هرم الإبداع الذي “ضيّعه قومه”
محمد ديب يعود هذا الأسبوع
مريم ن نوال جاوت ل عبد الحليم دليلة مالك
نشر في المساء يوم 20 – 10 – 2016
- محمد ديب. اسم يذكر كلّما جاء الحديث عن الرواية الجزائرية، حيث اقترنت هذه الشخصية بنضال الجزائريين، وكان خير مترجم لمعاناتهم، والصوت الذي تكلّم باسمهم وكان شاهدا على الكفاح والصمود.
ثلاثيته الخالدة، «الدار الكبيرة»، «الحريق» و«النول» باتت مرجعا روائيا بامتياز، لكن هذا الصوت الذي خطّ بكبرياء وانفراد الهوية الجزائرية..كان هامسا لا صارخا، واختار أن تكون حياته بعيدا عن الأرض التي عشقها، محمد ديب أبى ان يبقى بعيدا..ملاحظا لا مشاركا..مبدعا لا دخيلا، وظلّ لسنوات في أذهان الجزائريين، ذاك الذي عكس سرّ وجودهم وخلّد «لالة عيني» و«عمر» في أذهانهم وكانا رمزين من رموز «الميزيرية الجزائرية».
محمد ديب قامة بحجم وطن، وطن يبحث عن ردّ ولو جزء يسير من الجميل، والانحناء له عرفانا بما قدّمه حيا وميتا..حيا لأنّه ظلّ مؤمنا بالجزائر مبدعا بها ولها، وميتا وهو يمنح جائزته للمبدعين.
المبدع الأبدي يعود عبر صفحات «المساء» في هذا الملف الذي أعدّه القسم الثقافي، فزارت جمعية «الدار الكبيرة بتلمسان، ورصدت آراء عدد من الباحثين والمختصين في أدب محمد ديب، فتوقفت عند ديب شاعرا..ديب مسرحيا وديب الإنسان، واستحضرت رائعة «الحريق» في المخيال الجزائري.
… الشاعر الكبير والمجهول
ولأنّ مسافة الميل تبدأ بخطوة، اردنا ان يكون هذا الملف بداية لا نهاية..بداية لملفات تبرز اعلامنا وأعمالنا، لرفع التغييب عنهم في محاولة للتفكير في كيفية رد الاعتبار لهم، وهو الإضافة التي تأتي في سلسلة التكريمات التي ما فتئت الدولة تكرّسها كلذ عام، عبر منح اوسمة الاستحقاق الوطني، ومبادرات أخرى آخرها إحداث جائزة الدولة التقديرية من طرف رئيس الجمهورية.
يجهل الكثيرون أن الراحل محمد ديب لا يزال يعد أحد أبرز الشعراء الجزائريين المعاصرين. كتب جميع أشعاره باللغة الفرنسية وبأسلوب تجديدي متميز، جعل الشاعر الفرنسي لوي أراغون يمدح شعرية لغة ديب. كما دفع الأكاديمية الفرنسية إلى منحه جائزة الفرنكوفونية عام 1982، مما أدى كذلك إلى حصوله على جائزة الشاعر مالارميه عام 1998.
هيأت له حياته بين صفوف شعبه عبر الكثير من المهن التي مارسها، أن يتعرف على الفئات الشعبية وأساليب معيشتها وتفكيرها ونضالها من أجل القوت والحرية، كما احتك بالمناضلين الجزائريين المطالبين باستقلال الجزائر عن فرنسا، وأخذ يكتب عن قضايا وطنه، فنشر قصيدته الأولى «فيغا» عام 1947 وبدا واضحا فيها تأثره بالثقافة الفرنسية، وتمكنه في الوقت نفسه من أدواته التعبيرية كشاعر ذي خصوصية.
مع أنه نشر في سنوات المنفى في فرنسا ستة دواوين شعرية لفتت أنظار الأدباء والنقاد، إلا أن إنتاجه الروائي الذي تجاوز العشرين رواية، كان أكثر انتشارا وتأثيرا، وأطوع للترجمة من شعره الذي بقي محصورا في دائرة هواة الشعر، نظرا لتزايد انغلاقه على نفسه، وصولا إلى حالة من الهرمسية (الإبهام) الصعبة المتجلية في كيميائية لغة تقوم بدورها على التراسل بين المفردات والإيقاعات والأصداء. كما أن النزعة ‘الإروسية الشبقية’ التي تطبع بعض شعره أججت لغته في المواجهة بين الجسد والكتابة في القصيدة نفسها. وبسبب كثافة شعره ومفرداته اللغوية غدت قصائده صعبة وعصية على الترجمة. ومن أشهر دواوينه «الظل الحارس»الصادر سنة 1961 و«شجرة الكلام» عام 1989.
منذ عام 1945، أخذ ديب يعيش متنقلاً بين الجزائر وباريس. وفي عام 1951 تزوج من سيدة فرنسية وعاد إلى حياته النضالية في الجزائر إلى أن نفته السلطات نهائياً في عام 1959 بسبب تصاعد تأثيره في حركة التحرير، فجعل ديب من الكتابة بالفرنسية كتابة وطنية، وباتت فيها صورة الوطن الجزائر كبيرة وواضحة، وهي تخرج من حرب إلى حرب أشد ضراوة، من صلب التجربة الإنسانية التي لا حدود لقوتها.
وفي أعمال المرحلة الأخيرة من حياته، برزت حساسية ديب الصوفية وأخذت أسئلته الوجودية تهتم بأدبية وفنية الكتابة، بعيدا عن الهم السياسي.
كان الراحل يقول بهذا الصدد: «يُهيأ إلينا أن عقدا يربطنا بشعبنا، ويمكننا أن نسمي أنفسنا «كتّابَه العامّين» نحو هذا الشعب نلتفت أولا، ثم نلتفت نحو العالم لنشهد على هذه الخصوصية، ولكن أيضاً، لنشير إلى أن هذه الخصوصية تندرج في ما هو كوني».
لم يكن محمد ديب قاصا وروائيا فقط، بل كان شاعرا أيضا، له ست مجموعات شعرية أهمها «الخيالات الحارسة» و«أيتها النار، أيتها النار الجميلة»، وآخرها «طفل الجاز» التي كتبها في أمريكا متأثرا بثقافة الزنوج فيها، وقد حاز بها على الجائزة الفرنسية «ملارمي» للشعر. لقد كان محمد ديب -كما يصفه النقاد- انطلاقا من إدراكه ووعيه بذاته، يسعى إلى إدراك ووعي وطني، ومنه عالمي. وقد صمم ديب سعيه هذا مثل مسألة رياضية يعاد دائما اكتشافها، حسب منهج واثق، لكنه في الوقت نفسه غريب وغامض. ومن هذا الشعر تنبثق نصوصه التي تسير كأنها طقوس مسارية تراتيلها كتابة قلقة، كثيرا ما تفقد توازنها.
محمد ديب الكاتب والشاعر والروائي الجزائري، حمل هم وانشغالات المواطن المغاربي على مدار أكثر من نصف قرن. وفي أكثر من ثلاثين عملا في مختلف الأجناس الأدبية، منها القصيدة .
في عام 1961، صدرت أول مجموعة شعرية له، وفي سنة 1975 يسافر إلى فلندا للمشاركة في ملتقى أدبي. وفي نفس هذا العام، ينشر مجموعته الشعرية الثالثة «العشق كله»، وفي سنة 1976 يدعى محمد ديب إلى أكلاهوما ليكون عضوا في لجنة تحكيم إحدى الجوائز الأدبية العالمية بالولايات المتحدة الأمريكية.
بعض المثقفين والسياسيين الفرنسيين تفطنوا إلى أن كتابات محمد ديب لا تخدم مشروعهم التوسعي، معظمها يدخل في إطار التوعية لأبناء بلاده والكشف عن نوايا الفرنسيين التوسعية وتغييب الحقيقة، إضافة إلى توظيف محمد ديب لجميل التراث العربي والإسلامي في كتاباته.
ديوان «ظل حارس» عبارة عن مجموعة من القصائد الشعرية، كتبت في حيزات زمنية متقاربة. وأول قصيدة كتبها في هذا الديوان كانت سنة 1945 ومعنونة ب«ظل حارس»، وما يلفت الانتباه فيها هو عنوانها، فمن كان المعني؟ إنه يحمل رمزية قوية تحتاج إلى أكثر من تشفير. الظل رمزية للجزائر المستعمرة. والظل الذي لم يغب طيلة مئة واثنين وثلاثين سنة. وهي الفترة التي قضاها الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، والظل هو الحرية المهدورة والمنتهكة في الجزائر، والظل هو أيضا حق الشعب الجزائري في العيش في كنف الحرية والعزة والكرامة كبقية الشعوب المعمورة، والظل كذلك في نظر المبدع والفيلسوف محمد ديب يبقى حارسا لكل هذه القيم الإنسانية. وفي هذا الشأن، قال الروائي جيلالي خلاص؛ «كتب محمد ديب هذه القصيدة المطولة التي نترجم مقطعها الثالث والأخير في منتصف الأربعينات، وقد بدأت الروح الوطنية تتأجج في الجزائر -أحداث ماي 45- فكانت نبوءة حقيقية بميلاد الثورة التحريرية».
مقطع من نص القصيدة: «الظل الحارس»:
«لا تسألوا، إذا كانت الريح، وهي تهب على القمم، تذكي لهيب، ما إذا كانت نار فرح، أو نار فقر، أو إشارة مترصد، في هذا الليل المبلل، أيتها النساء الأسطوريات، اللواتي أغلقن أبوابهن، أحلمن، إني أمشي، أمشي، الكلمات التي أحملها على لساني، بشرى غريبة».
وحتى لا ننسى سوف نضع ألف خط تحت (بشرى غريبة)، إنها الثورة الجزائرية المجيدة التي أرخ لها المليون ونصف المليون شهيدا، ثورة أول نوفمبر 1954- يضيف خلاص .
هذه القصيدة أثرت بطريقة مباشرة في الإبداع الفرنسي وكل الشعوب التي تجيد لغة فولتير في عقلياتهم ومستويات تفكيرهم، إلى جانب المساهمة في نضج خطابهم الثقافي والإبداعي الذي منه بنيت المواقف وفتح النقاش إلى إعادة صياغة أسئلة جديدة لما بعد الاستعمار الفرنسي بالمغرب العربي، حيث تم التجاوب مع صرخة محمد ديب التي هي انعكاس لشعب كان يئن تحت جلد المستعمر، الصرخة وحدها تجعل الجزائري والمغاربي عموما يحيا وعند هذا الحد تصبح رؤيا الدمار الكلي يختلط فيها كل شيء؛ الحب والموت والوجدان والإثم.
«ظل حارس» يعكس تنكر الشاعر لكل ما يرمز إلى القيد، بل من شدة رغبته إلى التحرر سعى إلى تحرير القصيدة شكلا ومضمونا جسده في بعض التراكيب، منها «حالم تحت الضياء / الصيف كسفينة أدمية بين رايات الحرب / وهذا الشاب ينتهك عطشه الأبدي في الرغبة وصمت الموت الذي يتوجه».
أما قصيدته «أوجه الليل» المنشورة في نفس الديوان، فهي تنتمي أيضا إلى نفس اللون من الشعر الذي يكتبه محمد ديب، وفيها يقول «تعود الجموع دائما في الليل / وجوه ضامرة / تكشفها أضواء القطارات الطويلة المتقابلة / هناك دوما السيارات ونداءات باعة الصحف / كأنها تعيد ضبط العالم الغريب بالندم / وهكذا ترتطم الجدران عند أعتاب الموت / وفنادق الحب تروي مشاعلها / أنشد الراحة / وتفتح المدينة دائما أبوابها كي تقودني / إلى دوب يهرب فيها الظل الذي خلقنا منه / أناجي نظرة النجوم الساكنة / وأطير فوق الشارع وأضواء النيون / أه لا شيء يتبعني فالمدينة غير موجودة.
تنطوي المقاطع على الكثير من المفردات مثل؛ الشتاء، الليل، الظلام، الضياء والظلال ومثل هذه المفردات التي يكررها الشاعر في الكثير من قصائده لم يدرجها اعتباطيا، بل ترمز إلى انتقاد الاستعمار ووجوده بالمغرب العربي وتحديدا في الجزائر؟ ولعل المقطع الأخير (أه لا شيء يتبعني فالمدينة غير موجودة) رمزيته واضحة، فالمدينة التي يريدها الشاعر غائبة، بل من شدة يأسه تحصر عن غياب الظل بها.
في « أوجه الليل» يعتبر الشاعر نفسه سجين المدينة، وسجين ليلها المظلم، وجدرانها التي ترتطم عند أعتاب الموت وفي دروبها تتبخر الظلال. إنه وضع مقزز ومقرف ويعبر عن الضياع، لكنه ضياع من نوع آخر في مدينة نائمة، كل شيء يتحرك فيها بصعوبة؛ العيش بصعوبة والتنفس بصعوبة، وحتى حق الموت بصعوبة. يختصر وصفها بالقول إنها مدينة ميتة وغير موجودة، كونها خالية من الحميمية والعطف والتواصل. تراه في المقابل يتحسس مدينة سوف تأتيه من المستقبل الذي ينتمي هو إليه.
