40 مبدعاً و280 صورة لرسم ملامحها
الإمارات.. صورة فوتوغرافية
عمر شبانة
التصوير الفوتوغرافي بأشكاله وأساليبه المختلفة، هو بالنسبة إلى بعض المشتغلين به والمنظرين له، تأريخ بصري أبلغ توثيقاً من التاريخ الكتابي، يستمد مراحل قوته من جدية التفاعل بالمخزون الفكري والثقافي لدى الفنان ولعل المتتبع لمسيرة أهم الفنون البصرية الحديثة سيلحظ الشعبية الجارفة التي بات يكتسبها فن التصوير الضوئي بفضل التقنية المتطورة التي أوقدت مواهب أصحاب الأنامل والرؤية المبدعة في هذا المجال، فبات التصوير الضوئي فناً شعبياً إن لم يكن على مستوى الممارسة، فعلى مستوى التذوق والاستمتاع بفك “شيفراته” الإبداعية.
أصبح التقدير كبيرا للصورة التي باتت في هذا العصر واحدا من أهم الشواهد على كثير من الأحداث، وأسلوبا من أساليب توثيق الأحداث، مثلها مثل الكلمة في أهميتها ووجودها، إن لم تتفوق عليها في القدرة على التعبير، إضافة إلى تزايد الاهتمام بهذه الهواية وهذا الفن، مع ازدياد الوسائل المتطورة، والتي أتاحت إمكانية التصوير للجميع بغض النظر عن تخصصاتهم أو أعمارهم. ومن هنا نتوقف عند إحدى التجارب البارزة في مجال التصوير الضوئي بكل ما يحمل من قدرة على التوثيق ومن إمكانيات جمالية. ولا يمكن الفصل بالطبع بين الجانبين التوثيقي (النفعي) والجمالي، ولا بد من لقائهما وتمازجهما، بل تماهيهما، لتكون الصورة ناجحة وجذابة للتذوق. كما ينبغي أن يلتزم المشارك بالقواعد الأخلاقية والقانونية والعقائدية والقوانين العامة مثل قوانين حقوق الإنسان وحماية البيئة والحياة الفطرية وغيرها.
هذه التجربة نراها تتمثل في أعمال الكثير من المعارض المخصصة للتصوير الضوئي، سواء كان بالتقنيات الكلاسيكية أم الحداثية. الجديد على هذا الصعيد، يتجسد في أعمال أربعين مصورا شاركوا في جائزة حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم الدولية للتصوير الضوئي، وجاءت هذه الأعمال ضمن الإصدار الضخم والفخم الذي ضم أعمالهم، وهو باكورة أعمال هذه الجائزة، وقد صدر متزامنا مع انطلاق احتفالات الدولة بذكرى اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة الأربعين، حيث تم إطلاقه في الثاني من ديسمبر الجاري. الإصدار الخاص حمل اسم “40 مبدعا من روح الاتحاد”، وضم 280 صورة بواقع سبع صور لكل من أبناء وبنات الوطن، يتقدمهم سمو الشيخ حمدان نفسه الذي يبرز لأول مرة باعتباره مصورا فوتوغرافيا.
الفني والموضوعيموضوعيا، جرى اختيار عنوان “حب الأرض” محوراً رئيساً للدورة الأولى من الجائزة، وهو اختيار يعكس مدى رغبة القائمين عليها، وعلى رأسهم راعي الجائزة ومجلس الأمناء، في ترسيخ حب الوطن في صدور أبنائه وعقولهم، لما يمثله من تجسيد شامل لرغبة الإنسان في نقل صورة حقيقية عن وطنه، بكل ما فيه من موروث تاريخي أو واقع مزدهر أو مستقبل يراه في وطنه، على أن ينقل هذا الحب في صورة تعبر عما يدور في خلده، ليمتزج إحساسه الوجداني والعاطفي المطلق بفنه وإبداعاته وما تجود به عدسته. وللمشارك بعد هذه اللوحة المخصصة لحب الأرض أن يقدم الصور عن أي محور يختاره، كما يحق له المشاركة في أكثر من محور، فالمحور الثاني هو “محور عام” يستطيع المشارك من خلاله التقاط صور في أي موضوع يختاره دون تحديد، بالإضافة إلى المحور الثالث وهو “صورة لدبي”. على أن من شروط المشاركة أن التعديل التقني “الفوتوشوب” على الصور المشاركة مسموح بحدود معينة بحيث لا يمس هذا التغيير في تكوين الصورة وأساسياتها. كما يلتزم المشارك بالقواعد الأخلاقية والقانونية والعقائدية والقوانين العامة مثل قوانين حقوق الإنسان و حماية البيئة والحياة الفطرية وغيرها.
