دمشق-سانا
يجمع المؤرخون المختصون بالتراث على أن دمشق كانت أول مدينة عرفت مهنة المسحر بشكلها المعروف حاليا بل ونظم أبناؤها لها منذ مئات السنين نقابات وهيكلية إدارية تولت إدارة شؤون المسحرين وتوزيعهم على أحياء وحارات الفيحاء.
ويوضح في هذا الصدد الباحث والمؤرخ منير كيال أن اتساع العمران في المدن وامتداده أفقيا وعموديا جعل من الصعوبة بمكان أن يتم تسحير سكان مدينة كدمشق بالأسلوب نفسه الذي كان متبعا في أغلب المدن الإسلامية بأن يقوم مسحر واحد يصعد على مكان مرتفع ومعه طبل كبير يضرب عليه ويصيح بأعلى صوته لإيقاظهم.
ويقول كيال “تطورت الحياة وأخذ عدد المسحرين يزداد حتى أصبح لكل حي مسحر خاص به ومع منتصف كل ليلة من ليالي شهر رمضان كان مسحرو دمشق ينطلقون بعدة العمل “الطبلة والسلة والفانوس” عبر الأزقة والحارات الملتوية يمرون بالأبواب يقرعونها بعصيهم الصغيرة أو يدقون “بالسقاطات” ويرددون بأصواتهم التي تتفاوت بين الخشونة والحدة والعلو والرخامة عبارات رمضان التقليدية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من شخصية أولئك المسحرين ..يا نايم وحد الدايم .. يا نايم وحد الله”.
ويبين كيال أن العبارات التي يرددها المسحرون تطورت واغتنت عبر الزمن من النداء على رب الأسرة التي يقرع بابها باسمه أو إنشاد المدائح النبوية أو ترديد أقوال تحث الناس على البر والتقوى والكرم وتذم البخل وأهله.
وبحسب كيال كان الأطفال يؤثرون المسحر على أنفسهم بأطايب ما خصوا به أنفسهم من السكاكر والحلوى والكعك وأرغفة المعروك والناعم الخاصة بشهر رمضان كل ذلك حبا بما كان يقدم لهم من دعابات.. أغان تروي ولع الطفولة بذلك الصوت القريب إلى نفوسهم الأثير إلى قلوبهم وكان مما يزيد حبهم للمسحر السماح لهم بحمل سلته او النقر على طبلته.
وبلغ تطور مهنة التسحير في دمشق حسب كيال حدا لم تصله في بلد آخر حيث يقول “انبثقت عن هذه الحرفة تنظيمات على غرار ما كان لسائر الحرف والصناعات الدمشقية وكان لكل حرفة شيخ كار يساعده نقيب وشاويش وعدد آخر من المساعدين مهمتهم الإشراف على شؤون الحرفة وتسوية الإشكالات التي قد تواجه العاملين فيها للحفاظ على سمعة الحرفة وحسن أداء العاملين فيها على أكمل وجه”.
ويشرح صاحب كتاب “رمضان في الشام” الآلية الإدارية التي كان يخضع لها المسحرون الدمشقيون حيث يقف في قمتها شيخ الكار وهو أعلى المسحرين له رتبة وسلطة معنوية معترف بها ويكن له المسحرون الولاء ومنصبه وراثي وقد ينتخب شخص لا يمت له بالقرابة في حال عدم وجود وريث يليق بالمقام.
أما الرجل الثاني بحسب كيال فهو النقيب ويعتبر نائبا عن شيخ الكار في كل مهامه وممثلا له ويقوم بدور التفتيش على المطافات “الحارات التي يسلكها المسحرون أثناء عملهم” ليتأكد من حسن قيام كل مسحر بعمله على أكمل وجه فيسأل الحارس الليلي وأهل الحي عن المسحر دون أن يمنعه عن القيام بالتسحير في المطاف الخاص به كباقي المسحرين.
وهنالك الشاويش وهو مساعد شيخ الكار شكلا وفي الواقع فإنه يقوم بكل ما يكلفه به شيخ الكار من أعمال وقد يوكل إليه حل بعض الإشكالات البسيطة التي تقع بين المسحرين بسبب المطافات وذلك بشكل ودي وكان يتقاضى من كل مسحر مبلغ نصف ليرة سورية عن الشهر كله وهذا بالطبع لا يتعارض مع القيام بمهمة التسحير في المطاف الخاص به.
ويشير كيال إلى أن التنظيم الإداري لمهنة المسحر كان يضم “الاعضوات.. وهما شخصان يمثلان السلطة القائمة وقتها ويقومان بحل الإشكالات التي قد تقع بين المسحرين ويبديان رايهما في كل إشكال ولا يمنع ذلك أي منهما عن القيام بعمله كمسحر في مطافه”.
ويبين كيال أن التسحير كحرفة كانت تنحصر في أسر دمشقية تحفظ أصولها وفروعها تتوارثها أبا عن جد وإذا صدف أن انعدم العقب الذكر في الأسرة أو أن أبناءها يزهدون بالعمل فتعمد تلك الأسر حينها بتضمين حقها في التسحير إلى مسحر آخر بمعرفة شيخ الكار.
ويؤكد كيال أن مردود التسحير حتى أواسط القرن العشرين كان يفيض عن مستلزمات الحياة الأساسية بما كان يدر على المسحر من نقود وهبات وطعام وحلوى من أبناء دمشق.
ولكن كيال يرى من جهة أخرى أن وظيفة المسحر أصبحت “غير متلائمة مع متطلبات العصر وحاجاته” ويقول “باتت في تلاش مستمر ولعل المسحرين قد شعروا بذلك فقل حماسهم واصبح خروجهم مقتصرا على بعض المناسبات كليلة النصف من شعبان والعيدين وليلة الإثبات وبعض ليالي العشر الأخير من شهر رمضان وهكذا نجد أنفسنا على أعتاب توديع المسحر الانسان الذي نذر نفسه منبها إلى فضائل رمضان ومبشرا بخيراته”.
شذى حمود وسامر الشغري