منح الجائزة في 2003 …فخامة رئيس الجمهورية شرّف الجمعية
في ديسمبر 2003، تم تسليم جائزة «محمد ديب» من طرف فخامة رئيس الجمهورية، السيد عبد العزيز بوتفليقة للأديب الجزائري حبيب أيوب عن مجموعته القصصية المعنونة «كانت الحرب»، وكان هذا تشريفا للجمعية من فخامة رئيس الجمهورية وبمثابة تشجيع لها على مواصلة المشوار.
بعد أوّل تجربة عرفت طريقها إلى النجاح بفضل طاقمها وأعضائها، كان لزاما على الجمعية إيجاد مكان للأطفال من خلال طرق سهلة لإدماجهم واطلاعهم على مختلف كتب وما كتب عن محمد ديب، حيث قامت بتوجيههم وفتح المجال لهم ومنحهم الحرية التامة في طريقة قراءة مؤلفاته أو ملخصات منها.
بالفعل، تمّ سنة 2002 تجسيد أوّل مشهد مسرحي مقتطف من مؤلفاته تحت عنوان «وسط الدار»، وحسب السيدة بن منصورة، وسط الدار هو الذي يجمع العائلات والجيران على إبريق من القهوة كل أمسية، وتتخلّل هذه اللّمة حكايات حول الحياة اليومية. وقد قام الأطفال من خلال هذا المشهد المسرحي بجمع نصوص لمحمد ديب، ومنها انطلقت أعمال أخرى قدّمها الأطفال وكانت دائما مستلهمة من أعمال ديب، حيث تم فتح عدة ورشات في الرسم والمسرح والصورة الفوتوغرافية… وغيرها.
الجمعية عند تنظيم أية تظاهرة ثقافية خاصة بمحمد ديب، تحاول الجمع بين السينما والأدب، إذ قامت في إحدى طبعات هذه الجائزة باختيار موضوع «الأدب السينمائي»، وتمّ التطرّق فيه إلى الكاتب محمد ديب والمخرج مصطفى بديع، وحوّل نص محمد ديب إلى إخراج سينمائي في شكل فيلم «الحريق» لمصطفى بديع، وأعطى حسبها هذا النص الوجه السينمائي للجمهور بعد أن كان حكاية من الواقع المرير في شكل نص أدبي، وبعد نجاح هذه التجربة، عمدت الجمعية ككل طبعة إلى المزج بين ما هو أدبي وما هو سينمائي.
دار السبيطار” شاهدة على المرارة
«دار السبيطار» الواقعة على مستوى الدرب المؤدي إلى مقر مديرية التربية القديم لولاية تلمسان، والتي خلّدها محمد ديب في أعماله، لم يسكنها أبدا، وإنّما كانت جدته رحمها الله تستأجر إحدى غرفها، حيث كان ينتقل إليها في العديد من المرات إبّان الثورة التحريرية، وكان يعايش المآسي الحقيقية التي تمرّ بها العائلات من فقر و«ميزيرية» تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، ومنها استلهم روايته المشهورة «الحريق». السيدة بن منصور، أشارت إلى أنّ «دار سبيطار» حاليا ملك لعائلة تلمسانية لا زالت تسكنها إلى يومنا هذا، وعرفت العديد من الترميمات سنة 2011، مضيفة أنه إلى جانب «دار سبيطار»، هناك مسكن آخر متواجد بدرب سيدي حامد، كان يستأجره محمد ديب وقد مكث فيه مدة طويلة، وهو ملك لعدد من الورثة. وفي هذا الشأن، أوضحت المتحدّثة أن الجمعية اتصلت سنة 2008 بورثة المنزل بهدف شرائه، وجعله مكانا رمزيا لهذا الكاتب، بناء على موافقة والي ولاية تلمسان ووزير الثقافة على طلب تقدّمت به الجمعية قصد تخصيص مكان رمزي لهذا الأديب يخلّد ذاكرته للأجيال الصاعدة. تلقت الجمعية حينها المساعدة الكاملة من الجهات الوصية بالدولة، لكن لسوء الحظ لم يكن هناك اتفاق تام بين ورثة المنزل، مما حال دون شرائه.
بتظاهرة ثقافية كبيرة …تلمسان تستعد للذكرى المئوية الثانية لميلاد ابنها البار
كشفت الدكتورة صبيحة بن منصور أن الجمعية مقبلة على أكبر تظاهرة ثقافية ستحتضنها ولاية تلمسان سنة 2020، بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد الراحل والفقيد «محمد ديب»، حيث تسابق الوقت قبل أربع سنوات من أجل التحضير الجيّد للتظاهرة، وجمع كلّ أعمال ديب الأدبية والفنية وغيرها من مؤلفاته وكل ما كتب عنه، مضيفة أن العملية تسير بوتيرة جد إيجابية، بعد أن تلقت الضوء الأخضر من الهيئات الرسمية والسلطات الولائية ووزارة الثقافة، وتلقت وعودا بالدعم.
التظاهرة، حسب المتحدثة، ستعرف قدوم وفود جزائرية وأجنبية من أدباء وكتاب وشعراء وشخصيات عالمية، إلى جانب تنظيم أنشطة ثقافية وفنية وعلمية وأدبية من مسرح، رسم وموسيقى…وغير ذلك، مع تقديم محاضرات وندوات من طرف أساتذة ودكاترة أكاديميين من مختلف جامعات الوطن، وكذا شعراء وفنانين تشكيليين ومصورين محترفين وفرق موسيقية مختلفة، كما ستعرض بالمناسبة كل أعمال محمد ديب وكل ما كتب ونشر عنه في الجرائد والمجلات والكتب… وغير ذلك.
وبخصوص تسمية الجمعية الثقافية ب«الدار الكبيرة» عوض مؤسسة أو جمعية «محمد ديب»، أماطت رئيسة الجمعية اللّثام عن هذا الإشكال الذي كان محلّ اهتمام الرأي العام وبعض المهتمين والأدباء والكتّاب، موضحة أنّ الجمعية عندما تقدّمت بطلب للحصول على اعتماد باسم «مؤسسة محمد ديب»، تلقت شرحا من مكتب التنظيم والشؤون العامة لولاية تلمسان، مفاده عدم وجود فرق بين المؤسسة والجمعية، ولا يوجد هناك قانون أساسي خاص بالمؤسسة، في حين يمكن توسعة الجمعية وإعطاؤها بعدا وطنيا بفتح 12 مكتبا ولائيا.
«الدار الكبيرة» جاءت بموافقة ديب
أضافت السيدة بن منصور أن فكرة تسمية الجمعية الثقافية ب«الدار الكبيرة»، طرحت لوجود فرقة مسرحية تحمل اسم «محمد ديب» تأسست سنة 1985، وقانونيا ليس لنا الحق في تكرار الاسم، ففضلنا تسمية «الدار الكبيرة» التي لقيت موافقة «محمد ديب»، حيث لم يعارض، بل بالعكس، طلب منا مواصلة المشوار والعمل.
عادت المتحدثة إلى فكرة تأسيس «الدار الكبيرة»، موضحة أنّها برزت سنة 1991، عندما كانت تنشط في صفوف جمعية «أحباب الشيخ العربي بن صاري» التي كان بها فرع ملحق خاص ب«محمد ديب»، لكنه بعيد عما هو أكاديمي وجامعي. ومن منطلق أنها مختصة في دراسة نصوص ومؤلفات الأديب، ظهرت فكرة تأسيس تنظيم لتعريف الجمهور بالكاتب الكبير، خاصة أنّه من مواليد تلمسان، فكان لزاما حسبها العمل على إعطائه حقه من الشهرة على المستوى العالمي، رغم أنه كان معروفا لدى الجميع.
عندما طرحت الفكرة، لقيت التفاف الجميع من كتاب وأدباء جزائريين، وتمّ الإعلان عن تأسيس الجمعية بحضور عائلته، وفي مقدمتها شقيقه رحمه الله، الذي كان يقطن في تلمسان. وبعد نجاح عدة أنشطة ثقافية كان لها صدى كبيرا على مستوى ولاية تلمسان، تمت بلورة الفكرة وتطويرها والتفكير في تنظيم تظاهرة ثقافية خاصة بالكاتب لا تنحصر في يومين فقط، وإنما تنشط على مدار السنوات المقبلة، لكن مع بداية العشرية السوداء، أجّلت فكرة تأسيس الجمعية الثقافية المستقلة إلى غاية سنة 2001، حيث تم إحياؤها مجددا ليتم عقد اجتماع بالمناسبة مع العديد من الكتّاب والأدباء الجزائريين ومختلف الطبقات المثقفة وغير المثقفة من صيادلة وأطباء وتجار وطلبة جامعيين وأصدقاء الراحل محمد ديب.
اشترط أن تكون الجائزة بمستوى عال
بعد إشراك الجميع في هذا الاجتماع، واستشارة الكاتب محمد ديب بسان كلو وطرح الفكرة وأهدافها عليه، وافق موافقة تامة وأعطى الإذن بالشروع في التنفيذ، وحملت فيما بعد اسم الجمعية الثقافية «الدار الكبيرة» نسبة إلى أوّل عمل أدبي صدر له عام 1952، وهو روايته الشهيرة «الدار الكبيرة»، حيث شهدت فيما بعد 25 طبعة، ثم أرادت الجمعية بعد ذلك توسيع الفكرة دون حصر مهامها فقط في السياحة، وإنما تخصيص جائزة لهذا الكاتب. وبعد استشارته، وافق على ذلك من خلال تدوين وثيقة تضم مختلف النقاط الأساسية والشروط التي تنظّم هذه الجائزة على أن تكون حسبه نوعية وذات مستوى عال. وعليه تم تشكيل لجنة رفيعة المستوى متكونة من أدباء وكتاب وشعراء تقوم بتجسيد هذا المشروع دون مقابل، وفي سنة 2001 تم الإعلان عن أوّل طبعة لجائزة «محمد ديب».
وخلال طرح مشروع إصدار مجلة أو نشرية خاصة بالجمعية وكلّ ما يتعلق بالكاتب «محمد ديب»، أوضحت السيدة بن منصور أنّ هذا العمل أو المشروع شرع فيه سنة 2003، لكن الظروف المادية حالت دون مواصلة الجمعية لهذا المسعى، لكن حسبها ما دامت الفكرة موجودة والإرادة موجودة لا بدّ من أن يتحقق.
ختمت السيدة بن منصور هذا اللقاء مع «المساء»، بالتأكيد على أنّ محمد ديب قامة من قامات الأدب الجزائري والعربي بكامله، وسيبقى اسمه رمزا يذكر ومصباحا مضيئا للأجيال الصاعدة من الشباب والأطفال، متمنية أن توجّه مختلف مؤلفاته وكتبه لهؤلاء الشباب والطلاب وحتى الأطفال ولكل الجزائريين بصفة عامة.
عاش يتيما ومتواضعا.. مستأجرا طوال حياته”
أكدت الدكتورة بن منصور، رئيسة الجمعية الثقافية «الدار الكبيرة» بتلمسان، أن محمد ديب لم ينل حقه في بلاده، رغم أنّه لم يدر يومها ظهره للجزائر وهو في فرنسا، حيث كان دائما حريصا على معرفة أحوال الجزائريين والجزائر، وقالت؛ «قمت في العديد من المرات بزيارته في مسكنه المتواضع جدا بسان كلو، وتحادثت معه من 3 إلى 4 ساعات، حيث كان رحمه الله يسأل عن كل صغيرة وكبيرة في الوطن. كان متواضعا في حياته اليومية مع الناس وحتى في معيشته اليومية».
في هذا السياق، أكدت أنه كان في كتاباته الصحفية مناهضا للتواجد الاستعماري الفرنسي في الجزائر، فنفي بسبب ذلك. وعندما أصدر أوّل عمل أدبي عام 1952، وهو روايته الشهيرة «الدار الكبيرة» ونشرتها «لوسوي» الفرنسية، نفذت طبعتها الأولى بعد شهر واحد، ثم تلته رواية «الحريق» التي تنبأ فيها بالثورة الجزائرية التي اندلعت بعد صدورها بثلاثة أشهر، وكان يقول عن نفسه متحدثا عن هويته وعلاقتها باللغة «إن أخيلتي وتصوراتي نابعة من اللغة العربية، فهي لغتي الأم، إلا أنها مع ذلك تعتبر موروثا ينتمي إلى العمق المشترك، أما اللغة الفرنسية فتعتبر لغة أجنبية مع أنني تعلمت القراءة بواسطتها، وقد خلقت منها لغتي الكتابية».