وعلى الصعيد الفني البحت تم اعتماد الـ (ISO) ضمن حساسيات تبدأ من 100 حتى 800، وسرعات وفتحات كاميرا وإغلاقات تعتمد على المشهد الذي يراد تصويره. ومعلوم أن المصور يحتاج إلى “الإيسو” العالي في الإضاءة الخفيفة مثل التصوير الليلي، وكلما زاد الإيسو زاد التشويش في الصورة، وبهذا الخصوص يوضح المصورون أن (ISO) هو “تعبير عن الحساسية الضوئية من خلال المتحولات المستخدمة، ونحن نحتاج مقدارا عاليا من الـ (ISO) عندما تكون الإضاءة ضعيفة، لكن هذا لا يعني أننا في النهار لا نحتاج إلى (ISO) عالٍ أيضا، لأنه من الممكن أن نصور بسرعة غالق عالية مع فتحة عدسة صغيرة، لذلك فكمية الضوء التي ستدخل عبر العدسة وستصل إلى الـ (sensor) ستكون قليلة, وفي هذه الحالة نحتاج لرفع الحساسية للضوء (ISO)، خصوصا مع التكوينات الطبيعية مع وجود القمر والنجوم بزاوية وإضاءة معينة تعطي المصور نتائج مبهرة، وأفضل الاوقات لتصوير المناظر الطبيعية (اللاند سكيب) هو الغروب والشروق مع وجود السحب ومراقبة تحركها وتكون الظلال. وتظل درجة معينة من الـ (ISO ) هي التي تؤثر على حجم فتحة العدسة Aperture وسرعة الغالق Shutter speed ، والتي نحتاجها كلها للحصول على تعريض صحيح للصورة”.
فن من فنون التصوير هو تجريد الموضوع عن ما تراه العين بمعنى آخر تصوير الشيء بطريقة معينه تثير التساؤلات في ذهن المتلقي وليس من الضروري أن توضح الصورة كفكرة ومفهوم أو تكون معنى واضح ومقروء للمتلقي ولكن أن تفتح تصورات لا حدود لها في خيال المشاهد.
تجربة الشيخ حمدان
وبالعودة إلى محور حب الأرض، فقد جرى اقتراحه لتمكين المشاركين من تصوير معاني حب الأرض بكل المعاني المتعلقة بهذا الحب، من تعلق الإنسان بأرضه، وتصوير خيراتها وهباتها أو الكوارث الطبيعية أو الثورات الشعبية التي تطالب بحرية الشعب وحرية الأرض، وقد جسد المشاركون هذا المعنى في صور متعددة، وتناولوا عناصر ورموزا متنوعة من عناصر الهوية والموروث، سواء كانت عناصر مادية ومعمارية أو تتعلق بشخصيات تاريخية (أبرزها الراحل زايد)، أو في صورة العَلَم الذي يأتي في أشكال مختلفة، واقعيا حينا ومجرَّدا حينا آخر، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالمفردات المرتبطة بطبيعة الحياة القديمة بين الماء ومراكبه وصياديه، وبين الصحراء وجِمالها، والصقور كواحد من أبرز الرموز في النشاط البشري على هذه الأرض.
يقول سمو الشيخ حمدان في تقديمه الكتاب: “ما أقدمه اليوم من خلال هذا الإصدار.. يعد أول أعمالي المنشورة في مجال التصوير، وهي الهواية التي طالما شعرت أنها قريبة مني بعد أن كشفت لي عن طرق عدة لنقل المشاعر من الإنسان إلى من حوله من دون الحاجة إلى تعلم لغاتهم أو النظر إلى أعراقهم ومعتقداتهم، وهي أبرز السمات التي أوقعت حب التصوير في قلبي.
