اللوحة التجريدية بين الفنان والمتلقي
يحيط بنا التجريد في الحياة دون أن ننتبه في كثير الأحوال، فهو موجود مثلاً في إشارة المرور، حيث يصبح اللون هنا علامة كاملة مجردة من أصولها، أما في عالم الفنون، فهو عنوان عريض لمشكلة قديمة لجهة تلقيه من قبل الناس والمهتمين لأسباب كثيرة، وحديثاً منذ ظهرت التجريدية كأحد مدارس الفنون هناك خلاف كبير حول تلقيها.
التجربة الجمالية وحدودها:
يقصد بالتجريد الفني Abstractionحسب (موسوعة الفن العالمي): “ابتعاد الفنان عن تمثيل الأبعاد الطبيعية في الأشكال والاتجاهات واستخلاص الجوهر من هذه الأشكال، التخلص من كل تأثيرات الواقع هو هدف التجريد الأول”، وعرضه بشكل جديد للحصول على نتائج فنية باستخدام الشكل والخط واللون، فيحل بذلك المعنى المتضمن بدلاً عن الصورة العضوية أو الشكل الطبيعي، حتى وإن بدت غامضة حيث التحول من الخصائص الجزئية إلى الصفات الكلية ومن الفردية إلى التعميم المطلق، لذلك يتطلب التجريد تعرية الطبيعة من عضويتها وأرديتها الحيوية كي تكشف أسرارها ومعانيها.
هكذا يصبح مثلاً الشكل الكروي في اللوحة مداراً لاحتمالات كثيرة قد تكون الشمس أو التفاحة أو الكرة، وقد يصبح المثلث هرماً أو جبلاً أو رمزاً ما، فالشكل الواحد تتعدد مدلولاته فيصبح أمام المتلقي أكثر ثراء وغنى، على أن هذه الأفكار التي هي خلاصة تجربة الفنان الداخلية قد لا تصل بسهولة إلى الملتقي في ظل غياب منطوق قراءة اللوحة الفنية لدى غالبية مجتمعاتنا.
يرى التشكيلي السوري “سموقان” أن التجريد يأخذ قيمة كبيرة وهامة، “حيث يبدو أنه بالتجريد يمكن التعبير عما هو في النفس الإنسانية بطريقة أفضل، والتجريد ليس حالة طارئة على السوريين، ولو بدت تجارب البعض مقتبسة من الفنون الأوربية! والواقع ليس كذلك، فمنذ الألف الثالث قبل الميلاد صنع الإنسان والفنان السوري ألعابة وأدواته بطريقة فيها الكثير من المغايرة عما هو موجود بالواقع فأتت الأشكال تحمل طابع المدارس الحديثة في الرسم” (من حديث مع الفنان).
الشيء والعين واللوحة
في “سورية” ظهرت التجريدية كنتيجة للتأثر بمدارس الفن العالمي والاحتكاك بها غرباً، رغم أنها تجد جذوراً مشابهة في عمق الحضارة السورية المشرقية، فنزعة التجريد هي التي أنتجت اللغة ثم أنتجت مختلف الرسوم والرموز التي استخدمت بكثافة وقتذاك، دون أن يعني ذلك بالتأكيد ظهور مدرسة متخصصة بهذا النوع من الفنون بالمعنى الأكاديمي المعاصر.
مطلع القرن الحالي وحتى عودة الرواد من دراساتهم الفنية بقي التجريد سوريّاً محصوراً في سياقه التاريخي المرتبط بالصوفية الإسلامية والمسيحية عبر استخدام الخط العربي ورسومات الأيقونات والمقرنصات الهادفة للوصول إلى ما وراء الطبيعة، ويتضح ذلك مع تجارب “محمود حماد” و”محمد غنوم” و”عبد القادر أرناؤوط” وغيرهم، أما التجريد بمعناه الغربي فلم ينل كثير انتشار وقتها نظراً لارتباط الفن بالأدلجة السياسية والقومية منها، ولعقود طويلة بقي التجريد خجولاً لم يختص به فنان بعينه، بل كانت هناك إرهاصات متنوعة لدى من طور تجربته ليخرج من الواقعية والتعبيرية ويطعمها بشيء من التجريد، يمكن ملاحظة ذلك في تجارب جيل الرواد أنفسهم.