السيدة بن منصور أوضحت في سياق حديثها، أنه دفن بسان كلو، إحدى ضواحي باريس في فرنسا سنة 2003، وزوجته إلى حد الآن لا زالت على قيد الحياة ويعيش أبناؤه في فرنسا، مضيفة أنّ فرنسا نفته من الجزائر سنة 1959 قبل أن يعود بعد ذلك إلى أرض الوطن، حيث مكث في الجزائر سنين، ثم عاد إلى فرنسا وانشغل بالكتابة والتأليف.
وفي عام 1957، نشرت له رواية «النول»، ثم توالت كتاباته السردية بين عامي 1970 و1977، فنشر ثلاث روايات هي؛ «إله وسط الوحشية» عام 1970، و«سيد القنص» عام 1973، و«هابيل» عام 1977. كما ترك محمد ديب أكثر من 30 مؤلفا، منها 18 رواية آخرها «إذا رغب الشيطان» و«الشجرة ذات القيل» عام 1998، وخمسة دواوين شعرية منها؛ «آه لتكن الحياة» عام 1987، وأربع مجموعات قصصية منها «الليلة المتوحشة» عام 1997، وثلاث مسرحيات آخرها «ألف مرحى لمومس» عام 1980، إلى جانب ترجمته للكثير من الأعمال باللغة الفنلندية إلى الفرنسية.
وعن اتصالاته بالكتاب والأدباء والشعراء أنذاك، أضافت المتحدثة أنه كان على اتصال دائم مع كاتب ياسين الذي عمل معه في «ألجيري أفريكان» ومع أسيا جبار، في حين لم يكن له اتصال مع مولود فرعون. وفضلا عن ذلك، كان يقرأ كلّ المراسلات التي تصله ويرد على جميع الاستفسارات والآراء التي ترد من طرف بعض الأدباء والكتّاب والشعراء.. وغير ذلك. وكان آخر من ردّ عليه حسب السيدة بن منصور وهو على فراش المرض، أحد الطلبة الجامعيين الشباب سنة 2003، وبتواضعه لم يمنعه مرضه من ذلك. في المقابل، لم يرفض يوما استقبال الطلبة والباحثين والأدباء…وغيرهم ممن يحبّونه. وتضيف المتحدّثة أن محمد ديب عاش يتيما وعمر 11 سنة، حيث تكفلت برعايته أمه رحمها اللّه التي توفيت مع بداية الثمانيات وكانت تشغل خياطة لتقوّت عيالها، ولم يكن لديهم منزل ملك لهم وإنما كانت العائلة متنقلة من بيت إلى آخر تستأجره.
جائزة محمد ديب تدور حول “الهوية والتنوع واختلاطات الثقافات” …أعين المبدعين متجهة نحو تلمسان
أكدت الدكتورة صبيحة بن منصور رئيسة الجمعية الثقافية “الدار الكبيرة” بتلمسان ل«المساء”، أنّ البرنامج المرافق لتوزيع جائزة “محمد ديب” بدأ منذ أسبوع، حيث تقام طيلة هذه الأيام في مقر الجمعية بالمشور نشاطات في الرسم والتصوير الفوتوغرافي لسبعة فنانين، تتمحور حول الموضوع الذي تم اختياره وهو “الهوية والتنوع واختلاطات الثقافات”. تشرف عليها محافظة التظاهرة الثقافية، الأستاذة المختصة في الفنون الجميلة بالمدرسة العليا للفنون الجميلة في الجزائر العاصمة؛ نضيرة لعقون، وستعرض يوم الحفل بقصر الثقافة لمدينة تلمسان.
أوضحت الأستاذة بن منصور أنّ هذه اللوحات التي يتم عرضها، هي حوصلة لنشاط الفنانين طيلة أسبوع، تترجم موضوع هذه الطبعة من جائزة “محمد ديب”، إضافة إلى معرض لوحات العضو الفعّال بالجمعية، الفنان التشكيلي نور الدين بن حامد في تلمسان، تحت عنوان “امرأة تتحدّث”.
الحفل الختامي للتظاهرة ستقام يوم السبت القادم، وسيعرف حضور السلطات المحلية، وفي مقدّمتهم والي تلمسان، إلى جانب ممثلين عن وزارة الثقافة ومديرية الثقافة والمجتمع المدني ومختلف الجمعيات الثقافية والفنية والأدبية. وسيكون مناسبة لتقديم محاضرات وندوات من طرف أساتذة ودكاترة مختصين حول الكاتب المحتفى به، مع الإعلان عن النتائج النهائية للطبعة الخامسة لجائزة “محمد ديب” وتكريم الفائزين الثلاثة في اللغات الثلاثة.
سيقوم الأطفال المنخرطون في الجمعية بتقديم نشاطات مختلفة في الرسم والمسرح، حيث يقدّمون مشاهد مقتبسة من أعمال ديب تحت عنوان “ورث محمد ديب” الذي مازال يتحدث معها ويرد على جميع الأسئلة، لأنهم -تضيف المتحدّثة- قرأوا مقتطفات كثيرة من إبداعات محمد ديب قصد تجسيدها على الخشبة،
لتختتم التظاهرة الثقافية زوال يوم الأحد بمائدة حوار أو نقاش تجمع كتّاب وأدباء مع فنانين، إلى جانب جولة سياحية لمختلف المعالم الأثرية لتلمسان تقام على شرف الضيوف القادمين إلى ولاية تلمسان، الذين سيستمتعون أيضا بسهرة أندلسية مميزة.
خلال لقائها مع “المساء” في مقر الجمعية بالمشور، موازاة مع التحضيرات لتنظيم حفل توزيع الجائزة في دورتها الخامسة، أشارت مستضيفتنا إلى أنّ التحضير لهذه الطبعة بدأ سنة 2012، حيث حالت عدد من العوامل دون تنظيم دورة 2013، وبقي الحال إلى غاية عام 2015، وعرفت مشاركة 72 عملا موزّعا على 50 في اللغة الفرنسية و16 في اللغة العربية و06 في اللغة الأمازيغية. وبناء على هذا العدد، تمّ انتقاء 18 عملا أدبيا أودع على مستوى الجمعية الثقافية “الدار الكبيرة”.
في المرحلة الأولى، اختارت لجنة التحكيم ست روايات باللغة العربية و2 باللغة الأمازيغية، إلى جانب عشر روايات باللغة الفرنسية. وأبرزت المتحدّثة أنّ عملية التقييم تشرف عليها لجنة تحكيم مستقلة يترأسها الكاتب والمترجم محمد ساري بمساعدة أعضاء من اللجنة، منهم أدباء وكتاب.
وبعد أن أشارت إلى أنّ المشاركة باللغة العربية كانت ضئيلة خلال هذه الطبعة، تطرقت الأستاذة المختصة في الأدب المغاربي باللغة الفرنسية والباحثة في كتابات محمد ديب بجامعة “أبي بكر بلقايد”، إلى مراحل انتقاء هذه الأعمال إلى غاية الإعلان عن النتائج النهائية، وأضافت أنّ المرحلة الأولى يتم فيها استقبال كلّ الأعمال بمقر الجمعية، ثم بعد ذلك يتم ترتيبها وتصنيفها حسب اللغات المبرمجة، مع مراعاة مدى تطبيق المشارك للشروط المنصوص عليها من طرف مجلس جائزة محمد ديب الأدبية. بعد جمع الأعمال المقبولة التي تم انتقاؤها، يعقد مجلس استشاري يضم رئيسة الجنة الاستشارية، إلى جانب رئيس لجنة التحكيم.
بحضور ممثلي الجامعة ومديرية الثقافة لتلمسان، حيث ترتّب هذه الأعمال ويطّلع عليها أعضاء اللجنة الاستشارية. وفي هذه الطبعة تمّ انتقاء 18 عملا أدبيا من أصل 72 عملا، يخضع لدراسة وتقييم عضوين من لجنة التحكيم في مدة حددت من 3 إلى 6 أشهر، ثم إيفاد اللجنة بعد ذلك بتقرير مفصّل. بناء على تقرير المرحلة الأولى، يتم ترتيب الأعمال التي اجتازت بنجاح ويعقد ثاني مجلس استشاري ينتقي أحسن الأعمال المشاركة في ثلاث لغات، وتعاد قراءتها ويوضع تقرير مفصل في هذا الشأن. وبناء عليه، تم في 10 أكتوبر الجاري انتقاء ثلاثة أعمال في اللغة العربية وعملين في اللغة الأمازيغية وثلاثة أعمال في اللغة الفرنسية، على أن يتم عشية يوم الجمعة 21 أكتوبر بمعهد الدراسات الأندلسية لمدينة تلمسان، عقد اجتماع بحضور لجنة التحكيم وممثلين عن مديرية الثقافة والجامعة للمداولة وتحديد ثلاثة أعمال موزعة على ثلاث لغات؛ اللغة العربية واللغة الفرنسية واللغة الأمازيغية.
في هذا الصدد، أشارت السيدة بن منصور إلى أنّه في دورة 2011، حجبت لجنة التحكيم جائزة اللغة الأمازيغية، وتم الاكتفاء فقط بعملين في اللغة العربية والفرنسية، متمنية أن تحضر اللغات الثلاث دون استثناء، مضيفة أنها ستلتزم الحياد عند الاقتراع كونها رئيسة اللجنة الاستشارية، حيث ستكتفي بالملاحظة فقط.
تحصي أكثر من 300 منخرط… أبواب “الدار الكبيرة” مفتوحة للجميع
أعلنت السيدة بن منصور عن فتح أبواب الجمعية لكلّ من يرغب في الانخراط والالتحاق بها للعمل تحت رمز “محمد ديب”، يكفي ملء استمارة تحمّل من الموقع الإلكتروني للجمعية، مع الالتزام ببعض الشروط كالرغبة في الانخراط وحضور اجتماعات الجمعية، وكذا الحرص على التكوين داخلها في مختلف المجالات الموجودة بها والورشات، حسب رغباته.
أشارت المتحدّثة إلى فتح ورشة خاصة بالسينما من طرف أعضاء الجمعية، مقدّرة عدد المنخرطين في الجمعية بأزيد من 300 عضو منخرط، دون حساب المحبين والمعجبين والمساعدين لها من مختلف شرائح المجتمع التلمساني. كما قامت الجمعية بالاستعانة بمختصين في الأدب والسينما والتصوير الفوتوغرافي والمسرح لتكوين المنخرطين.
وعن كيفية حصول الجمعية على مقرها بالمشور العتيق، أوضحت السيدة بن منصور أنّ السيد زبير صبان، الوالي الأسبق لتلمسان، كان له الفضل في منح الجمعية هذا المقر، بعد تقديم طلب سنة 2001، وهي سنة تأسيس الجمعية، حيث قامت البلدية بترميمه وتهيئته بعد أن كان مهملا، حيث كان مستغلا من طرف ضباط فرنسيين إبّان الثورة التحريرية.
تعقد اليوم فيه جميع الاجتماعات الدورية الخاصة بالجمعية، مع تنظيم أنشطة ثقافية وفنية. ويستقبل أيضا مختلف الوفود القادمة من مختلف ولايات الوطن وحتى خارجه. أما عن الأهداف التي تسعى إليها الجمعية منذ انطلاق عملها، تضيف السيدة بن منصور دائما ل«المساء”، هناك أهداف تحققت وأخرى في طريقها نحو التحقيق، حيث كان الهدف الأول من التأسيس هو تعريف الجمهور بالجمعية، لكن ليس من الناحية الأكاديمية كالجامعة، ولكن على الطابع المكتبي من خلال تقديم محاضرات وندوات..وغير ذلك.
أما الهدف الثاني فهو خلق حوار بين الأدباء والكتّاب والجمهور، وحسبها فإنّ جميع كتب محمد ديب تساعد على ذلك، مضيفة أن الراحل قبل أن يكون أديبا كان رساما، بدأ إبداعه في الرسم والتصوير الفوتوغرافي، ثم بعد ذلك عاد إلى الكتابة، حتى أنه في بعض الأحيان عند قراءة كتاباته تظهر في مخيلتك على شكل لوحة مرسومة، فالارتباط الوثيق الموجود في كتاباته والرسم والصورة الفوتوغرافية بمثابة الطريق الذي شقّه للجمعية لمواصلة اتباعه.
الهدف الثالث يتمثل في تدعيم المواهب الشابة والأطفال من خلال إدماجهم ضمن الورشات الموجودة على مستوى الجمعية، لكن بأفكارهم الخاصة التي تتماشى مع وقتنا الحاضر، ما دام أنهم يقرأون نصوص محمد ديب التي تتحدّث وتتجاوب معهم، مستنبطين بذلك مقتطفات من نصوصه وتجسيدها في مشاهد مسرحية تعالج واقعنا الحالي. وقامت الجمعية خلال السنوات القليلة الماضية بجولة عبر متوسطات تلمسان، حيث دعت التلاميذ إلى كتابة نصوص مستلهمة من إبداعات محمد ديب، مع تخصيص جائزة لأحسن عمل مقدّم. وحسب بن منصور، تلقت الجمعية ما يزيد عن 420 من الأعمال التي خضعت للتقييم ومنحت جوائز قيمة للأعمال الأولى، مع تشجيع المشاركين من التلاميذ. كما تم أيضا تنظيم مسابقة في الرسم بالتعاون مع إذاعة تلمسان الجهوية، من خلال قراءة مقتطف من مقهى “محمد ديب” وتجسيده في شكل لوحة مرسومة، وكانت الأعمال ذات مستوى عال جدّا واللوحات المرسومة كلها كانت جميلة تعبّر كل واحدة منها على ما استنبطه التلميذ من هذا النص.