علمتني الحياة أن طرفة عين هي الفاصل بين الأحداث، لذا كانت المتعة التي أشعر بها وأنا أمارس هذه الهواية هي متى وأين أقف، ومتى أتخذ القرار بالتقاط الصورة.. أشارككم بعضا مما اقتنصته كاميرتي التي ترافقني في الحل والترحال، والتصوير هو الفن الذي يمنحك القدرة على أن تأسر إحساسك بكل ما يدور حولك من مخلوقات أو طبيعة أو معالم خالدة أو حركة او سلوك وتنقله من عالم الحقيقة إلى عالم الضوء وفق تسلسل زمني متقن يأخذ المشاهد (المتلقي) ويضعه في بيئة الحدث”.
وهو يشارك هنا بسبعة أعمال، والتقنية المتبعة في التقاط هذه الصور هي نفسها تقريبا باستثناء الصورة الأخيرة، في العمل الذي يمثل اثنين من الخيول الجامحة، يعتمد المصور هنا على الحركة بصورة أساسية، وإظهار حجم الحصانين الخارجين بقوة من الإسطبل، مستخدما الألوان بالطبع على نحو شديد الواقعية، وهو ما يكرره في صورة الكلب السلوقي (كلب الصيد) وطريدته الطائرة، حيث القفزة الهائلة تمثل طبيعة الحركة في الصورة، بقدر ما تظهر مدى الوحشية المتمثلة في هذا المشهد. وعلى النقيض من ذلك يبدو مشهد الحمامة السوداء وفي منقارها نبتة خضراء- صفراء وسط رمال الصحراء، وكذلك الأمر مع الجمّال وخمسة من نياقه قرب شجرة الغاف، إضافة إلى معاني السمو والتنافس التي تبدو في صورة اثنين من الصقور يحلقان في اتجاهين مختلفين في المشهد تظهر السماء والصخور، وفي عمل آخر هناك طائران في حالة عناق على غصن يعبران عن مدى حميميتهما، وأخيرا فصورة السوق الكبير القديم بالأبيض والأسود.
رموز الهوية وعناصر الحداثة
يحرص المصورون المشاركون في أعمالهم على الجمع بين عناصر كثيرة، وبينما قد يتميز مصور بجانب معين من التراث، وآخر بجانب من النهضة العمرانية مقارنة بالبيوت القديمة، فيما تهتم إحدى المشاركات بصورة الأنثى وتفاصيل من حياتها أو أزيائها وزينتها، فإن غالبية المصورين يشتركون في كونهم يطرقون أبواب العالم كلها على مستوى الموضوع، ويستخدمون التقنيات نفسها والأساليب ذاتها، متنقلين بين الواقعية المفرطة والتجريد حتى حدود الفانتازيا. ولا يمكن التمييز هنا بين المصورين الذكور والإناث، فهم يشتركون في الموضوع والأسلوب أيضاً، باستثناءات قليلة لدى بعض الفنانات واهتماتهن الأنثوية.
البحر: المراكب والأسماك والأخطبوط والنباتات البحرية، هي إحدى أبرز الثيمات التي يشتغل عليها الفنانون المشاركون، ولكن لكل طريقته والتفاصيل الخاصة التي يشتغل عليها، ففيما يعمل البعض بالألوان، يعمل آخرون بالأسود والأبيض، كما أننا نواجه صورا من البحر الواقعي كما هو على حقيقته، وبتفاصيل الواقع نفسه، من جهة، ومن جهة ثانية نقف على بعض التجارب الأقرب للفانتازيا منها إلى الواقع. ومع البحر والمراكب نجد مشاهد الصيادين البسطاء أمام الأبراج، لإظهار مدى التناقض بين العالمين. وقد نرى المركب وأشرعته وأعلامه أعلى من الأبراج في رؤية للعلاقة بين هذين العالمين.
الصقر والصقارة، ثيمة ثانية من الثيمات الأشد حضورا في المشهد، لدى عدد من الفنانين، والصقر يتخذ صورا وأشكالا متنوعة، لكنه يظل يجسد في الغالب مشاهد القوة والانقضاض أو التحليق، وهذا يعكس مدى الاهتمام الذي يوليه المجتمع لهذا الطائر الذي يرمز للعنفوان والعلو والسمو، كما أنه شريك في رياضات القنص المعروفة لدى الإماراتيين والخليجيين عموما، رياضة المتعة والمغامرة كما يراها المنشغلون بها. ومن عالم الطيور نجد الكثير من أنواعها.