ارتبط التجريد المبكر سورياً بالخط العربي بكثافة، وخلافاً لحالته العالمية التي عدته في بعض وجوده “خدعة بلاستيكية لا تهتم بالظاهر المرئي للعالم الخارجي” بتعبير الناقد “شاكر اللعيبي”(1)، فإنه في العالم العربي وسورية منه بقي على ارتباط جذري بتجربة الشرق الروحية المفصولة كلياً عن الانغماس الغربي في حمأة التجريد.
فمثلاً، في تجرية “محمود حماد” (1923-1988) بدأ “بكتابة بعض الأحرف على اللوحة على نحو متسق بعضها عن بعض، دون إعطاءها أي معنى، ومن ثم أصبحت الجملة أو الكلمة مفهومة ومقروءة، وفي النهاية تداخلت التشكيلات التجريدية واللونية مع الكلمات لتصبح عبارة عن صياغة تجريدية تامة، وهو يعتمد في رؤيته على أن اللوحة الفنية “لها عناصرها المختلفة من لون وخط وعلاقتها اللونية بالنسبة له هي وسيلة من أجل هدفه التجريدي فهو يبني التكوين بواسطة مستويات مختلفة وأعماق متباينة، وفتحات تسمح بنفاذ النور، وبحواجز ترد هذا النور الذي يشكل بؤرة اللوحة (2).
يرسم “حماد” الكلمة على شكل حركي في فراغ، فيبدو أن هذا الحرف عبارة عن كتلة في هذا الفراغ، ونحسّ بأن الحرف يملك الأبعاد الثلاثة، كما هو يملك البعدين أحياناً وقد يعتمد على العلاقات بين الأحرف وبألوان قليلة. و”يقدم اللوحة الوحيدة الألوان، والمتدرجة الإضاءة، أو يعتمد على التضاد اللوني بين الحرف والخلفية، وهكذا يعتبر الفنان محمود حماد من أوائل الفنانين الذين ثبّتوا دعائم التجريدية في سورية، ولكن على أساس استغلال الكتابة العربية لتعريب هذه التجريدية” (3).
كذلك فإن تجربة التشكيلي المرحوم “فاتح المدرس” حملت تجريداً كبيراً مترافقاً مع حداثة شابة، كذلك هناك الفنان “نذير نصر الله” حيث يعطي القيمة الكبرى للخط ودلالته، يقول الفنان السوري “سموقان” موضحاً فكرته: “إن التجريد هو من طابع ونسيج التشكيل السوري منذ آلاف السنين، ولا غرابة أن نقول إنه في المكتشفات الأثرية القديمة في الأرض السورية وجدت كافة الأساليب من تعبير ورمز وسريال، حيث القيمة الفنية للتشكيل السوري عالية، ووصلت إلى أقصى حدودها كلغة بصرية تتجاوب وبشكل كبير مع اللغات التشكيلية الأخرى في العالم”.
شهد التجريد انتقالاً ليكون اتجاهاً فنياً مع الجيل الثاني للرواد الذين تخلصوا تدريجياً من التأثيرات المباشرة للفكر على اللوحة، تبدو تجربة الفنان “نذير نبعة” و”أنور الرحبي” مثالاُ على ذلك، “الرحبي” كمثال استخدام تقنيات المساحة اللونية والخط الباهت في تجربته الفنية متقاطعاً بذلك مع تجربة “كازيمير مالفيتش” الأب الروحي للتجريدية الروسية، أما نذير فقد أكمل تأثيرات الحروفية لتصبح تجريداً لونياً وخطياً متكاملاً لعب فيه بنجاح على استخدام تقنية الضوء في أعماله مع الألوان المبهجة بشكل أساسي(5).