آخر إعلامي أجرى مقابلة مع الراحل، محمد زاوي ل”المساء”:…هكذا عرفت محمد ديب
كشف الإعلامي والمخرج محمد زاوي ل«المساء»، عن أن ّلقاءه بالأديب الراحل محمد ديب سنة 1996 يعتبر سبقا صحفيا في مسيرته الإعلامية، وفيها تعرّف على شخصية صاحب رواية «الدار الكبيرة» المتميّزة بالهدوء والعقلانية وخصال أخرى، يتحدّث عنها في هذا الحوار.
خلال مسيرتك الإعلامية، هل سبق وأن عرفت الروائي الكبير محمد ديب؟
— التقيت بهذه القامة الأدبية الكبيرة الراحل محمد ديب في عام 1996، وأجريت معه مقابلة مطوّلة نشرت في كتابي «الجزائر.. أصوات في اضطراب» التي جمعت أربعين مثقفا، من كتاب ورسامين، وباحثين … وقد كان لي السبق الصحفي في إجراء هذه المقابلة مع الكاتب، لأن محمد ديب لم يعط مقابلة صحافية منذ سنة 1963.
أنا أتأسف جدا حينها، لأن في السنة التي قابلته فيها لم تكن معي كاميرا لإنجاز فيلم وثائقي حوله، وضيعت فرصة كبيرة للتوثيق، لكن أحتفظ بصوته في أسطوانة.. له صوت رخيم وهادئ وجميل.
أجرى سنة 1963 مقابلة مع «الشعب» ومع صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، وبعدها لم يقدم أية مقابلة صحافية، لأنها نشرت في ظروف خاصة كانت تعرفها الجزائر، وقد كان يعيش الكاتب التراجيدية الجزائرية بألم كبير.
بعد «الحريق» أو»الدار الكبيرة»، لم يلتفت أي سينمائي لأعمال ديب، لماذا؟
— ليس من الضروري أن يكون المخرج كاتب سيناريو، نحن في الجزائر ربما نفتقد إلى كتاب سيناريو، لذلك تأتي الكثير من الأفلام هزيلة وضعيفة، ونصوص محمد ديب تحتاج إلى من يقتبسها. وهذا ما قام به مصطفى بديع حينما أخرج الحريق في حلقات تلفزيونية رسمت معالمها طفولتنا، فأنا إلى حد الآن أتذكر شخصية «عمار».. فهو مسلسل لا يزال حيا في أذهاننا.
هل تعرف سبب تغييب هذه الشخصية؟
— التغييب لم يمس محمد ديب فحسب بل الكثير من الأدباء. هناك الكثير من الأعمال التي يمكن أن تكون مادة لسيناريو، إلى حدّ الآن مثلا «نجمة» كاتب ياسين لم تحوّل إلى فيلم، وهو عمل روائي شهير.
أعتقد أن المشكلة في كتّاب السيناريو، وفي تحويل العمل الروائي إلى سيناريو، وهو عمل لا يخضع للعملية الإبداعية فقط، لكن إلى التحكّم في تقنيات التصوير والإخراج. كتابة السيناريو مهنة قبل أن تكون عملية إبداعية. في أوروبا اليوم، نجد مراجعي السيناريو الذين يراجعون النص وهي مهنة.. أنا أعتقد أنّ نصوص محمد ديب إنسانية ودائمة ويمكن لأيّ مخرج أن يقتبسها إلى السينما، لكن شرط أن يتوفر نص السيناريو.
في رأيك، ما هي الطريقة المثلى لإعادة الاعتبار لهذا الأديب الكبير؟
— أن تقام مسابقات مفتوحة تشرف عليها لجنة فيها مخرجون وتقنيو سينما وكتاب على مستوى وزارة الثقافة، لكي يقدم الأدباء سيناريوهات مقتبسة من روايات كبارنا أو أن يخصص كل عام لاسم كبير من كبار أدبائنا، وتقدم قيمة مالية كبيرة لأحسن سيناريو.
على الجزائر أن تفتح معهدا خاصا بالتكوين السينمائي ويكون هناك قسم خاص بكتابة السيناريو، وعلى المدارس والثانويات والجامعات أن تقدم دروسا في كتابة وتقنيات السينما، وأن توفر الكتب البيداغوجية في كتابة السيناريو
أنت آخر إعلامي أجرى معه حوارا مطولا، كيف وجدت هذه الشخصية؟
— حينما التقيته كانت الجزائر حقلا لاغتيالات الصحافيين والمثقفين والمواطنين بمختلف فئاتهم، وكان يتألم كثيرا لذلك …كان يعيش ألما لدرجة كبيرة بقوله لي «بالتأكيد، أشعر بالقلق والتمزق بسبب هذه الاضطرابات التي هزت الجزائر، أنا أشعر بهذا ككل جزائري. عندما ترتكب جريمة قتل بواسطة جزائري آخر، سواء أحب أو لا. أنا أتقاسم مسؤولية هذا القتل دون وعي أو به. القتلة يريدون تحميلنا المسؤولية، وهذا ما يزيد في تعاستنا إلى حد يجعلنا نشعر بالعار، لابد أن يشعر الجزائريون بالعار لأن جزائريين آخرين يقترفون جرائم ليست فقط باسمهم، ولكن أيضا بأسمائنا.. ليس هناك ما يبرر القتل حتى وإن كنا مسلمين، الإسلام لم يبح القتل من أجل القتل، تماما مثلما هو شأن الأديان السماوية الأخرى».
كنت سعيدا بلقائه لأنه من أهرامات الجزائر ومن رموزها الثقافية من كتبوا الجزائر، ومن كتبوا تأسيس الدولة الوطنية، لقد وجدته رجلا هادئا وحنونا ومنهجيا وعقلانيا وبيداغوجيا في كلامه -رحمه الله-
هذا ما أستطيع قوله في الراحل.
ديب.. العزلة في أقصى تجلياتها
لا نستعيد الراحل محمد ديب (1920-2003) إلا لتكريس غياب كان اختاره بوعي أثناء حياته، كأنما ليقول للجميع: إنني لا أحد، ولست هنا إلا لأروي حكاية شخوص يحاورونني بالهذيان، فأبعث فيهم تلك الروح التي تخرجهم إلى المشهد الجارح للتخييل.
ألم يقل في مقطع من ديوانه «فجر إسماعيل»: « لقد أعطيتم كل شيء لشخص لم يكن أحدا»، هكذا كانت حياته ذهابا في الصمت والعزلة، حتى اعتقد الجميع أنه مات من زمن طويل، ولم تعد تكلّمنا منذ ذلك الغياب الاختياري إلا كتبه وأعماله التي كانت تحاور الموت بعمق أكبر وتبتعد في الغموض الشفاف لأسئلة لا أجوبة لها..
كانت دائما صورة محمد ديب مرتبطة لديّ بالصفاء والشفافية، وبهذا الامتلاك الحكيم لفضائل معانقة الوجود بشغف الهدنة الطويلة، والتبادل الحيوي لكل شيء.. الكائن في هذا الخضم يمنح كله للعناصر، يتوحد معها إلى درجة الذوبان والفناء الذي هو حياة أخرى.. هو يحيا تجربة عبور لا ينتهي من العبور. والسر كله يكمن هنا، إذ التحول مقيم، والسفر ذهاب بلا وصول، وارتحال مجازف في تضاريس المفاجأة والدهشة، بالقدرة المستمرة على الحيرة والتوغل في المناطق الأكثر عتمة، ليس من أجل إضاءتها ولكن لجس مخمل السواد الذي بلا نهاية، وللشعور بذلك العماء البهيّ، حيث لا دليل ولا وصول.. هو تَقَرٍّ طائش بالبصمة التائهة لارتجافة السديم.. وتلمّس شقيّ لما لا يُدْرَك، وبحث يائس عن القبض عليه أو قوله أو عيش تجلّيه. لكن لا يتسع المتاح من اللغة والإشارة والنبض للوصف؛ لهذا أجمل ما في هذه الحالة هو الخرس بكل جنونه، والفقدان المأخوذ بالمستحيل. عودوا هنا لنصوص محمد ديب المحورية، خاصة ثلاثية الشمال «سطوح أورسول»، «ثلوج الرخام» و«إغفاءة حواء»، ولشعره الأخير…
في السنوات الأخيرة لحياته تحوّل محمد ديب إلى أسطورة حية، إذ كان آخر الأحياء من الكتّاب المؤسسين للأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، وكان يبتعد أكثر في العزلة والغياب، يحيا غربة العبور بين مجالين لغويين مختلفين. استطاع أن يصوغ منهما معا لغة جديدة وأسلوبا شخصيا، يتضمن أسرارا ودقائق وابتكارات لا تتاح إلا لمن تمرّس بهدوء على تطويع الكلمات وترحيلها من حقول ثقافية متجذرة في اللاوعي إلى فضاءات قادمة من هبات الآخر الذي يبقى أجنبيا. من هنا كانت كتابة محمد ديب كتابة الغريب الذي أدرك بمرارة هذه الحالة، وجعل من حياته قربانا لها. هو الغريب الذي يقيم بين ما فقده إلى الأبد، ولن يستعيده إلا بوهم الكتابة عنه، وبين حاضر ليس ملكه وليس هو فيه إلا شاهدا لا يؤخذ بشهادته المجروحة؛ لأنها نابعة من شخص غير موثوق فيه؛ لأنه الغريب مرتين؛ هنا وهناك، لهذا اختار محاورة الأبدية والسكن في اللغة التي أبدعها حتى لا يبقى منفيا أزليا إلا في المكان الذي يختاره هو في المركز؛ حيث يتحول وجهه إلى سؤال كما في شعره…
إن محور أعمال محمد ديب كان هذه الحالة النابعة من شجن المنفى بكل تجلياته، لهذا اختار العزلة والغياب، وابتعد في الأقاصي، وتحول إلى أسطورة، حول هالتها المضيئة تدور حياة كاملة من الزهد والتقشف والابتعاد عن الأضواء.. محمد ديب لم يكن يوما شخصية إعلامية مشهدية، كان قليل الظهور، كأنما ليفسح لنصوصه أن تتكلم بدلا عنه، وكان يختبر موته ككائن حي ليفسح للكائن الورقي أن يأخذ قسمته من محنة الوجود… بهذه المسلكية النادرة في مجتمع أصبح كتّابه ومثقفوه صنيعة الإعلام بامتياز، وهذا في العالم كله. استطاع محمد ديب أن يجد المسافة الضرورية بينه وبين عمله في هذا المسعى، على مشقته وشقائه. كان للفضائل التي ارتبطت بهذا المسار سحر الغرابة الجميلة، فالحاضر الغائب يبقي
وهو يتصل مع الآخرين، على ذلك الاحترام الذي تفرضه أخلاقيات الابتعاد والعزلة، هذه الأخيرة التي أصبحت مبدأ حياة وخيارا حرا، يدفع بالمبدع إلى التوحد مع الضفة الأخرى، ومع الأصداء المنبعثة من عوالم ينسجها المخيال، هذه العوالم التي ليست بعيدة عن الواقع، ولكنها سفر إلى أعماقه وخفاياه. هذه الحياة التي اكتنفتها السرية والعزلة لا تعني إطلاقا أن الكاتب لم يكن منخرطا في قضايا راهنه وعصره، ولكن طريقة النظر إليها والموقع البعيد عن كل حسابات مصلحية أو سياسية أو.. تجعل من التناول يأخذ جدية المساءلة وخطورة المقاربة الحكيمة التي لا تناور ولا تحقد أيضا، ولكن تحاول أن تجد العطب ومكامنه، وتبحث في جذور المشكلة وفي أطرافها الفاعلة، وكان هذا دأب محمد ديب باستمرار.
