“الزركلي”.. موسوعي مجدد على طريقة الأقدمين
الثلاثاء 16 أيلول 2014
دمشق
شاعرٌ وأديب ومحقق موسوعي، له فضل على كثيرين ممن اشتغلوا بالإبداع وصنوفه في العالم العربي طوال القرن العشرين، وبلغ من شأن كتابه الأشهر “الأعلام” ألا تخلو منه مكتبة ولا بيت.
يعتبر “خير الدين الزركلي” آخر من وثق وفق طرائق الأقدمين، وتتمثل الطريقة كما يقول الكاتب “محمد زاهد عبد الفتاح” (من موثقي حياة الشاعر، ويقيم في “كندا” حالياً) في حديث مع مدونة وطن “eSyria”، بتاريخ 30آب 2014، في حيادية الكاتب إزاء من يوثقهم، ويضيف الباحث “عبد الفتاح” قائلاً: «يتبين لنا من الكتاب كم كان “الزركلي” دؤوباً على ما انتدب نفسه إليه، دقيقاً في البحث والتحقيق، وما نشره الباحثون من بعده من استدراكات وتصويبات على “الأعلام” لا تزيد المرء إلا إعجاباً بهذا الجهد المبارك، فهو ولا شك صنو في تاريخنا العربي والإسلامي لـ”ياقوت الحموي”».
وقد التزم “الزركلي” ألا يترجم للأحياء من المعاصرين، يقول الباحث: «ذكر “الزركلي” أن سبب ذلك مخافة الوقوع فيما (لا أحمدُ عليه، والإنسان قد يتغير). ولكنه في ترجمته للمتوفين كان يقدم شيئاً من وجهات نظره المبنية على معرفته بهؤلاء الأشخاص، ولكنه وهو صاحب الخلق الجمّ والدماثة الدمشقية، يقدم وجهة نظره في اختصار وإيجاز محاولاً ما أمكن البعد عن التجريح الشديد والمباشر، ويعزو ما يقول إلى مذكراته الشخصية، ولذا فإن مذكرات المؤلف كما يعزو إليها في “الأعلام” مرجع مهم لتراجم الكثيرين من هذه الشخصيات تجد فيها جوانب تفرد بها الزركلي».
ولد “الزركلي” في 3 حزيران عام 1893، في “بيروت” لأبوين دمشقيين حيث كان لوالده تجارة هناك، وينتسب كما يقول الباحث “زهير ظاظا” إلى بلدة تدعى “زرك” تقع في “ديار بكر” (الأناضول حالياً)، وهاجرت العائلة إلى “دمشق”، وهناك نشأ الفتى وتعلم في إحدى مدارسها الأهلية، وأخذ عن علمائها على الطريقة القديمة، ومن أبرز من أخذ عنهم الشيخ “جمال الدين القاسمي”، وأشار إليه في الأعلام بـ”شيخنا الكبير”، وكان كبير علماء “دمشق” في وقته، وأولع بكتب الأدب العربي،
غلاف موسوعته الأشهر “الأعلام” |
وبدأ يقرض الشعر مبكراً، وأدى امتحان القسم العلمي في المدرسة الهاشمية الثانوية، ثم أصبح مدرساً فيها”.
انتقل بعد ذلك إلى “بيروت” ودَرَس الأدب الفرنسي في “اللاييك” (المدرسة العلمانية)، وبعد انتهائه درّس الأدب العربي فيها، وفي ذلك الوقت ألّف أول تمثيلية نثرية عرضتها مسارح “بيروت” عام 1914، وكانت بواكير اشتغالاته الإبداعية، ومثلت عدة مرات بعد ذلك، وحملت اسم “وفاء العرب”.
أنشأ بعد عودته إلى “دمشق” عدة صحف كانت السلطات التركية توقفها كل مرة، منها “لسان العرب” و”المفيد”، وكانت غايتها كلها بث الروح القومية في العرب كما يقول عن ذلك في “الأعلام”، وبعد دخول الفرنسيين إلى “سورية” حكموا عليه بالإعدام، فهرب إلى فلسطين فالحجاز، وهناك التقى الملك “حسين بن علي” الذي كلفه مع الشيخ “يوسف ياسين” من “اللاذقية” بتشكيل الحكومة الأولى في شرقي الأردن، وعين فيها مفتشاً عاماً للمعارف، وبقي في عمان عامين وثقهما في كتابه “عامان في عمان”.