الجيل الثالث فنياً قدم تجربة مختلفة تجريدياً، فمن الفنانين من انطلق من التجريدية كعلامة فارقة له دون المرور في مطهر الواقعية والتعبيرية، الأمر الذي قدم للمتلقي السوري لوحات غامضة بكل معنى الكلمة، هذا الغموض استدعى عتاولة النقد الفني لبناء صورة فنية مقبولة لدي الشارع، على أن هناك بعض هؤلاء حافظ على الربط مع المتلقي بشكل ما متجلياً في البقاء عند استخدام الخطوط والأشكال وحتى الألوان القليلة في اللوحة، على أنه ما زال الوقت مبكراً لإصدار حكم نقدي حقيقي.
لوحة للفنان التشكيلي محمود حماد
المراقب الحيادي والمتلقي
إن القارئ الأول للوحة هو العين، فالألوان والأشكال تستوقف العين بدرجات متفاوتة، وكل مشهد بصري أو جزئية حتى تنتقل إلى الدماغ ليعمل الأخير على تفسيرها وفقاً لعناصر كثيرة، فقد يكون المثلث في اللوحة لدى البعض “هرماً مقدساً” وقد يكون لدى آخر “وجهاً”، على أن هذا الاختلاف في التفسير وهو طبيعي جداً، هو ما يمثل قيمة الفن من جهة، وما يعطي للفن خلوده وبقاءه منذ بدء الحضارة الإنسانية، فالاختلاف محرك الوجود.
حين تسأل متلقياً أمام لوحة تجريدية عن “انطباعه” عن اللوحة، أو “ماذا فهم من اللوحة” سيكون الرد متفاوتاً حقيقة، فهذه التجربة تختلف في تلقيها كثيراً عن بقية الاتجاهات الفنية، يرى مثلاًالمهندس “حسان عيسى” صاحب مكتبة “جرير” في “اللاذقية” إن التجريد “يُحب في حد ذاته، فهو تعرية حقيقية للفكرة بحيث تظهر كينونتها وحقيقتها بلا مُنَمِقَات أو مُجَمِلَات لها، فتظهر الفكرة واضحة المعالم بينة للجميع ليتلقفها الجميع بعد ذلك ويطوروها بحيث يصبغوا (جمال أو قبح) دواخلهم عليها”، وعلى خلافه يقول الشاب “نوار علي” طالب جامعي “إن التجريد صرعة وليست فناً، فمن المهم أن يكون للفن حضوره الجمالي المحاكي للطبيعة في علمها وليس الخروج منها بطريقة غريبة عجيبة، كيف تكون الكرة رمزاً لرأس إنسان مثلاُ؟؟”.
خاتمة.. ويبقى التجريد والصراع مستمراً
مما لا شك فيه أن التجريد سيبقى في لاحق الأيام، وسوف يشتق منه الكثير من الفنون في ظل اتجاه معولم لبناء رمزيات دخلت الاستخدام اليومي بشكل كثيف بحيث بات من الصعب الفكاك من ربقة التجريد في حياتنا اليومية فما نفعل بها في عالم الفن؟
“التجريد بشكل عام يحوي ما يحوي من الفلسفة والإبداع وهو دعوة للمشاهد لأن يكتشف أكثر مما يرى”، نختم مع الفنان سموقان بعبارته هذه.
لوحة للفنان حمود شنتوت
المراجع:
1- شاكر اللعيبي، قراءة في أعمال الفنانة ناهد محمود، مجلة التشكيلي، المغرب، 2010، جانفي.
2- الخط العربي بين الشكل والمضمون في سورية ـ د. فهد شوشرة، مجلة الباحثون، دمشق، 2011
3- و 4 نفس المصدر السابق.
5- موسوعة المعرفة، مادة “التجريدية”، موقع إلكتروني.