عندما رحل محمد ديب للمرة الأخيرة منذ سنوات وصدّقنا رحيله، كانت روحه التي طالما شبّهها بالطيور في شعره، تحلّق حرة لتتوحد مع السيمرغ، ألم تكن الطيور لديه ترمز للتواصل مع العالم العلوي؟ ألم يكتب فريد الدين العطار سفرا كاملا، أبطاله طيور ذهبت لتبحث عن ملكها وتتوحد به في الأخير؟… محمد ديب كان مسكونا بهذه الحالة، وبحالة أخرى لا تقل غموضا وبهاء عنها، وهي تقمّص الاسم؛ حيث يتحول الكائن إلى ذئب، ويطلق سراح الوحش الرابض في أعماقه كي يختبر عنف الوجود وعنف العلاقة بين المقدس والمدنس، ويذهب في أرضية الكائن.. إن هذين الرمزين اللذين توحد معهما محمد ديب الطيور والذئب يفتحان أفقا آخر لتجربة الإنسان ليحاول فهم مساره في مسار كائنات أخرى هي امتداد لجنونه وغرائزه وفانطاسماته وطيشه وحكمته أيضا… أين لنا هذه القدرة للإنصات لكل هذا الهدير الذي يسكننا؟.. نصوص محمد ديب الأخيرة تدوّن امتحان العبور، وتكثف بلاغة الصفاء والشفافية؛ حيث تدخل اللغة في اقتصاد معجز، وتنفتح الرؤيا على عوالم أقرب إلى المستحيل، أليست هي كتابة المستحيل؟ كتابة لا تقول ولكن تشير، وفيها يستطيع القبس لنور لا تترجمه الكلمات… هي سفر في مجهول ينكشف مقتربا ومبتعدا، يمنح نفسه للعين المحدقة ولكنه يفترسها بعد ذلك، تاركا انفجارها الضوئي يبوح ببعض الأسرار.. الكتابة هنا تسمى من جديد.. تحاول أن تبتكر معجمها الجريح لتقول دمها الأبيض وخيبتها الأخيرة دوما. الخيبة التي لا تنتهي ولا تبتدئ إلا في الصمت المطبق الذي تحرسه الريح الماحية للألواح، والرمال المهاجرة والرحالة، كأنها مسكونة بالمغادرة الدائمة وبإعادات التشكيل اللاسعة والمحولة.. إن محمد ديب كان يكتب كتابة الصحراء، فهل قرأناه، أم سنتركه منفيا أبديا كما كان؟
-محمد ديب كاتب جزائري كتب في سجلات مختلفة، تمتد من الشعر إلى الرواية والمسرح والتأملات والكتابة للأطفال، من مواليد تلمسان سنة 1920. غادر الجزائر سنة 1959 منفيا أثناء فترة الاحتلال، وبقي هناك إلى أن مات سنة 2003. من أعماله الروائية الشهيرة:
– الدار الكبيرة- الحريق- النول- صيف إفريقي- من يذكر البحر- القنص- هابيل- سيد القنص- الصحراء بدون انعطاف- سطوح أورسول- ثلوج الرخام- إغفاءة حواء- الليلة المتوحشة- إن شاء إبليس- لايزا- سيمورغ.
و له في الشعر:
– الظل الحارس- صياغات- النار النار الجميلة- أومنيروس- يا يحياء- طفل الجاز- فجر إسماعيل.
كما كتب في التأملات، ومن كتبه هنا: شجرة الحِكَم.
بقلم حكيم ميلود
محمد ديب كاتبا ومثقفا
علينا، قبل الحديث عن تغييب محمد، الانتباه إلى السياق التاريخي الذي جاء فيه هذا الكاتب الفذ. هناك ما يشبه تعارضا للمرحلة مع كل ما له علاقة بالأدب والفكر والفن والكتاب، وكل ما كان ذا علاقة بالعقل.
اهتمامات أغلب الجزائريين منصبة على مرجعيات جديدة كرّست نوعا من النمطية المدمرة: كرة القدم، الطرب والرقص، الدف والطبل والشعوذة. أمّا القراءة فلا شأن لها بالنظر إلى أنها لم تستطع أن تجد لها مكانا بين هذه الميول التي فرضت نفسها لعدة اعتبارات.
محمد ديب وغيره هم ضحايا المرحلة برمّتها، دون أية مفاضلة. يجب أن نتذكر النهاية المأساوية لعبد الحميد بن هدوقة، ما حصل لرشيد ميموني ومحمد أركون وجمال الدين بن الشيخ وآسيا جبار، وما عاشه كاتب ياسين في فترة ما، شأنه شأن رشيد بوجدرة وحكايته مع دور النشر الفرنسية في العشرية المظلمة. كما أشار إليها في مناسبات. المشكلة إذن ليست مخصوصة، ولا تتعلق فقط بمحمد ديب كعبقرية مذهلة، ككاتب له مؤهلات سردية وفكرية عجيبة، وكصاحب مواقف مبدئية لم يتخلّ عنها رغم الإغراءات.
صحيح أن محمد ذيب تعرض لمضايقات من قبل الناشرين، وقد وصل إلى مرحلة عسيرة لولا عناية أحد البلدان الأوروبية. يمكننا أيضا الإشارة إلى كتبه غير المترجمة، خاصة تلك التي اشترت حقوقها بعض الدول المجاورة قبل قرابة عشر سنوات، وهو يتجاور في هذا مع آسيا جبار، وكثير من الذين لم يكونوا محظوظين، ولم تكن لهم مؤسسات تهتم بأدبهم، وهم كثيرون.
أذكّر أن فكرة تكريمه كانت مطروحة قبل سنين من وفاته في الجاحظية برئاسة الطاهر وطار، وقد تمّ التحضير لها جديا، بيد أنه رفض لأسباب، قبل أن يوصي، في قرص مسجل عدم دفنه في الجزائر. لا أدري إن كانت الجمعية تحتفظ به إلى اليوم. وهذا خيار.
هناك أيضا تضليل كبير حاصل على مستوى بعض الفئات وبعض المنسوبين إلى الثقافة والجامعة ممن يسوّقون لمغالطات ساذجة. هؤلاء يزعمون بأن المعربين سعوا إلى نبذه وتهميشه من البرامج الجامعية. ذاك ما فهمته ابنته في وقت سابق، كما أقنعها محاضرون من منصة علمية لم يكن فيها أي علم. هؤلاء لا يؤسسون على منظورات مؤثثة ومقنعة بقدر ما يمررون خطابات دعائية لا علاقة لها بالواقع الفعلي، لا يهتمون بمحمد ديب ككاتب مكرس عالميا، بل كمفرنس، لا غير.
محمد ديب يستحق كل التكريمات التي تليق بأدبه الراقي، ككاتب له مؤهلات خارقة جعلته في مصف الكتاب الكبار الذين تحتفي بهم دول أخرى احتراما لآثارهم الخالدة. ربما تأخرنا كثيرا عن استعادته كاملا، وليس بالتقسيط. أخيرا، علينا، في هذا السياق، التنويه بالمترجمين الذين اهتموا به، وعلى رأسهم الأستاذ الروائي والمترجم محمد ساري.
الدكتور السعيد بوطاجين
حضور محمد ديب في المدرسة الجزائرية مكانة مرموقة فرضها الإجماع والتقدير
أكد الكاتب رابح خدوسي أن الراحل محمد ديب لاقى حقه غير منقوص، من خلال حضوره في برامج المنظومة التعليمية بعد الاستقلال، سواء من خلال نصوصه الأصلية بالفرنسية أو تلك المترجمة إلى اللغة العربية.
أشار محدث «المساء» إلى أن ديب كقامة أدبية جزائرية، ظلت تشغل حيزا كبيرا من الذاكرة الجماعية لأسباب شتى، منها تحويل رائعته «الدار الكبيرة» إلى مسلسل تلفزيوني. كما تذكره الأجيال من خلال اعتماد نصوصه كنص تعليمي في مادتي اللغة العربية والفرنسية، وظلت نصوصه تدرس لمدة سنوات وعقود. وأكد أن الجزائريين كلهم تربوا وتذوقوا جماليات وإبداعات نصوص ديب، وهنا استحضر المتحدث نماذج من الكتب المدرسية القديمة. ويقول بأن ديب مقارنة بزملائه من الكتاب، فقد لاقى الحضور اللازم في المنظومة التعليمية.
من جهة أخرى، فإن تعليم مثل هذه النصوص، يؤكد خدوسي، يراعي عند المتلقي مستويات اللغة والتصور والإدراك، بالتالي فإن مستوى الابتدائي يختلف عن المتوسط، وهذا الأخير يختلف عن الثانوي، وكل ذلك عبارة عن حمام لغوي لا بد للطالب أن يدخله مستعدا ويجد فيه الأسلوب الواضح والبسيط والألفاظ السهلة والقضية المشوقة والهدف المباشر، وكذا حضور المغامرة والدهشة التي تولد الحيرة، ثم تفتح التساؤل والبحث.
بالنسبة للمستوى الثانوي، يراه المتحدث يميل إلى التأمل والاستفسار حول الوجود، كل ذلك متوفر في نصوص الأديب محمد ديب.
أكد الأستاذ خدوسي أن محمد ديب حضر أيضا في موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين منذ فجر التاريخ. والتي ضمت 4 آلاف علم وأعجب بها رئيس الجمهورية وثمنها، علما أن المتحدث كان له نصيب كبير في إنجازها.
عموما، ظل المتحدث يؤكد أن ديب لاقى الحضور والتميز والاعتراف، لكنه ككاتب جزائري ذو صيت عالمي، كان من المفروض أن تكون كتبه في كل بيت وفي كل مكتبة، منها طبعا المكتبات المدرسية، بالتالي ينبغي ترقية كتبه أكثر وعقد ندوات عنه وطرح أفكاره للأجيال، وكذلك الحال مع غيره، وهنا ركز على أن الغيث لا بد أن يمطر على كل الأسماء.
في الأخير، اختتم المتحدث كلامه بالقول؛ إن الراحل محمد ديب لازال يحتفظ بمكانة محترمة لدى المثقفين المعربين والفرنكفونيين على حد سواء، ولا زال يحظى بالتقدير والوقار، وهي خصوصية نادرة لا يعرف سرها. كما أن ديب يحظى بالتقدير لأنه نظيف وليس عليه نقطة سوداء، ولم يخرج عن الأصول والقيم الحضارية للجزائر، مما ضمن له الإجماع.
من تاريخ ثورة إلى ثورة تاريخ …ثورة متعددة الوجوه
الغالب في تفسير اختيار محمد ديب للعيش خارج الجزائر، هو التفسير نفسه الذي دفع بآلاف المثقفين للمنفى، كرد على توجه السياسة الجزائرية في أعقاب الانقلاب «التصحيحي» الذي قام به الرئيس الراحل الهواري بومدين الذي غلب الساسة في دواليب الحكم على المثقفين نهائيا، بلا رجعة وبلا إمكانية للانفتاح على النقاش. قرارات أدت إلى استنزاف ثقافي نال البلاد مستهدفا الانتليجنتسيا الجزائرية في النخاع وحتى في حياتها.
أمر يفسره مؤشر بسيط، هو أماكن موت غالبية المثقفين الجزائريين الذين سايروا الثورة وصنعوا أمجاد العقل الجزائري الذي تحدى العقل الكولونيالي.
كان حظ ديب لسنوات طويلة كحظ أصحابه: تهمة كون الكتابات ضعيفة الصلة بالثورة، ثم الاتهام بنوع من الخيانة اللغوية من خلال مواصلة الكتابة باللغة الفرنسية، وبعدها الغلو الشديد في تسييس قرار التعريب، ثم أدلجته بشكل بائس جدا… ويقف فوق كل ذلك نزوع الثورات الحديثة والقديمة معا صوب شيطنة أبنائها، وأكلها لأرواحهم لفائدة إرساء بناء مرحلة ما بعد الثورة.