يقول في كتابه “عامان في عمان”: “لم يكن في عمان آنئذ سيارات تحمل الناس منها إلى المحطة، ومن المحطة إليها، والمسافة بينهما ثلاثة كيلومترات، وإنما كان الركوب على عجلات الخيل هو كل شيء هناك من وسائل النقل والتنقل”.
انتقل مطلع العشرينيات إلى “القاهرة”، حيث أسس هناك المطبعة العربية التي نشر فيها عدة كتب له ولغيره، منها كتابه “ما رأيت وما سمعت”، تحدث فيه عن رحلته من دمشق إلى الحجاز، ومع انطلاق الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين عام 1925 تابع نشاطاته في جمع التبرعات للثوار، فألقى في حفل كبير بالقاهرة القصيدةَ التي سمي إثرها بـ”شاعر الشام”، يقول مطلعها:
“الأهلُ أهلي والديارُ دياري… وشعار وادي النَّيربَين شعاري
(من الأعمال الكاملة له، دار الرسالة بيروت، 1980).
أصدر الطبعة الأولى من كتاب
غلاف كتابه “عامان في عمان” |
“الأعلام” في ثلاثة أجزاء عام 1927، وكان قد بدأ به سنة 1912، برعاية وتشجيع من “محمد كرد علي”، وقد امتدح ظهوره أغلب علماء اللغة العربية وقتها، ومنهم “محمد رضا”، صاحب “المنار”، فقال فيه: «رأى صديقنا شاعر الشام ما يراه جمهور أهل العلم والأدب من الناطقين بلسان العرب، أن اللغة في حاجة إلى معجم لتراجم أشهر الرجال والنساء من العرب الجاهليين والمخضرمين ومن بعدهم إلى هذا العصر، فشرع في تأليف هذا المعجم، فحقٌّ على جميع كتاب العربية، أن يشكروا لمؤلفه هذه المنة التي لا يستغني عنها أحد منهم، لأنه كما ادّعى واضعه في فاتحته -وصدق- قد ملأ فراغاً في الخزانة العربية قد تُرك له مدة هذه القرون الطويلة».
اختير في العام 1932 عضواً في مجمع اللغة العربية في “دمشق” و”القاهرة” و”بغداد”، ثم سفيراً للسعودية في “مصر”، وتعددت مناصبه السياسية إلا أن هذا الانشغال لم يؤثر في عمله على “الأعلام” بعد أن تلقى الكثير من الملاحظات والتصويبات؛ أشار إليها بعرفان في مقدمة الطبعة الثانية التي صدرت عام 1957، وقال في مقدمتها: “هذا نتاج أربعين عاماً، أمضيتها في وضع الأعلام وطبعه أولاً، ثم متابعة العمل فيه، تهذيباً وإصلاحاً وتوسعاً، وإعداده للطبع ثانياً، وما أطمع من وراء ذلك في أكثر من أن يكون لي، في بنيان تاريخ العرب الضخم، رملة أو حصاة”.
عين سفيراً في المغرب عام 1963، فأضاف إلى “الأعلام” ملحقاً عن كتاب ومؤرخي المغرب، لينتقل بعد عبوره السبعين من العمر إلى “بيروت” ثم “القاهرة” حيث تابع عمله فيها، وبقي يهذب فيه إلى أن وافته المنية عن 86 عاماً في “القاهرة” ودفن فيها.
قال فيه الشاعر الراحل “أنور العطار”: “هو شاعر مجيد معاصر، من أكبر شعراء القومية
من أعماله الأخرى |
العربية، ومن أرقهم عاطفة، وأصفاهم أسلوباً”، في حين قال فيه الشاعر “أحمد الجندي”: “هو قمة باذخة في الأدب والفن، يقف إلى جوار حافظ إبراهيم، وإيليا أبو ماضي، وبشارة الخوري، وبدوي الجبل”؛ (من كتاب “خير الدين الزركلي شاعر الوطن”، للكاتب د. أكرم جميل قنبس، منشورات وزارة الثقافة، عام 2011).
صدر له عدا ما ذكرنا أعلاه، أعماله الشعرية الكاملة، و”صفحة مجهولة من تاريخ سورية في العهد الفيصلي”، و”الإعلام بمن ليس في الأعلام” وغيرها، وخلف شاعرنا ابناً واحداً هو المرحوم الطبيب “ليث”، وكان يعمل مستشاراً طبياً بجامعة الدول العربية، وتوفي سنة 2004، وله ثلاث بنات هن: السيدتان “طريفة، ولميس” رحمهما الله، والسيدة “حياة”