الخيول هي الأخرى تحتل حيزا من مساحة الصور المشاركة، الخيول في صور وأشكال مختلفة دائما، فمن حضورها الواقعي الكامل، إلى حضور تجريدي لها، أو تناول لأجزاء من جسد الحصان: رأس الحصان وعينه تحديدا، أو أقدام الخيول، بما تمثله الخيل عموما من معاني القوة والجموح والانطلاق والحرية، ولكننا قد نجد حصان السباق بما يعنيه من معاني الاستخدام حتى ولو كان في مجال الرياضة، وما يمكن أن يظهره الحصان من قوة.
صور من الموروث
المرأة الإماراتية والزي التقليدي وخصوصا الخمار والشال، استخدام القناع والخط العربي، الفتاة بالزي التقليدي والشال المفرود وفي الخلفية ظلال أبراج، الوشم والعيون الأنثوية وملامح الوجه التقليدية، وجوه وشخوص قديمة، أدوات تراثية وأثاث كلاسيكي بالأسود والأبيض، الشيخ وفنجان القهوة العربية بما يمتلك من الملامح المتغضنة وما تحمله هذه الملامح من أعماق الزمن، التراث الشعبي المتمثل في فرق العيالة والرقص والغناء والدفوف، وسباق الهجن في صورة متحركة، والنساء العاملات في الأشغال اليدوية، والحراث الذي يشد على الثور. إنها أبرز معالم الموروث الشعبي في أشكاله وصوره وتلاوينه في الصور التي نتابعها هنا. عادات وتقاليد تعود لعشرات وربما مئات السنوات، تستحضرها الصورة بالعموميات والتفاصيل. وإلى ذلك يمكن أن نضيف شجرة الغاف بما تملكه من قوة حضور في الموروث عبر حضورها وسط الرمال. على جانب آخر من مشاهد الصور التراثية، ثمة التراث المادي المجسد على الأرض والمتمثل في العناصر المعمارية، عناصر ذات طابع ديني مثل المساجد: القباب والمآذن وما تنطوي عليه من فن العمارة العربية الإسلامية، ومن جانب آخر هناك العمارة التراثية غير الدينية، أي المدنية، مثل البراجيل والبيوت القديمة: الأبواب والنوافذ من الخشب، البراجيل وسط الأزقة والجدران بضخامتها. وفي المقابل يصور المصورون الأبراج الحديثة الصاعدة نحو عنان السماء، إلى جانب القديم، وهذا كله في إطار من الجماليات الفنية.
هواجس الفنان الفوتوغرافي
إبراز الجماليات والقدرة على تجريد الموضوعات الواقعية، يبدو هاجسا من هواجس الفنان الفوتوغرافي، جماليات في تناول الموضوع من زوايا مختلفة، يتمثل ذلك في جماليات الصورة الواقعية ذات البعد الرمزي، كما تبدو مثلا في صورة طفل يحتضن القرآن الكريم يقف أمام صورة زايد في أحد الميادين وينظر من “تحت” متأملا وخاشعا. وفي جانب آخر نجد جماليات الصحراء ورمالها وكائناتها المختلفة من حيوانات ونباتات. في هذا السياق يجتمع الغزال والنبات القصير وسط رمال متعددة اللون، وعلى شكل أمواج، فهناك صور من رمال الصحراء، وثمة أيضا تلك النبتة الخضراء الوحيدة التي تشق الأرض المتشققة، وثمة صورة من صور الحياة تتمثل في ورقة شجرة وسط الصحراء.
وإذن، هاهي مائتان وثمانون صورة تقدم لنا ملامح ومعالم هامة من دولة الإمارات، وهاهم المصورون يغطون معظم جوانب الحياة الإماراتية، مستحضرين الشخصيات البارزة، ومصورين الأمكنة القديمة والحديثة، الموروث والحداثة، جنبا إلى جنب، ولو باختزال وتكثيف هما من سمات الصورة الفوتوغرافية التي تعبر بصورة رمزية تستغني عن الكلام. صور تؤكد على تقدم مستوى التصوير وتقنياته وجمالياته، رغم أنه فن حديث في الإمارات، إذا استبعدنا البدايات البسيطة والبدائية والنفعية للتصوير.