تهمة ضعف الصلة مع الثورة التحريرية لم يسلم منها العملاق الآخر «مالك حداد»، وسلم منها العملاقان الثالث والرابع؛ مولود فرعون (الذي هو شهيد رصاص المستعمر) ومولود معمري صاحب الروائع البديعة المعروفة…
وبقدر ما يصر المعلقون المتسرعون على هكذا تهمة بقدر ما يجيب محمد ديب بهدوئه المعهود «أنا سليل الثورة التحريرية وكل ما فعلته يحسب لها قبل أن يحسب للغة الفرنسية أو أن يعد لي أي فضل» (لوموند 1978)… والواقع هو أن طريقة التعبير عن موضوع ما تحتمل كثيرا من الإمكانيات، وطرح السؤال لكاتب في حجم «محمد ديب» عن كتابة كتاب عن الثورة بصراحة، مع تسمية المسميات بأسماء واضحة ينطوي على خلفية نقدية مدرسية هاجسها تقديم إجابات جاهزة وسريعة ونهائية حول جوهر الإبداع الذي هو جوهر فلوت، خفي، عميق…جوهر يخاتل لأنه ينتمي إلى عالم التلميح لا إلى عالم التصريح…
ثائر على طريقته الخاصة
إن الثلاثية كافية في الحقيقة لتبيان شدة ارتباط محمد ديب بالثورة كمفهوم وقدر محتوم تنبأ به، كما يفعل الكتاب الكبار جميعا؛ أولئك الذين لهم عين على الحاضر وأخرى مرشوقة في كتاب الغيب…إنه لمن المثير التأمل في حجم القلق الذي زود به محمد ديب سكان «دار السبيطار»؛ هذا المكان العجيب الذي هو البطل الحقيقي للرواية، والذي هو الجزائر في صيغة مصغرة مغلقة وذات حضور رمزي قوي… هذا القلق الذي كان يتجلى على مستويات عديدة أهمها أحداث عمر في المدرسة، وما كان يسمعه ويشعر به والأحكام المحيطة بذلك الوجود التعيس، وكذلك الشخصية الرمزية التي تلعب دورا هاما، بل ومحوريا في توجيه الحدث؛ المناضل الثائر «حميد سراج» الذي تبحث عنه السلطات بسبب نشاطه السياسي الذي يوصف بالإرهاب والفوضوية والشغب… هذا الحميد السراج الذي تتساءل النسوة في حقه: «والله إنه لرجل طيب… لا أدري لماذا يبحثون عنه كأنه مجرم…» (الحريق)
يبدو أن الأحداث التي من المفروض أنها تحدث عام 1939، والتي يرويها الراوي عام 1954، هي أحداث تمتلك قيمتها من خلال هذا الوعي «المعتمل» لدى النسوة (ومن المفروض أنهن أبعد الناس عن حركة الوعي)… هذه الأحداث تنطق بساعة الثورة التي بدأت تدق. نذكر أن هذا الجزء صدر – صدفة- قبل شهرين من اندلاع الثورة التحريرية العظمى… يقف النقاد ويقف الكاتب مليا عند عين الطفل وعيون النساء أثناء الحديث عن الثورة أو عن إرهاصاتها، لماذا اختار ديب هذه العيون التي قد لا ترى الثورة كما ينبغي لها في عظمتها وضخامة حجمها- أن ترى؟… والإجابة هي أن هذه العيون تخدم صورة الثورة مرتين: مرة تجعل المستمع لخطاب الرواية أو محمول القص يصدق الكلام لأنه كلام حقيقي، فالجاهل كالطفل وكربة البيت البسيطة؛ كلهم أناس لا يكذبون لأنهم يعتقدون أن الكذب أكبر منهم بكثير؛ كما هي حال الوضع الجزائري الموصوف في الثلاثية…
تمنحنا الثلاثية بما فيها من أجواء الاحتقان نظرة دقيقة للذات الجزائرية في مرحلة يتفق المؤرخون على أهميتها المركزية: منتصف أربعينيات القرن العشرين؛ وهي مرحلة اعتمال كبير، مرحلة نهضة الوعي الجزائري…إن محمد ديب نفسه يقف أمام العسر الاستعماري للتعبير عن الذات الجزائرية، هو تعبير عن الثورة بالضرورة، ويقف عند صعوبة أن يكون الكاتب آنذاك سليل لغة موليير وفولتير، ثم أن يقول الحقائق المرعبة حول هذه الأمة الكبيرة، فيقول: «لم يكن ممكنا آنذاك للشباب الجزائريين من هواة الأدب أن ينشروا كتبا، أو يطمعوا في إيجاد ناشر يرحب بهم، لقد كان ذلك عالما محرما. وهذا لا يرجع إلى كون الكاتب كاتبا ناشئا بل لأنه جزائري»… وهي أزمة معروفة ستطارد محمد ديب حتى آخر حياته، أليس هو الذي يقول في ضمن ما يقول؛ إن ناشره قد طالبه مرارا بالتضحية باسم محمد المزعج للأذن الأوروبية؟…ولا يغيب عنا كون محمد اسم الثورة الجزائرية بامتياز منذ روايته الأولى «الدار الكبيرة»؛ الجزء الأول من ثلاثية الجزائر، نجد أنفسنا مع أحداث تدور في دار سبيطار بمدينة تلمسان، تجمع مجموعة من العائلات الفقيرة في مكان سبق له أن كان مستشفى خلال الحرب العالمية الأولى… دار السبيطار الذي نرى فيه بروز شخصية جزائرية ثائرة إلى حد النخاع، هي «عيني» الأرملة التي تعتني بعائلتها المكونة من عمر الصبي وأختيه عويشة ومريم وكذلك والدتها المقعدة. وليس مخطئا من يعتبر الفقر والحرمان والعنت الذي يسببه الاستعمار هو البطل الحقيقي للدار الكبيرة التي تقدم لنا منذ البدايات ملامح الثائر حميد سراج…
حميد سراج الذي سيتواجد أكثر وبكثافة أعلى في الجزء الثاني من الثلاثية «الحريق»، وهو الجزء الهام الذي ينتقل بالأحداث من مدينة تلمسان إلى إحدى القرى؛ «بني بوبلان»، حيث نتعرف جيدا على عالم الفلاحين الذين سلبهم المستعمر أراضيهم وحولهم إلى «خماسين»؛ (أي أجراء فيها). ويسيطر على الأحداث الغضب الكبير للفلاحين الذين يعانون ظروفا استعمارية غير إنسانية، تنتهي بهم إلى قرار يشبه الثورة على أكثر من صعيد: تنظيم إضراب، ثم حرق الأكواخ في حركة احتجاجية عميقة، كل ذلك يحدث ونراه بعيون «عمر» بطل الثلاثية المعروف، تظهر هنا نشأة وعي ما؛ هذا الوعي الثوري الذي بدأ يتسرب إلى الجميع في ما يشبه حركة تمهيدية للثورة الكبرى.
وفي الجزء الثالث من الثلاثية النول (Le métier a tisser) والذي ظهر عام 1957. نجد عمر وقد أصبح شابا يعمل في مصنع النسيج؛ هذا الفضاء الروائي الهام الذي يدخلنا على عالم العمال الذي يبدو بوضوح كامتداد لعالم الفلاحين الذي تعرفنا عليه سابقا، وفي هذا المصنع نشهد التصاعد السريع والكبير لكره هؤلاء العمال لظلم رؤسائهم المعمرين.
نخرج من الثلاثية بصورة بليغة عن الأثر غير المباشر للثورة التحريرية الكبرى، الأثر الفني كما أسلفنا- الذي يقدم التيمة بطريقته الفنية الخاصة التي ليست بالطريقة المباشرة الفجة.
لكل جزائره… وللجميع جزائر واحدة
لقد أجاب مالك حداد الأسئلة حول عدم وضوح الموقف من الثورة، أو ما يمكن أن يوصف بالتناول غير الصريح قائلا: إنك لا تستطيع أن تقول للكاتب: قل كذا ولاتقل كذا، الواجب هو أن نبحث جيدا فيما قاله عما ترى أنه من الضروري قوله.
لقد كان تحدي هذه الفئة من الكتاب هي الدفاع عن الجزائري كإنسان لا كمحارب مجاهد يقاوم الاستعمار، لهذا نجد محمد ديب يقف ضد التيار الواقعي صراحة معلنا فشل التصوير الواصف الذي يحاول أن يستعيد صورة ما حدث، وأن ينقل مجمل ما قيل بحرفية فجة، معلنا بوضوح عن أن «الواقعية» المنتشرة آنذاك لم تعد تستجيب لتطلعاته ككاتب.
لابد من العودة إلى نشاطه الصحفي وكتاباته الصحفية في بدايات الخمسينات؛ على صفحات «Alger républicain « …إذا أردنا أن نواجه الموقف الواضح والكلمات الصريحة مع الجزائر والجزائري ضد فرنسا وسياستها وسلوك فرنسي الجزائر، ولكي نقف على النشاط الثوري قبل الأوان- لمحمد ديب… نشاط وانخراط حزبي نضالي سيؤدي بالسلطات الاستعمارية إلى نفيه من الجزائر كليا بسبب انتشار أثره بين أوساط القراء والمثقفين، وبسبب تحوله إلى رمز من الرموز غير المرغوب فيها.
إن الوقوف على كتاب ديب الذي ألفه في خضم الثورة لشديد التعبير عن موقف هذا الكاتب الكبير من الثورة التحريرية، المقصود طبعا هو روايته «صيف إفريقي»، وهي الرواية الرابعة للكاتب صادرة عام 1959 في فرنسا. في هذه الرواية يتناول محمد ديب الثورة الجزائرية بطريقة أقرب إلى الوضوح والنصاعة التي يحبها النقاد الذين ذكرناهم في مفتتح كلامنا هذا، إننا نجده يرسم جدارية شاملة للجزائر بتشكيلاتها البشرية كلها: المثقف، الثائر، المناضل السياسي، الفلاح، العامل البسيط، الموظف والبسطاء العاطلون. وفي خضم الأحداث يتضح جيدا موقفها من الأحداث التي كانت تملأ الجزائر آنذاك؛ مثل العمليات الحربية عبر الوطن، المقاومة المسلحة للأفالان، تورط الشعب في هذه الحركات، وكل ذلك من خلال تصوير مواقع من الحياة اليومية، فيها أحداث وكلام ووصف لمشاعر الناس البسطاء. إنها الثورة التي تسربت إلى كل شخص وكل شيء، وفي ذلك قول الكاتب على لسان أحد الأبطال: «لا أحد منا يستطيع أن يغير وحده الوضع الكائن، إنها مهمة الجميع»
هذه الرواية هي طريقة ديب الخاصة (والشعرية إلى حد ما) في تقديم صورة الشعب الجزائري إبان مرحلة الثورة، بأسلوب نصفه واقعي ونصفه شاعري يعتمد التسريع والتبطيء في عرض الحدث والحوار، بحيث تنكسر أسس الواقعية التصويرية التي كتبت الروايتان الأوليا بها…
الخيال العلمي .. رفض الواقع أم اخترقه؟
يقوم محمد ديب بعد ذلك بسنتين، بقفزة فنية هامة من خلال عمله الروائي الجديد الذي عاد به مكتوبا من فرنسا، بعد سنوات المنفى التي عاناها بسبب موقف السلطات الفرنسية منه وموقفه منها، تلك النقلة النوعية هي روايته: «من يتذكر البحر» (Qui se souvient de la mer) الصادرة عام 1962. وهو تاريخ شديد الأهمية بالنسبة للموضوع الذي نحن بصدد عرضه هنا…
تحافظ رواية «من يذكر البحر» على الخط نفسه الذي سار عليه محمد ديب، في وفاء عجيب للقضية الجزائرية. ولعل النوطة الجديدة فيها التي يمكننا وصفها بالمختلفة عما ألفناه لدى ديب، هي البعد الفلسفي للعمل الذي اتخذ شكل الخيال العلمي بكتابته ليوطوبيا مضادة؛ عالم جحيمي يحمل تأويلات للواقع البائس الذي يصوره، وهنا علينا أن نتساءل حول سبب اختيار الخيال العلمي كشكل للتعبير عن الثورة التحريرية، وعن خصوصية هذا الجنس الكتابي في تقديم المواضوع. والغالب هو أن الخيال العلمي يمنحنا سبيلا خاصا لتقديم أفكارنا، فهو يملك طاقة رمزية كبيرة تمكننا من التلاعب بمحددات الواقع الذي نتناوله، وتقربنا من الواقع بقدرما يبدو لنا أنه تبعدنا عنه، وهو الأمر الذي يبدو أن محمد ديب فهمه واستغله استغلالا لم يخف على المكاتب السياسية التي اتخذت موقفا صارما من محمد ديب، أدى إلى تغييبه القاسي لمدة ثلث قرن كامل عن بلده وعن ذاكرتنا الوطنية.
تقوم الرواية على خيط أساسي يسير الحدث من بداياته، يختزل برمزية بديعة الترسيمة التي قامت عليها الثورة الجزائرية، وذلك هو ثنائية الصراع بين قوتين: السكان الأصليون المقيمون تحت الأرض والمستعمرون الذين يسكنون مدينة تكنولوجية متطورة جديدة. ومن المفيد الإشارة إلى شخصية محورية تدخل عوالم يحدث لها من شدة الرمزية، أن تبتعد عن الواقع والمعيش والمألوف في أجواء تحيل على الخيال العلمي أو الأدب العجائبي، وهي شخصية مؤنثة؛ ولنا أن نقرأ هذا الاختيار السردي على أكثر من محمل رمزي للمرئ الجزائري الناشئ، إن بطلة الرواية هي نفيسة زوجة الراوي التي تحمل بعدا واضحا بداية جديدة لجزائر جديدة…جزائر ربما آن لها وقد استقلت أن تتحول إلى البعد الانساني مشيرة إلى أن الجزائري إنسان وليس حيوانا مقاوما للاستعمار (إذا استعرنا تعبير الفلاسفة)…يحلم ويحب وبتأثر لحال أخيه الانسان…
هذه الأبعاد الإنسانية التي سيصبح ديب معروفا بها هي نفسها الخيوط التي تسير أحداث الرواية الأخرى «مسيرة على الضفة المتوحشة» (Cours sur la rive sauvage ) الصادرة أيضا عام 1962. فبعد الرواية الرمزية الخيالية العلمية «من يذكر البحر» سنلاحظ ترسخ اتجاه يصفه المعلقون بالإنساني سيعمل ديب بموجبه على طرح قضايا الخير والحب والعدالة والتسامح… وغيرها دون أن يبتعد عن الجزائر.
