تحقيقات صحفية – مجلة الجندي
إعداد الدكتور مهيار الملوحي
صدرت مجلة (الجندي) في بداية شهر آب عام 1946، وكانت مجلة عسكرية ثقافية نصف شهرية، تصدر في الأول والسادس عشر من كل شهر، عن الشعبة الثالثة في الأركان العامة.
كانت مجلة الجندي تصدر بالحجم الكبير للمجلات، وضمن (50) صفحة، وذات غلاف ملون ومصقول، وقد تنوعت أبوابها وزواياها، منها الثقافية والأدبية والتاريخية، كما كانت تهتم بالعلوم العسكرية والتحقيقات الصحفية.
نجد في العدد (211) السنة الثامنة والصادر في 23 حزيران عام 1955، تحقيقا صحفيا أجراه شريف الراس، في معهد الغزالي قرب دمشق للأحداث الجانحين، وجاء التحقيق تحت عنوان (مع الأحداث الجانحين في معهد الغزالي).
(في الطريق أو في الترام المزدحم بالناس، أو ربما عندما تخرج من قاعة السينما، قد تمد يدك إلى جيبك لتعرف–كم الساعة الآن–ثم تحس بخيبة أمل حين تخرج يدك فارغة، لقد نشلوا الساعة أو ربما نشل من جيبك أحد النشالين البارعين محفظة نقودك وأنت لا تشعر بذلك إطلاقا.
وحين يسرق الأحداث، يتسابق علماء الاجتماع إلى دراسة هذه الظاهرة، وتأخذ الدول في إنشاء مؤسسات لحمايةهؤلاء الأحداث أو إصلاحهم، ولهذا أنشئ معهد الغزالي (قدسيا) قرب دمشق، والمعهد هو بيت واسع يعالج فيه الشاذون من الأطفال والمراهقين ليستريح المجتمع من مشاكلهم وليعودوا إليه بعد المعالجة مواطنين سليمين.
وقد يقابلك، وأنت تدخل باب المعهد، فتى أسمر يحييك باحترام، وقد يسرد لك قصته التي ابتدأت بعقب سيجارة، فقد أحب وهو طفل أن يدخن التبغ وحين علم والده بذلك حاول تأديبه بالطريقة التقليدية الضرب والسباب ومنع النقود عنه ولكن الطفل تمادى في هوى التدخين ثم بدأ يسرق ليروي هذه النزعة، وسرق قلم حبر لزميله في مقاعد الصف، ثم طرد من المدرسة وهاجر إلى دمشق، وعمل أجيرا عند معلم يصفه لك فيقول: إنه أكثر حنانا من أبي، وبعد أن سرق من معلمه ما سرق حطم زجاج سيارة في الشارع ليسطو على مسدس كان في داخلها وبعدها أدخلوه معهد الغزالي.
وقد يتركك الفتى الذي بدأ حياته المرضية بعقب سيجارة، فتنتبه إلى أنك وسط جنة حقيقية وارفة الظلال، وتملأ رئتيك بالهواء المنعش، وتسرح النظر خلال ظلال أشجار المعهد المزهرة فوق الحقول الصغيرة ذات المدرجات الترابية المنسقة، وقد تلاحظ فتى يحرث أو يغير اتجاه مياه السقي بمجرفته الصغيرة، إنه من الذين يتعلمون حرفة الزراعة ففي المعهد لا يكتفي المشرفون بإنقاذ الأحداث من الجهل العقلي بل يعلمونهم حرفا يعملون بها بعد الشفاء، وفي المعهد ثلاث حرف أساسية هي الزراعة والخياطة وصناعة الأحذية، وقد يضاف إليها في المستقبل البناء والنجارة، والطالب يدخل ميدان إحدى هذه المهن بعد اختبار نفسي لاستعداداته.
والأحداث الذين يعيشون في معهد الغزالي مازالوا قلائل لا يتجاوز عددهم ثمانية وعشرين طالبا وقد تسأل أحدهم:
– لم أدخلوك المعهد؟
– لأنني سرقت ليرتين.
– ليرتين فقط !؟
من أجل ليرتين فقط يرمى الحدث في المعهد الذي يشبه السجن رغم أنه جنة جميلة كما يقول نزلاؤه، ولا تعجب من ذلك فإن السرقة الصغيرة قد تؤدي إلى (اختصاص) في السرقات كما حصل (لأبي عموري) الذي نقلوه من معهد الغزالي إلى سجن اللاذقية، وأبو عموري لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، وقد استطاع أن ينوم حارسا ليليا في حمص وأن يسرق ثلاثة عشر حانوتا دفعة واحدة، وفي اليوم الثاني كسر قفل محل تجاري في سوق الحميدية بدمشق وسرق ثلاثين ألف ليرة سورية و(عاف الفراطة) كما قال، وفي اليوم الثالث استطاع أن يجمع عصابة من الأحداث سافر وإياهم إلى اللاذقية بعد أن كساهم جميعا بالثياب اللائقة، وهناك ألقى القبض عليه وهو يعمل ساقيا في مقهى، وأدخل بعض أفراد عصابته في المعهد الذي ينبئك سجله أن 80% من جرائم الأحداث هي السرقة، و20% جرائم عنف وغيرها.
والطفل الذي يرتكب مثل هذه الجرائم أو يتسول في الشوارع يرسل إلى هذا المعهد ويبقى فيه حتى يبلغ الثامنة عشرة، وخلال ذلك يتعلم حرفة ويدرس حتى الشهادة الابتدائية ويأكل في مطعم المعهد وينام في مهاجعه ويخضع للمراقبة الشديدة وقد يحاول بعضهم الهرب من الجنة أو السجن وحجتهم أن المأذونية الأسبوعية مرة واحدة كل يوم جمعة فرصة غير كافية للاتصال بالعالم الخارجي، وقد ألف بعضهم عصابة بهذا الهدف سلموا زعامتها لفتى مفتول العضلات عنيد الطبع، وسميت العصابة باسمه، وقد قامت هذه العصابة بأشياء كثيرة داخل جدران المعهد: ضرب وشرب خمر وتشجيع للآخرين على التدخين والهرب والعصيان.
ويصرف الطبيب النفساني جهودا جبارة على أفراد هذه الجماعة ويحاول أن يكسب ودهم لعل المعالجة تنجح.
أطفال ومراهقون وسرقات وجرائم ومعاقرة المسكرات، كلها وقائع ونتائج ولكن ما هي الأسباب؟ يقول بعضهم: إنه الفقر وسوء الحالة الاجتماعية وجهل الوالدين أو عدم مبالاتهم. ويقول آخرون: إنها أسباب جسدية، ولكل طفل استعداداته الجسدية التي توجه مصيره دون أن ينتبه إلى ذلك أحد، وينحصر دور الطبيب الجسدي في فحص هؤلاء المرضى فحصا جسديا دقيقا وتقديم تقرير مفصل عن المريض إلى الطبيب النفسي، أما المشرف الاجتماعي فإنه يقوم بدراسة وافية عن الأسباب الاجتماعية للمريض فيتصل بأفراد أسرته وبزملائه، ويدرس نمط المجتمع الذي عاش فيه المريض ثم يأخذ الطبيب النفسي بدراسة تقرير الطبيب الجسدي وتقرير المشرف الاجتماعي ويبدأ المعالجة).