“قسطنطين زريق”.. نصف قرن من الحضور المتقد
الثلاثاء 19 أيار 2015
حي القيمرية
يصح القول إنه آخر كبار المفكرين القوميين والمؤرخين العرب، ترك بصمة ثرة في فلسفة القومية العربية ومفهومها، استقبل آراء النقاد بصدرٍ رحب، وتغيرات العصر بذهن منفتح.
اثنان وتسعون عاماً من العطاء الحقيقي عاشها الراحل المفكر “قسطنطين زريق” (1909-2000) متنقلاً بين حي “القيمرية” حيث ولد، وصولاً إلى “بيروت” و”دمشق” و”بغداد” التي شهدت كلها حضوره الفكري والثقافي والسياسي مناضلاً ومنافحاً عن دور تحتله أمته تحت ضوء شمس حضارة العالم.
يتحدث الباحث “هاشم عثمان” عن الراحل “زريق”، فيقول في حديث لمدونة وطن “eSyria” بتاريخ 10 أيار 2015: «تحول من دراسة الرياضيات في الجامعة الأميركية في “بيروت” إلى التاريخ، ونال درجة بكالوريوس في الآداب عام 1928، سافر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأميركية ملتحقاً بجامعاتها وحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ عام 1930 من جامعة “برنستون”، وعاد بعد تخرّجه إلى الجامعة الأميركية في “بيروت” فعمل أستاذاً مساعداً ثم أستاذاً في عام 1942، ثمّ نائباً للرئيس في عام 1952، ثم رئيساً بالوكالة ورئيساً بين الأعوام 1954 و1957. كما عمل في جامعة “دمشق” وفي جامعتيّ “كولومبيا، وجورج تاون” في “الولايات المتحدة الأميركية” كأستاذ زائر».
التحق لمدة قصيرة بالسلك الدبلوماسي السوري بعد الحرب العالمية الثانية، حيث عمل مستشاراً أول، ثم وزيراً مفوضاً في السفارة السورية في “واشنطن”، وكان خلال تلك الفترة عضواً مناوباً لسورية في مجلس الأمن بين عامي 1945 و1947.
أسس في الثلاثينيات حزباً قومياً عربياً سرياً لم يعش طويلاً، إلا أن حصول النكبة عام 1948 كان مفصلاً مهماً في حياته، فكتب كتابه الأول “في معنى
من مؤلفاته |
النكبة” عام 1949، وقد مثل هذا الكتاب كما يذكر الكاتب “كريم مروة”، “أول تعبير فكري عن الخلل الذي شعر ذلك المفكر الكبير بوجوده في فكر وممارسة النخب السياسية العربية، أحزاباً ومثقفين، التي كانت تتصدى لمهمة تحقيق النهضة العربية بعد حصول عدد من بلدان المشرق العربي على استقلالها السياسي”؛ (من حوار معه في مجلة “الطريق”).
اشتهر في جانبه الإنساني بعلاقاته المتعددة مع القادة والسياسيين العرب منفتحاً على كل الآراء السياسية والنقدية التي طالته، فقد كتب الناقد “رئيف خوري” كتاباً قاسياً رداً على كتابه “معنى النكبة” استقبله الراحل “زريق” برحابة صدر مولداً حواراً قيماً مع “خوري” على صفحات المجلات السورية والعربية وقتها.
تابع “زريق” اشتغاله الفكري في قضايا القومية العربية مختلفاً في نهجه عن الراحل “زكي الأرسوزي”، يقول الكاتب “صقر أبو فخر” في حديث عن الراحل: «كان يفضل استخدام مصطلح “المجتمع العربي” بدل “الوطن العربي”، لأن القومية العربية، بحسب رأيه لم تكتمل، فالبلاد العربية التي تتكلم العربية والمتجاورة في الجغرافية، وتشترك في كثير من المصالح الاقتصادية والاجتماعية ليست عربية من وجهة النظر القومية الصحيحة. فتلك العناصر هي استعدادات، وكي تتحقق يجب الخروج من الممكن إلى الواقع، وبما أن المجتمع العربي يفتقر إلى القوى السياسية التي تعمل على إخراج المجتمع العربي من الممكن إلى الواقع، فيصبح الكلام على “الوطن العربي” غير صحيح، ووظيفة القومية العربية هي نقل
خلال لقاء هاشم عثمان |
الممكن إلى واقع». (من مقال له في “السفير”).
من أهم أعماله تأسيسه “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” مع “وليد الخالدي وبرهان الدجاني وإدمون رباط” وآخرين، وبالتعاون مع الحكومة السورية، هذه المؤسسة البارزة تحولت أثناء العدوان الصهيوني على “لبنان” إلى هدف لطائرات العدو، وقد اشتغل الراحل “زريق” على إنقاذ وثائقها بشجاعة كبيرة يذكرها من شهد تلك الأيام السوداء، يقول الكاتب “صقر أبو فخر”: «لقد كان فارساً شهماً همه إنقاذ تلك المؤسسة ووثائقها النادرة».
في كتابه القيم “قسطنطين زريق عربي للقرن العشرين” وصفه الكاتب والمترجم “عزيز العظمة” بأنه كان مثالاً للرجل الحي المتوقد الحضور، حاضراً دوماً بعقله وابتسامته التي اتسمت بها شخصيته بعلاقاته مع العالم، كما يذكر “كريم مروة” صديقه عنه قائلاً: «أبرز مظهر للشباب فيه عقله المنفتح على متغيرات العصر في اتجاهاتها المتناقضة، وذهنه المتوقد المملوء فتوة، وفكره المستنفر الباحث بعمق وقلق واستشراف عن أفضل الوسائل والصيغ والأدوات لتجديد الحياة العربية».
كتب الراحل أكثر من ثلاثين كتاباً جلها في الفكر القومي، أثار منها عواصف نقدية في الفكر القومي العربي، من أبرزها “ما العمل؟”، “معنى النكبة مجدداً”، “الوعي القومي ـ بجزأين”، كما ظلّ التّدريس الجامعي والتّأليف رسالة هذا الرّجل بامتياز، فقد آمن بأن بثّ الوعي العلمي والقومي في الأجيال الصّاعدة هو الضّمان الأفضل والأبعد تأثيراً.
شدد في كتاباته ومحاضراته وكتبه على أركان أساسية تحدّد مُستقبل العرب، (أوّلها تحقيق
مع المفكر أكرم زعيتر |
أكبر قسط من التّوحيد بين الأقطار العربية في ميادين السّياسة والاقتصاد والدّفاع، ثانيها تجنيد قوى الأمّة بكاملها وتوجيهها إلى ميادين الصّراع، ثالثها إشراك القوى الشّعبية في النّضال، ورابعها أنّ الخطر الصّهيوني، بل كلّ خطرٍ اعتدائيّ علينا لا يردّه إلاّ كيان عربيّ قوميّ موحّد)، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف، كما آمن وقال، إلاّ ضمن ما سمّاه “الوعاء الدّيموقراطي”.
بقي حتى أواخر أيامه نابضاً بالحيوية والنشاط والعمل الدؤوب، ورحل في الثاني عشر من شهر آب العام 2000، ودفن في “بيروت”.