تعرض الرواية قصة حب بين شخصية إيفان زهار وشخصية راضية، إذ يحول بينهما مانع فلا يرتبطان بل ويتفرقان بشكل يكاد البطل أن يجن له، ثم يبدأ مسيرة بحثه عن هذه المرأة؛ بحث يعطيه نفسا جديدا في الحياة وهدفا لوجود كان من دونها يبدو فارغا تماما، ونلاحظ أنه كلما التقى بهذه المرأة تختفي مجددا، وهو أمر يتكرر عدة مرات؛ إلى أن يلتقي صدفة بامرأة مشابهة تسمى Héllé؛ وهي امرأة أجنبية وتختلط صورة المرأتين في دخيلته حتى يعسر عليه تحديد مشاعره تجاههما، بل ويستحيل التفريق بينهما… وحين يصل في الأخير إلى أن هالة ليست هي راضية، يكون قد تعلق بهالة وفات أوان العودة إلى راضية. وتختلط الأشياء في مخيلته: راضية الأم الجزائر من جهة وهالة الزوجة الأجنبية.
الغربة اختيار جبري
لقد قيل عن عالم محمد ديب الروائي، بدءا من هذه المرحلة، بأنه عالم طغت عليه الغربة، بحيث صارت صورة الجزائر باهتة لا تتضح بقوة مثلما يمكننا شم رائحتها في أعمال أمثال «الطاهر جاوت» و«مولود فرعون» و«كاتب ياسين» …وهو كلام لا يخلو من حقيقة، إلا أنه في الوقت نفسه يطرح الإشكالية طرحا مغلوطا، لأنه من غير المنطقي أن نتخذ لنا تشكيلة تشبه طريقة التحضير، ثم ننتظر من الكتاب اتباعها والصدور عنها حرفيا… فعوالم ديب هذه لا نستطيع أن ننفي عنها البعد الجزائري العميق، ولا يمكننا نكران سيطرة صورة الوطن بكل ما فيها، ذلك الوطن الذي تحول على صورة تأتي من بعيد على أمواج الغربة والحنين، وهنا وجب طرح السؤال عن الوطن: تراه المكان الذي نولد فيه ونجبر على المكوث فيه؟ أم هو المكان الذي نرتبط به وجدانيا وعاطفيا ونحمله معنا رغم كثرة الترحال؟.
إن معاينة بسيطة لموضوع الرواية الموالية «رقصة الملك» (La danse du roi) الصادرة عام 1968، تجعلنا نرى محمد ديب يصر عائدا إلى الحديث عن الوطن بلهجة انتقادية شديدة الصرامة، وهنا ينتقل الكاتب إلى الحديث عن الجزائر بعد الاستقلال. والغالب على الأبطال في هذه الرواية أنهم أبناء الثورة ممن تحولوا من سهولة الحياة أثناء الثورة إلى التغيرات السوسيوثقافية الكبرى لمرحلة ما بعد الاستقلال. ونلاحظ أن حياتهم صارت فوضوية معذبة مع أزمات ضمير كبيرة وطرح لأسئلة مصيرية حول غربلة مرحلة الثورة وفهمها، وكذلك وضع اليد على مرحلة مابعد الثورة بتناقضاتها والنتائج التي أعقبتها….
بطلة رقصة الملك تنهي الرواية معلنة في وجه رفقاء الجهاد الذين صاروا أعداءها، واتهموها بالجنون، ثم أدخلوها مستشفى المجانين: «الشعب، آه له هذا الشعب. إنه لا يصلح إلا للموت في الجبال أو المعاناة الشديدة. لكن أن يستفيد من الحياة، فهو لا يصلح أبدا، ألا يمكننا العيش؟ هل تفهمون؟ القضية بسيطة: السعادة».
لقد طرح محمد ديب في جميع رواياته (بما فيها الروايات الأخيرة التي صارت موضوعاتها غريبة واجنبية في معظمها) رؤيته لأوضاع الجزائر أثناء الفترة الاستعمارية وبعد الاستقلال. ولا يمكننا أن ننتظر من كاتب كبير أن يتقيد بطريقة استعمال خطية نمطية…
الكاتب يملك رؤية تتجاوز الواقع المحدود وتتعالى على الحادثة البسيطة لكي تنظر في صلب الحياة…ولا بد من العودة إلى الاعتبار الذي كثيرا ما تناوله المعلقون والنقاد حول عسر الترسيمة التي تجعل الكاتب يكتب بالفرنسية، لكي يقول أشياء ضد فلسفة الفرنسية العميقة التي قامت بمحو عناصر هوية أمة كاملة (بدءا من لغتها) لتعوضها بلغة بديلة…
يبدو محمد ديب في منتصف الطريق بين مالك حداد الذي عالج الأمر بالصوم عن الكلام وبين كاتب ياسين الذي فضل الانخراط في عوالم كثيرة، متخذا اللغة التي هي «هدية مسمومة» على أنها على العكس تماما- غنيمة حرب…
في منتصف الطريق، يقف محمد ديب بنظرة ثاقبة استشرفت الثورة قبل حدوثها أصلا، وبنظرة لا تتعامل مع موضوعاتها ولا مع المواجد التي تزخر بها النفس تعاملا يتحرى المحافظة على صورة ملائكية، لثورة هي ككل الثورات جمالها في التداخل بين عالم الملائكة والشياطين…
أليس الكون الذي اختاره الله سبحانه وتعالى كونا لنا مليئا بالاثنين معا؟
بقي في الأخير أن نذكر بأن كل الحكايات أشجار لابد من فرز أوراقها واحدة واحدة، قبل الوصول إلى أن أهم ما فيها يتوارى خلف الظلال لا الأوراق والغصون… ولديب مقولة جميلة في بعض منعرجات «من يذكر البحر» يخاطب من خلالها ظله ربما…يقول:
سِرْ عبر الزمن
سِرْ مُغطيا عيني
كأني ما بين سيرٍ وبين فرارٍ……
إعادة تأهيل
بعد أربعين سنة تقريبا من الاستقلال ومن بداية الأزمة المعقدة التي أدت بمحمد ديب إلى الغربة التي لم تكن رحيمة مرة، بسبب الانتماء إلى وطن حديث عهد بكل شيء، يبحث عن معالم للسير بطريقة فوضوية تجعله يأكل أبناءه دون شعور بفداحة ما يفعله، ومرة بسبب القدر الغريب الذي سيجعل الوسط المثقف في فرنسا يشعر بالحرج، لأن الأغلفة المتصدرة لأفضل المبيعات مكتوب عليها اسم «محمد» غير المرغوب فيه إلى درجة كبيرة لأسباب إيديولوجية معروفة، وسيطلبون منه بكل وقاحة تغيير اسمه إن كان لا يريد أن يسلط عليه الحصار الإعلامي، فيغترب ثانية وسط غربته وينتقل إلى هولندا، حيث سيقضي سنواته الأخيرة مغتربا غربة مزدوجة.
بعد أربعين سنة إذن، سيشرع الوطن الأخرق بسبب حداثة سنه والأرعن بسبب السياق الاستعماري، في محاولة الدخول إلى سن الرشد، فنرى منذ حوالي 15 سنة محاولة تصحيح أخطاء الماضي، بفرض قراءات جديدة لأعماله تتجاوز الأحكام السطحية السريعة صوب تقديم صورة في حجم أديب الأمة الأكبر في نصف القرن العشرين. وسنقول ختاما؛ إن الأمر طيب في المطلق لأن الأخطاء التي حدثت والتي ذكرناها هي أخطاء طبيعية لا يخلو منها تاريخ أمة عظيمة ولا يستطيع وطن حديث السن بكل المقاييس أن يتجنبها، لأنها جزء هام من «النظام العادي للأشياء»… وطن لا يمس بعظمة روحه كبر أخطائه التاريخية ما دام الحاضر مصرا على تصحيح تلك الأخطاء.
د. ف.الأحمر
ديب ضحية ثلاثيته الأولى!
ليس سهلا ولا ممكنا نسيان صورة لالّة عيني ولا صورة عمر في مسلسل الحريق المقتبس من ثلاثية محمد ديب، والذي أخرجه مصطفى بديع. تلك الصور التي فتحت أعيننا على الأدب الجزائري، وجعلت اسم محمد ديب كأحد رواده، لكننا ظللنا حبيسي هذه الصورة ولم نلتفت لما كتبه ديب بعد استقلال الجزائر، خاصة بعد أن قرر الاستقرار خارج الوطن بمدن كثيرة بأوروبا وبشمالها خاصة، لذلك فمنفاه الاختياري وابتعاده عن الجزائر ساهم، بشكل كبير، في تغييبه عن الساحة الثقافية على الرغم من بقاء نصوصه في كلّ البرامج التعليمية حتى الآن، لكن وللأسف الشديد، ظلت النصوص مختارة من ثلاثيته الأولى فقط: الحريق، الدار الكبيرة والنّول، وبالتالي فإني أعتقد أن ديب كان ضحية هذه الثلاثية رغم أن ما كتبه بعدها يفوقها فنا وإبداعا، فلم ننتبه لمحمد ديب الشاعر ولا المسرحي ولا القصاص ولا المترجم من لغات شمال أوروبا إلى الفرنسية. ولنا أن نتصوّر أنّ ديوانه «ظلّ حارس» (1960) قد قدّم له الشاعر أراغون. فشعر محمد ديب ظل حاضرا في نصوصه الروائية خاصة في ثلاثية الشمال، سطوح أرسول، ثلوج من رخام وإغفاءة حوّاء، وهي الثلاثية التي لم يعرفها القارئ العربي إلا مؤخرا بفضل جهود منشورات البرزخ والمترجم محمد ساري لرواياته، وفي الشعر ما ترجمه الشاعر ميلود حكيم بدءا بديوانه «فجر إسماعيل»، تلك الترجمات التي أعادت محمد ديب إلى وطنه وإلى لغته. وأقول لغته لأن المشتغل على أعماله سيكتشف مدى وجود لغته وبيأته فيها. ألم يقل: «إن تخيلاتي وتصوراتي نابعة من اللغة العربية، فهي لغتي الأم.. والفرنسية خلقت منها لغتي الكتابية!».
بعد الاستقلال وحتّى سبعينيات القرن الماضي لم تكن قراءة محمد ديب مطروحة بشكل كبير، لأنه يكتب بغير العربية، لأن أغلب الجزائريين كانوا من مزدوجي اللغة، لكن مع ثمانينيات القرن الماضي صارت القراءة بغير العربية مقتصرة على فئة قليلة لم تعرف محمد ديب إلا بعد وفاته وبعد أن أوصى بدفنه في فرنسا، رافضا بذلك نقل رفاته إلى موطنه، ربما هذا ما خلق عند الجزائريين صدمة، فراحوا يبحثون عن أدبه.
عبد الوهاب بن منصور
ليس هناك من يقارع تجربة ديب
يبدو لي وأنا أتأمل اللّغط الحاصل في الشأن التربوي عموما، أنّ الجزائر قد تخلّصت من ثقافتها المحليّة، من أدبها ومن نصوصها التي أسّست لهويتها المتعددة بدون أن تنتبه، وهكذا صار الحوار متعلّقا بجزئيّات لا بكليّات مهملة، أقول هذا الكلام وأنا شاكر للجزء الناضج والواعي من المنظومة التربوية، التي سرّبت إلى دواخلنا عوالم محمّد ديب الجميلة.
أعتبر الرّوائي والشاعر الكبير محمّد ديب خلاصة حقيقيّة لما يمكن أن يكون عليه الأدب، هو بدأ واقعيّا حتّى منتصف الخمسينيات، ثمّ تحوّل إلى النصوص المربكة والعجائبيّة، هو بدأ من الجزائر وانطلق إلى العالم. أعتقد أنّه الكاتب الجزائري الأكثر وعيا بمشروعه الأدبي (رواية وشعرا)، طبعا نحن لا نعرفه شاعرا، وقد انتظرت سنوات لأقرأ له «فجر إسماعيل» مترجما إلى العربية، وقرأته بالفرنسية لاحقا، ولمست نجاح الشاعر والمترجم المميز ميلود حكيم في تحدّيه. ميلود حكيم هو أكثر شخص دراية بعالمه الشّعري، ببساطة، لأنّه فتّشه من الداخل وغاص في معانيه ولم يقرأه فقط، بل كتبه مرّة أخرى.
ديب الذي أقول بأنّه صاحب مشروع تراجع مؤخّرا ولم يعد الجزائريّون يدركون قامته ولكن يحفّزنا وجود جائزة باسمه، وهي تمضي لترسخ تقليدا مختلفا، ووجود ناشر مثل «حبر» التي على رأسها إسماعيل محند، وهو الذي أخذ مبادرة إعادة طبع أعماله.
أعتقد أنّه ليس هناك اليوم من يقالرع تجربة محمد ديب، ليس هناك أصحاب مشاريع روائيّة حقيقية، هناك كتّاب روايات أكثر من أصحاب مشاريع.
إسماعيل يبرير
دار السبيطار أسطورة أخرى وقّعها ديب …الأدب في خدمة الدراما
ظل مسلسل الحريق أو «دار السبيطار» للراحل مصطفى بديع علامة فارقة في الدراما التاريخية الجزائرية، حيث لاتزال الذاكرة الجماعية تحتفظ بأبطاله ومشاهده التي تعكس واقعا عاشته الجزائر في مرحلة من مراحل تاريخها.
