتمعّن في عتمة الليل التي تضاعفها ظلال الأشجار. ولم تلبث الأضواء أن أخذت تشتعل في القصر، والأصوات تعلو».
الشخصيات الأنثوية:
جانيت الفرنسية، خديجة التكلي، والست زهرة، ووردة، أم عثمان، نجوم. لكن النّص الرّوائي يتّهم جميع نساء المدينة بالتهتّك والعهر: سارة، مريانا، أم نور الدين، بينما يرى كل نساء الرّيف فاضلات، ولا همّ لهن غير العمل والبطولة. والمرأة الرّيفية تتمتّع بقوّة نادرة في الدّفاع عن شرفها أمام البيك والآغا والوكيل: فأم عثمان تصمد أمام الكثير من المحاولات، وتحترم سنّها وأمومتها، ووردة عندما تُرغم على التعرّي أمام الفرنسي، تهرب، لتموت في بطولة تراجيدية، دفاعاً عن شرفها. ونجوم الصوان، الصلبة، الشجاعة، ترتقي إلى مستوى الرمز الوطني والتاريخي، لتمثّل الشام والوطن كلّه.
يشكّك نبيل سليمان بصدق العربي فيما يتبنّاه من مبادئ: «هل الجمهورية عميقة وأصيلة فينا؟ كما أظن أنّ فكرة الديمقراطية ليست أصيلة ولا عميقة، رغم كل ما نعتدّ به من زوايا مضيئة في التاريخ».
حاول سليمان في «مدارات الشرق» أن يبحث في أسس التيارات الماركسية والقومية والإسلامية، ويتأمل نشأتها وما آلت فيه في القرن العشرين من دمار على جميع المستويات الفكرية والاجتماعية والوطنيّة والمؤسساتيّة.
لكن ألم يكن لأي مؤرخ أن يقوم بهذا العمل على نحو أفضل من الروائي؟ هنا تأتي تلك التجربة الغاضبة، تجربة اللذة الغاضبة: «الكتابة بلا أي حساب للخبرة الفنية وللرقيب التاريخي والسياسي، تجربة من الحرية. أظن أنها عجنت كل الحمولة التاريخية والفكرية التي في “مدارات الشرق”، واقترحت شكلاً يبدو للوهلة الأولى كلاسيكياً».
في هذه الرواية وبحسب الكاتب نفسه، ثمة تجربة خاصة في بناء الزمان الممتد عبر 65 سنة، بُني على شكل موجات. وهذا المقترح الجمالي في «مدارات الشرق»، هو إضافتها الأهم من محاولتها تصوير ما كان عليه أمر النفط في الثلاثينيات في سورية والعراق، وما وصل إليه مع بدء الانقلابات العسكرية عام 1948.
أمّا مشروعه كناشر، فتجلّى في «دار الحوار» التي أسسها سنة 1982، وانصرف إليها انصرافاً كاملاً بدل عمله في التدريس. يقول عنها منذر المصري: «أرادَ أن يخرج من حالة الهزائم المبكرة التي بدأ بها حياته وجعلها عنوان إحدى رواياته، إلى حالة الانتصارات المتأخرة، ويكون صاحب مشروع ثقافي متكامل».
مدارات الشرق:
قام المؤلفان د. محمد صابر عبيد، ود. سوسن هادي جعفر البياتي، بدراسة في الملحمة الروائية «مدارات الشرق»، متسائلين عن العلاقة التي تربط الفن الروائي بالتاريخ، بوصفه معيناً مركزياً يغذّي الراوي بمادة كثيفة وفعّالة، وكيفية استنطاق الحدث التاريخي وتفعيله روائيا، والوسائل المتاحة أمام الروائي ليستطيع تحويل الحدث الواقعي إلى رواية تاريخية، لاسيّما وأن منظّّر الرواية التاريخية (لوكاتش) اعتبر الرواية أدباً اجتماعياً، وفناً في التعبير عن المجتمع بكل إسقاطاته وتجلياته، إيجابياته وسلبياته، صفائه وشوائبه، وبكل ما يختزنه من أحداث وهموم ومصاعب إلى جانب أحلامه وآماله وطموحاته.
فإذا كانت الرواية أدباً اجتماعياً ـ في المنظور اللوكاتشي ـ والتاريخ جزءاً من نشاط المجتمع البشري في حقبة زمنية معينة، بل هو كنز الأسرار الخاصة والعامة المرتبطة به والممثلة له على نحو أو آخر، فإن الرواية هي تعبير تمثيلي ـ تخييلي عن الفضاء العام لهذا الكون الإنساني في أنموذجه الاجتماعي ـ التاريخي، فثمة علاقة ثلاثية المنشأ تستلهم أركانها من هذه الأعمدة الثلاثية المكوّنة للمثلث النصي في التشكيل الروائي: المجتمع/التاريخ/الرواية. فالمجتمع هو الأساس الأولي الحيّ وعليه ومنه ينطلق التاريخ في تسجيل أحداثه المرتبطة به والممثلة له.
ورواية «مدارات الشرق» قد استوعبت في ثناياها الكثير من الأحداث التاريخية وصاغتها صياغة روائية ـ تمثيلاً وتخييلاً ـ عبرت بالأزمنة والأمكنة الحدود الروائية التقليدية في إطارها العام، وتعاطفت مع الشّخصيات التي عانت ما عانت، من جراء خذلان أصحاب الزّعامات لها وهي تبحث عن ممكنات عيشها الرّغيد على حساب الطبقات المسحوقة، في نمط خفي من الصّراع الطّبقي المهيمن على ذهنيّة مجتمع تشكّلت نسقيته على هذا الأساس.
تجاوزت الرواية في هذا السياق السمات السردية التقليدية الجاهزة، لتخلق لها سمات مبتكرة تفرضها الطبيعة الملحمية للحدث الروائي، وصياغة حوارات ذات وظائف انفعالية وتفسيرية وإشارية، لتؤسس عبرها لغة روائية خاصة يندمج فيها المديني بالرّعوي والشرقي بالغربي، مع ما فيها من صدامات ومشاحنات وتنافر تصل حد الإذلال المتعمّد والمهين لكرامة الإنسان واستحقاقات وجوده الطبيعي في الحياة عبر كشف أساليب تعذيبية وحشية. فالرواية على وفق هذه الجدلية زاخرة بالمقابلات الضدّية مادياً ومعنوياً: الحياة والموت/الاتصال والانفصال/الثورة والرضوخ/السلطة والاستعباد/المقاومة والعجز، حيث التضاد شكل من أشكال الصراع الملحمي العنيف.