كلثوم سقّى 1948 ـ 1953، تصوير: هاشم المدني
29 أبريل 2015م
ينتمي عمل المخرج اللبناني أكرم زعتري (1966) إلى سياق فني بصري جديد. سياق لم يجد لنفسه حتى هذه اللحظة اعترافاً كافياً في المنطقة العربية، وذلك لأسباب عدّة، لعل أهمها الاصطدام بالذهنية التقليدية التي تنتمي إلى القواعد الثابتة في الفن والحياة.
في أعمال زعتري، يصعب تلمس المسافات الفاصلة بين الأجناس الفنية المختلفة. يتنقل المخرج، بواسطة الصورة، بين التاريخ والحاضر. ففي عمله “اليوم” (2003)، يذهب ابن الجنوب اللبناني، باحثاً، عبر الصورة، عن شخصية وردت في كتاب المؤرخ جبرائيل جبور، منتقلاً من خمسينات سورية إلى ثمانينات حرب بيروت، لينتهي بصور الانتفاضة الفلسطينية التي ظهرت وقتها عبر الإنترنت.
“ثمانية وعشرون ليلاً وبيت من الشعر” (2015) آخر أعمال زعتري السينمائية، وقد عُرض مؤخراً في برلين وبيروت والقاهرة. وفيه، يواصل المخرج جملة أبحاثه البصرية السابقة، وإن كان الفيلم، بشاعريته الخاصة، ينتمي أكثر إلى ذاكرة صاحبه مقارنةً مع أعمال سابقة؛ شعرية تنبثق من البناء البصري للفيلم أولاً، ومن العنوان ثانياً.
ففي أحد تسجيلات أغنية “في البحر” (1935)، يردد محمد عبد الوهاب عبارة “ياليل” 28 مرة بطرق مختلفة، قبل أن يشدو بيت الشعر الأساسي. هكذا يُقطّع الفنان اللبناني فيلمه على شكل متتالية بصرية يجمعها مزاج عام، بغية الوصول إلى بيت القصيد أو بيت الشعر الذي ابتغاه صاحبها.
يقدم المخرج شخصية من مدينته صيدا؛ هاشم المدني: مصور فوتوغرافي ثمانيني، صاحب استديو “شهرزاد” للتصوير. في عام 1950، كان المدني يجوب شوارع وأسواق صيدا بغية التقاط صور للناس، قبل أن يتمكن عام 1953 من افتتاح استديو خاص به.
سنة تلو الأخرى، تحول الاستديو إلى ذاكرة ضخمة تروي سيرة تطوّر الآلات المستخدمة في التصوير، من أجهزة عرض وتسجيل وتصوير فوتوغرافي وسينمائي. هذا التطور رافقه تطور آخر في شكل علاقة الناس مع هذه التجهيزات، فالمدني الذي كان يُعلّم الناس كيفية أخذ الوضعيات أمام هذا الاختراع الغريب، أي الكاميرا، صار يجد الوضعيات التي اقترحها تنتشر بين الناس، لتصبح جزءاً من حياتهم، يوماً بعد يوم.
لا يخفي الفيلم حقيقة ارتباط سيرة الآلات والتجهيزات بسياق أكبر، قد يكون كوني ناتج عن تطوّر وسائل التقاط الصورة وإيصالها، إلا أنه مرتبط أيضاً بجملة التغيّرات الاجتماعية والسياسية الحاصلة. على النحو السابق، يتحول الاستديو بوصفه فضاءً خاصاً ومعتماً، إلى شاهد يسير مع التاريخ العام، فيذكر المصور “أن الناس بدأت تتصور مع السلاح في عام 1958، وبين عامي 65 و70 صار الرجال يتصورون داخل الاستديو مع الرشاشات بعد أن صار السلاح علنياً، منظّماً برخص من الأحزاب”.
في أرشيف المدني الذي يحتوي على صور لأشخاص مسلّحين، توجد أيضاً صور لشبّان يقبّلون بعضهم بعضاً، وأخرى لنساء ورجال، أرادوا أن يتصوروا عراة أو شبه عراة، فكأن الاستديو بشروطه وخصائصه يوفر فضاءً لتوثيق الرغبات المحظورة في الخارج.
يبرز المصور هنا كجزء من سرية المكان المعتم الذي يرتاده الناس لالتقاط صورهم الخاصة التي يعرضون بعضها ويحتفظون ببعضها الآخر لأنفسهم فقط.
تندر الحوارات الكلامية في الفيلم لصالح حضور حوارات تفترضها الصور المستخدمة والمقاطع الصوتية المسموعة، فالأغاني والأفلام الموجودة في أرشيف الاستديو، يشغّلها زعتري بلحظة واحدة عبر اليوتيوب أو الموبايل، بينما يستغرق تشغيلها في الوسائل الأقدم وقتاً وجهداً كبيرين.
كذلك، تحضر بعض الأغاني القديمة بنسخ متعددة، فيظهر جلياً الفارق الكبير في تطور العلاقة بين الناس وآلة التصوير، فالمغني نفسه الذي يغني الأغنية نفسها، يبدو في نسخة أحدث أكثر ألفة وارتياحاً على المسرح.
في الحوار السابق يرصد زعتري أثر الصورة في الناس. بمعنى آخر، يبدو الغرض التوثيقي للصورة هو الهدف المرحلي فقط، والأهم هو قدرة الناس على الاستفادة من الصورة للوصول إلى صورة أجمل مرة بعد الأخرى، وهكذا دواليك إلى أن يغدو الأرشيف فاعلاً مستقبلياً.
على النحو السابق، تصبح الكاميرا معياراً لنجاح قفزة الشبان من على صخرة عالية على شاطئ صيدا. أكثر من ذلك، صار التقاط صورة جميلة هو الهدف الأسمى لما يفعلونه.
يقوم بناء الفيلم على تتابُع صور ثابتة كثيرة، تتحاور وتتداخل في ما بينها وسائل التصوير والتسجيل القديمة والحديثة. وينشأ، في الوقت نفسه، حوار بين زعتري والمدني، لا يكتمل إلا في آخر الفيلم، أي مع الوصول إلى بيت الشعر. فبعد أن يقدّم زعتري 28 “ياليل” بصرية، وبعد أكثر من نصف قرن من عمل المدني في التصوير وتجميع أرشيفه الخاص، يقف الاثنان بصمت أمام جهاز “الآبل” الذي تصدح منه أغنية لملحم بركات.
وفي عمق الاستديو الذي كان معتماً معظم الفيلم، تدخل الإضاءة الملونة الاصطناعية من مصدر خارجي وتبدأ بالرقص مع أنغام الأغنية، بينما يستمر الاثنان في وقفتهما حتى ينتهي الفيلم.