ظل هذا العمل حيّا بفضل نصه الراقي الذي أبدعه الراحل محمد ديب، والذي كان بمثابة التنبؤ باندلاع ثورة التحرير؛ فلقد كتبه ثلاثة أشهر فقط قبل اندلاعها، فنقل واقعا مرا عاشه شعبه وعاشه هو أيضا، وبالتالي كتب له كل هذا العمر.
«الحريق» مسلسل تلفزيوني جزائري يتناول مرحلة من مراحل الاحتلال الفرنسي للجزائر، وقّعه في عام 1974 المخرج الكبير الراحل مصطفى بديع، وقام بتلحين موسيقى المسلسل الأمين بشيشي، وبقيت أنغام «الحريق» مغروسة في الوجدان الجزائري.
المسلسل بالأبيض والأسود لكنه استعرض كل ألوان وأطياف الحياة اليومية للجزائريين الكادحين إبان الاستعمار، وذلك من خلال قالب درامي اجتماعي نسجه بحنكةٍ الراحل ديب.
ينطلق المسلسل بقراءة الراوي الذي يسرد قطعة من نص ديب من ثلاثيته الشهيرة «الدار الكبيرة»، منها: «شعب أرادوا أن يحوّلوه بالقوة إلى قطيع من الأغنام، همه الوحيد هو المرعى.. الجري وراء القوت.. شعب حاولوا أن يسلبوا منه شخصيته، وحاولوا أن يجعلوه هكذا بقوة النار والحديد.. شعب تألم من وضعيته ولكنه لم ييأس من أن يرى في الأفق بزوغ فجر الحرية.. شعب لم يكفّ أبدا عن الكفاح وكبح رغبة شديدة من أجل العيش تحت الشمس المشرقة، فأرغموه على العيش في الظلام.. شعب منذ أكثر من قرن لم يكفّ عن الكفاح لكي يسترجع كرامته المسلوبة.. شعب لكي يضع حدا للظلم والطغيان حمل في هذا اليوم التاريخي من شهر نوفمبر السلاح للتحرر والانعتاق».
أراد محمد ديب أن يبرز أهمية القائد السياسي من خلال شخصية مناضل قيادي سياسي يهتم بما يجري في بلاده، يدعى حميد سراج ويريد تنظيم هذا الشعب المظلوم المضطهد الأعزل، الذي يشكل قوة كبرى إذا تَنظّم سواء في المدن أو في الريف. ويتمتع هذا المناضل بتجربة اكتسبها من ثقافته ومن سفره واطلاعه على ما يجري في العالم. كما أنه مثقف ويريد نشر الثقافة والوعي في بلاده التي يسود فيها الجهل، وهو إلى جانب ذلك فصيح وجريء وشجاع.
صوّر محمد ديب في ثلاثيته الرائعة، حالة المجتمع الجزائري في الثلاثينات والأربعينات قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وقد ملأها بالشخصيات التي تمثل شرائح المجتمع بأفكاره ومعاناته وطموحاته وسلوكاته.
بطلة «دار السبيطار» بلا منازع كانت وستبقى «لالة عيني» التي تمثل المرأة الجزائرية المكافحة من أجل ضمان قوت عائلتها، فهي التي تعمل بيديها ورجليها على ماكنة الخياطة لتوفر الخبز، إنها الأرملة الفقيرة التي تسكن غرفة واحدة في دار السبيطار، تجري ليل نهار لسد جوع أبنائها الثلاثة. وتميزت هذه السيدة بالصرامة وبالصراخ أحيانا في وجه الآخرين؛ وكأنها تنفّس عن نفسها بما في داخلها من ضغوط وقهر، وقد أبدعت السيدة شافية بوذراع في الدور مما جعلها تسمى عند الجمهور ب «لالة عيني».
أما ابنها الصغير والوحيد بين البنات عمر (الفنان عبد الرحمن لوطيسة) فمثل حال الطفولة إبان الاحتلال والتي لم تكن تحلم إلا بقطعة الخبز، أما اللعب والترفيه فكان شبه مستحيل، بل كان للأبناء نصيب في سد البؤس والتكافل مع أسرهم، وهنا يذكر الجميع كيف أن عمر ارتبط بعبارته الشهيرة «يما، لابوليس»، والتي لايزال الجمهور يطالبه بذلك حتى اليوم، علما أن «المساء» شهدت هذه المواقف، وفيها كان يرحب بصدر رحب، ويؤدي المقطع إرضاء لجمهوره.
حميد سراج كان شعلة النور بالنسبة لهؤلاء خاصة بالنسبة لعمر، فالغاية كانت الانعتاق من الفقر ومن بطش المعمرين وأعوانهم الاستعمارية.
وضع محمد ديب مخططا لكل شخصية من شخصياته التي رسم العلاقات بينها ضمن حبكة الرواية، وقد يمثل بالنسبة لبعض الشخصيات الرئيسة، حبكة الرواية نفسها.
تبدأ الرواية في المدرسة؛ حيث يُرى عمر وأطفال جائعون يتنافسون من أجل قطعة خبز. وجوع الأطفال معناه جوع الشعب بكامله، ولا ينقلنا محمد ديب من المدرسة إلى دار سبيطار قبل أن يعرّفنا على ما يدرسه التلاميذ بلغة غير لغتهم، فهم يدرسون أن وطنهم فرنسا، وأمهم فرنسا، وحين حدّثهم أستاذهم الجزائري عن حب الوطن، وأن كل من يحب وطنه يسمى وطنيا. تذكّر عمر حميد سراج وملاحقة الشرطة له، وتساءل من هو الوطني حقا؛ حميد سراج أم الأستاذ؟
تأتي الشرطة للبحث عن حميد سراج في دار سبيطار، ويحتلون الفناء ويفتشون غرفة أخته فاطمة، ويبعثرون كتبه وأوراقه، ولم يعثروا على شيء.
جو الهجيان في دار سبيطار ينخفض منذ الساعة الثامنة من المساء، فينتظرها المرء ليتنفس الصعداء.
بقيت شخصية عمر والزهرة (عايدة كشود) هي الأمل الموجود والصورة الجميلة في القصة. كما ظهر تمكن الراحل بديع من ترجمة النص إلى اللغة الدارجة، والتنسيق بين نصوص الثلاثية وتحويلها إلى مشاهد حية روّجت لعمل ديب.
المسرح في تراث محمد ديب
تعاطى الراحل محمد ديب فن المسرح من خلال العديد من النصوص، وكان خطابه نوعا من الاستيلاء على خصوصية الخطاب المسرحي، الذي امتاز به عن غيره من الكتّاب المسرحيين الآخرين.
كما كتب بالفرنسية عن «مهرجان المسرح الهاوي في الأوبرا» ومسرحية «عند الشدة يأتي الفرج»، «في مسرح مهرجان الهواة .. المسرح الجزائري.. في تصفية حساب.. وسحر»، «موني رجل»، «زواج عڤونة»، «استرجع يا عاصي»، «إيكاش» وغيرها من الدراسات التي سبق لمحمد ديب أن نشرها في جريدة «الجزائر الجمهورية» التي عمل فيها كصحفي عندما رجع إلى الجزائر مباشرة بعد الاستقلال حيث كان منفيا من طرف السلطات الفرنسية.
إن اهتمامات محمد ديب لم تنحصر في مجال الرواية، بدليل أنه كان ناقدا مسرحيا ومتابعا للخشبة، و لم يهتم بالمسرح من زاوية انتقائية لا بالمعنى الإيديولوجي ولا الثقافي أو اللغوي، ولم تكن متابعاته متحيزة لا للهواة ولا لمحترفي فرقة الأوبرا للمسرح ذي التعبير العربي.
تابع محمد ديب نشاط مصطفى كاتب المسرحي سواء مع فرقة الأوبرا أو مع فرقته الهاوية «المسرح الجزائري»، وهو الذي يصنَّف عادة مع قوى اليسار، وكان يثمن أعمال مسرحيين معروفين بانتمائهم الوطني الصارم. كما توقف محمد ديب عند أعمال «الكوكب التمثيلي» ومسرح شباح المكي الأوراسي، المناضل الشيوعي الذي عانى القهر من المستعمر، والذي انخرط في الثورة في ساعاتها الأولى، والذي كان أيضا عضوا بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأفنى جهوده لخلق مسرح من النوع الملحمي وبالعربية الفصحى.
اهتم أيضا بمسرح الراحل محمد الطاهر فضلاء بالفصحى، وقدّر مشواره سواء على الخشبة أو في التمثيل الإذاعي، وتشهد هذه الرؤية المسرحية المركّبة التي كانت عند محمد ديب، على العناية الخاصة التي حظي بها كل من يحمل ملمحا من ملامح التأسيس لمسرح وطني جزائري، خاصة في الفترة الاستعمارية؛ حيث كان هذا الفن جزءا من النضال الوطني ووجها مشرقا للثقافة الجزائرية.
ما يجب الاعتراف به لمحمد ديب أنه كان أقوى من آلة اضطهاد السلطة الاستعمارية؛ لأنه ليس من السهل أن يكتب بهذه الجرأة نصوصا تفصح في باطنها عن التمرد وخوض الكفاح المسلح. لقد اشتهد القاص إلى أبعد الحدود في التعمق في المذهب الرمزي للوصول إلى ما يرسّخ قيمة المعنى في نفسية الجزائريين. ومن الرموز التي وظفها في نصه المسرحي رمز السجين، الذي يتحول بعد فك شفرته إلى التمرد، والفرنسي رمز الاستعمار الذي من عادته استعمال الخطاب المزدوج.
كانت التعاونية المسرحية «العفسة» لتلمسان قد أنجزت مسرحية بعنوان «بمقهى الرمانة» باقتباس نص «في المقهى» لمحمد ديب، وتم عرض هذا الإنتاج بموقع المقهى العتيق «الرمانة» المشيّد في القرن ال 14 بتلمسان، والذي شهد أشغالا للترميم والتهيئة. وتُعد المبادرة كنوع من الانفتاح على أعمال ديب وكذا على الفضاءات التي كان يلتقي فيها بشخصياته الأدبية والمسرحية.
عمل آخر لديب هو «سيمرغ» (طائر أسطوري)، وهو نص أدبي يغلب عليه الطابع الحكائي، يسرد فيه الراوي وقائع رحلة عجيبة ومضنية تُقدم عليها طيور الأرض جميعا بحثا عن «السيمرغ»، حيث امتلأت السماء بأسراب هائلة من الطيور التي لم يسبق وأن التقت ببعضها البعض، والتي لم يحن فصل تجمّعها بعد. تولّد عن ذلك الالتقاء حلول اللّيل على الأرض في عز النهار بسبب احتجاب الشّمس عن الأنظار. انطلقت كلّ الطيور ملبية النّداء صوب مكان مجهول لا مكان فيه للاحتمال، جاعلة قلوبها أبصارا تهتدي بها.
يبدو الراوي لأول وهلة مجرد شخص متفرج تتملّكه كافة ملامح ذلك المشهد المثير، إلا أنه سرعان ما يصبح طائرا بعد انضمامه إلى ركب الطّيور المرتحلة، ليجد نفسه ناجيا من الهلاك الذي أصاب معظمها نتيجة السفر الطويل والمخاطر الكثيرة، إلا أنه لم يبق من جسمه ومن أجسام رفقائه الأحد عشر سوى الريش والعظام.
ديب تعرّض في نقده المسرحي لأهمية وجهة النظر التي يصوّر من خلالها الموضوع أو ما يسمى بزاوية الرؤية والسرد. كما كان يولي موضوع الحركة المسرحية ما تستحقه في مقالاته. ومن مفردات نقد محمد ديب: الوسيلة الدرامية. كما أن مفهومه المسرحي يتعدى الجانب الحواري، ليحاول الانفتاح على بنية مسرحية يمكن أن تسمى «المسرح الشامل» أو «المسرح المنوع» إذا ما تطلّب الموضوع ذلك.
لقد مضى أكثر من خمسين عامًا على كتابات محمد ديب، وكان يمكن أن تُنسى في الأرشيف كغيرها من الكتابات، لكن هناك من نقّب واجتهد كالشريف الأدرع، الذي أشار ذات مرة: «إن ما تحتويه من أفكار مسرحية صائبة جعلتنا نقرأ فيها بعد طول هذه الفترة، الأصول الشرعية لبعض مبادئنا المسرحية في الستينيات وما تلاها. كما نستشف من هذه الكتابات معالم موقف أنتلجنسي متميز في أسس نظرته المعرفية والفنية. ولا شك أن نظرته إلى اللغة ورؤيته للوسيلة الدرامية ولمسألة تمثيل الواقع وسيكولوجية الشخصية والمحرك الدرامي وغير ذلك، من مفردات المسرح كتابة وإخراجًا، تُبرز إلى حد كبير كم نحن في أمسّ الحاجة إلى تعلّم الكثير من رؤيته المسرحية وموقفه الأنتلجنسي على حد سواء».