02 تشرين الأول 2010
مقدمة
ماذا يفعل الربّان والسّفينة، حين تجري الرّياح وتنتشر، حيث لا يشتهي؟! لم تكن هذه الرّياح إلاّ الكاتب والنّاقد نبيل سليمان، وليس الربّان والسّفينة إلا والده المساعد في الدّرك والانضباطي في عمله المسلكي (ابن حكومة)، الذي كان يرغب أن يُبعد ولده عن السّياسة، أيّام الوحدة السّورية والمصريّة (1958ـ1961)، بشتّى الوسائل الممكنة، ليلحقه بالثّانوية الصناعية في اللاذقية، محذّراً إيّاه دوماً من السياسة ومشاكلها. وما إن عثر الوالد على كرّاسة حزب البعث العربي الاشتراكي تحت سرير ولده البكر، حتّى ضربه وأرهبه، وقد ظهر هذا الحدث جليّاً في عمله «هزائم مبكّرة»، والتي لم تكن إلا سيرة ذاتيّة للرّاوي منذ بداية تعلّمه، وحتّى نيله شهادة الدّراسة الثانويّة الصّناعيّة، ووصفاً لتنقّله بين القرية والبلدة والمدينة، وللأحداث الهامّة التي مرّ بها الوطن، والمظاهرات الطلاّبية التي اكتسحت الشّوارع مطالبة بالوحدة والإصلاح، حيث كانت الثانوية الصّناعية، حينذاك، وكراً من أوكار البعثيّين والنّاصريّين الّذين يسيّرون التّظاهرات بهتافاتهم: «بدنا الوحدة باكر باكر مع هالأسمر عبد النّاصر». هكذا حلّق نبيل سليمان في فضاءات عبد النّاصر، ثمّ تأثّر بالماركسية، دون أن ينتسب إلى الحزب الشيوعي.
أولادكم ليسوا لكم
هذه التجربة الحياتيّة خلّدها نبيل سليمان، في عمله «هزائم مبكّرة» من خلال سيرة مواطن يُدعى «خليل»، والذي كان والده الدركيّ يحذّره قائلاً: «إيّاك يا بنيّ والسّياسة. لا تنخدع برفاق السّوء. العين لا تقاوم المخرز. مَن يقدر على الحكومة؟ ألا تذكر كيف كنتُ لا أعود حتّى الفجر أيّاماً كثيرة في طرطوس؟ الدريكيش؟ أنا أعرف أولاد المدارس وطيبتهم. أعرف الشّباب وطيشهم. كم من أستاذ ودكتور ومحام جررْته بيديّ هاتين من بيته مثل الكلب؟ ومن بين أكوام الحطب كنت أجرّهم، بعد شهور قليلة ستتخرّج وقد تصبح ابن حكومة، فكن ابنها المطيع منذ اليوم».
لكن الابن (خليل) ضرب بهذه النّصيحة عرض الحائط، فحمل دستور حزب البعث في قلبه، وآمن بأهدافه، وعندما حصل على الشهادة الثانوية، بدأ رحلة البحث عن وظيفة حكوميّة. فسافر إلى دمشق لتقديم مسابقة في وزارة الصّناعة. وهناك نصحه أحدهم بألاّ يُتعِب نفسه، لأنّ الأسماء المطلوبة للتّوظيف قد عُيّنت قبل أن تجري المسابقة. وفي ميناء اللاذقية وقّع «خليل» استمارة انتسابه إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد أن نفذ صبره. حيث لا يمكنه أن يظلّّ متفرّجاً، أو واقفاً على الحياد، ووطنه يحترق.
تزوّج والده بامرأة أخرى، وهجر أمّه وإخوته وأرسلهم للعيش بعيداً كي يظلّ مع زوجته الشابّة، ممّا ترك جروحاً، ربّما لم تبرأ، حتى الآن لدى الكاتب، الذي ما زال يتحدّث عن تلك المرحلة بألم.
أستاذ اللّغة العربيّة والصّداقة
عيّن نبيل مدرِّساً للّغة العربيّة في الرقّة سنة 1969، وأحاط به عدد من الأصدقاء الشيوعيين الذي أثّروا فيه فحملت كتاباته نفَساً ماركسيّاً، جعلت من «كتبة التقارير يظنّونني عضواً في هذا الشقّ أو ذاك». كما أنّ صداقته التاريخيّة مع بوعلي ياسين، النّاقد لكلّ شيء، عزّزت لدى نبيل سليمان الحسّ النّقدي من كلّ شيء، والعزوف عن الانخراط في الأحزاب.
من ثمار هذه الصّداقة كتابهما المشترك «الأيديولوجيا والأدب في سورية»، الصادر عن دار ابن خلدون، ثمّ خاضا معاً مغامرة الرحيل إلى بيروت في ربيع 1979 تاركَين وراءهما أسرتين، راكضَين خلف الحلم بالعيش في «الفضاء الفلسطيني اللّبناني، وفضاء الثّورة والحرب الأهليّة اللاّهبة».
التقى الكاتبان في لبنان بمهدي عامل ويمنى العيد وماجد أبو شرار وجورج طرابيشي وسعد الله ونّوس وغيرهم، والتقيا كذلك سليمان صبح الذي أسّس دار ابن رشد، وذاع صيتهما سريعاً، ووضع ياسين وسليمان كتاباً آخر مشتركاً ونشراه لدى الدّار بعنوان «معارك ثقافية في سورية».
ابن قرية البودي
قرية البودي الواقعة على السّفوح الوسطى الغربية لجبال اللاذقية، المليئة بالآثار، والتي اكتشفت فيها قنوات مياه مطمورة، محفورة في الصّخر، يعود زمن بنائها إلى العصر الرّوماني.
ويروى أن ثمّة قصرين، شرقي وغربي، تتناثر آثارهما هناك، ويطلق عليهما الأهالي اسم «قصور الضهر»، كما يعتقد بأن أنقاض مدينة أثرية هامة ما تزال مطمورة في باطن ذلك الموقع، فالأحجار النحتية وبقايا الأبنية القديمة، تدلّ على علاقة القرية بالممالك الفينيقية القديمة، التي قامت على أرض الساحل السوري كأوغاريت وسيانو وغيرهما. وقد عثر في موقع برمّانا القريب على جرار فخارية، ونقود قديمة، أثناء شق الطريق بين عين شقاق والبودي.
ولد نبيل سليمان في صافيتا عام 1945، وتلقّى تعليمه في اللاذقية، وحصل على إجازة في اللغة العربية عام 1967. عمل مدرّساً وأسس دار الحوار للنشر في اللاذقية، حيث تفرّغ للكتابة منذ عام 1990.
بنى الروائي في بداية الثمانينيات، قصراً في قرية البودي التي تقع على بُعد عشرين كيلومتراً من جبلة وترتفع 600 متر عن البحر مطلةً على شواطئ بانياس إلى اللاذقية، ونقل مكتبته إلى هناك: «أعيش فيها عزلتي منذ عام 1987 متفرغاً للقراءة والكتابة. ولا يعرف لذة القراءة والكتابة إلا المتفرغ». ونبيل سليمان يعرف هذه اللذة منذ عام 19822 حتى اللحظة.
الحياة أو الكتابة
كان سليمان قد بدأ الكتابة روائيّاً قبل أن يتّجه إلى النّقد. خيار الكتابة أو «خيار الحياة»، اتّضح جدّياً لديه منذ 1969، حين كتب «ينداح الطّوفان» التي نُشرت بعد عام من كتابتها، ولم تتحدّث الرّواية عن الهزيمة أو الحرب.
لقد اكتفى صاحب «ثلج الصّيف» بالإشارة إلى الهزيمة، في كلمة الإهداء «إلى 5 حزيران عرفاناً بالجميل». ثم أتبعها بـ «هزائم مبكّرة» (1985)، التي تروي مسلسل الهزائم الذي لا يغفل عن بطولات هنا وهناك ويقاربها روائياً «اقتراناً بهزائم على المستوى الشخصي الرّوحي».
يتّضح التّنوع الثّقافي في شخصيّات رواياته، فمصدره التنقّل المبكّر بين الأمكنة: إنه مولود في صافيتا سنة 1945، ودرس الأدب العربي في جامعة دمشق وتخرج سنة 1967. وكان يسافر مراهقاً مع والده ليعيش فترات بين عامودا البلدة الكردية في منطقة الجزيرة، ثم عاش في قرية شركسيّة في عين صاف، إلى أن انتقل إلى الدريكيش. وعن ذلك يقول: «هذا الخليط جبلني تعددياً، وانفتاحياً وحوارياً». هكذا هي عوالم رواياته المتعدّدة والجدليّة.
وقد بات معروفاً أنّ مشروع نبيل سليمان الأكبر هو روايته «مدارات الشّرق»، التي يقول عنها: «صرت أصدّق أنّ في حياة كلّ كاتب مشروع العمر الذي يُكتَب مرّة واحدة ولا يتكرر». جاءت هذه الرواية بعد عمله «قيس يبكي»، فشرع في كتابة كتلة من أكثر من ألف صفحة كانت نتاجاً لعمل 15 ساعة يوميّاً صيفاً وشتاءً، حتّى أنجز «الكتلة الأولى»، بعد ستّة شهور، ثمّ تابع العمل حتّى بلغ 2400 صفحة.
تهيمن على معظم أعماله الروائية وأبحاثه النقدية الدراسات المضمونية والسوسيولوجية، وتطغى عليها الانطباعات الشّخصية، والأحكام الذّاتية، وتكتفي بتلخيص مضمون الرواية، في محاولة لتأكيد أحكام القيمة المستمدّة من العرض السّريع للمضمون.
بنية النّص عند نبيل سليمان، بنية مفتوحة على الحقول الدلالية، والثقافية والأيديولوجية والاجتماعية. ومن هنا نزوعها إلى تجاوز الدراسات السوسيولوجية التي تقف عند حدود المؤثرات، إلى التفاعل النّصي والتناص، وينفتح النص الأدبي على مستويات أعلى من الوعي والإدراك، ويتحوّل إلى «رؤية» للعالم، ذات دلالة اجتماعية، تنظّم فضاءه. ومع اعتبار المبدع واضعاً للصياغة الفنّية المناسبة للوعي الجماعي الذي يعتمل في ضمير مجتمعه، كما يقول ميشيل بوتور: «ليس الرّوائي هو الذي يصنع الرّواية، بل الرّواية هي التي تصنع نفسها بنفسها».