بالفن تنهض الحضارة والفن والإنسان صنوان لا يفترقان فلا فن بدون إنسان والعكس صحيح به يسمو الإنسان ، وبه يصبح العالم أوضح وآنس وأدنى إنه يسبر جمال الواقع وقبحه … سلبياته وإيجابياته … وهو النسغ المنعش لزنابق الروح .
وإن الفرد أو الحضارة التي لا تقيم وزناً للفن مهددان بظلام فكري وباضطراب معنوي .
ومن خلال أهمية الفن ودوره في تنمية الفكر ، كان لنا لقاء مع فنان فراتي ساهم إلى حد كبير في دفع عجلة التطور الفني في محافظة دير الزور والقطر إلى الأمام عبر عشرات المعارض الفردية والجماعية داخل القطر وخارجه ، عالج من خلالها موضوعات إنسانية شتى …
الجوع ، القهر ، الحرية ، القضايا الوطنية والقومية فلسطين ، القدس ، الجولان ، العراق ، والأحداث الكبرى في العالم وهيمنة القوى المستكبرة على الشعوب الضعيفة كما صور لنا الحب ، السلام ، الطبيعة السورية وخاصة الفرات ، المرأة والعدالة الإنسانية بأساليب فنية تقنية ، تضمنت مختلف الأساليب المدرسية في العالم .
إنه الفنان الفراتي – صفوان فرزات – الذي حاز على المراتب الأولى في عدة مسابقات محلية ودولية منها :
الجائزة الأولى في تصميم ( أفيش ) الندوة الدولية للآثار في دير الزور عام / 1983 / – وتصميم لوحة فسيفساء جدارية نفذها الفنان على جسم سد الفرات .
وهو عضو اتحاد الفنانين التشكيليين العرب ومدير تحرير جريدة ( ألوان ) التي ستنطلق قريباً .
بداية عبر تطور مسيرتك الفنية اشتغلتم على عدة اتجاهات مدرسية ، بدءاً من الواقعية إلى الانطباعية ، الى الواقعية التعبيرية فالتجريدية ….ألا يحدث هذا التوزع شرخاً في ذهن الفنان … أم العكس هو الصحيح ؟
بالتأكيد العكس هو الصحيح من المعروف أن التجربة تغني عقولنا وتزيد من ثقافتنا ومعرفتنا الفكرية وتضعنا على الطريق الصحيح ، ولكن هناك نقطة هامة وهي أن لا نطيل المكون في المكان الواحد بالنسبة لي كان التوزع بين المحطات مجرد انتظار لأنطلق بعدها في تحديد اتجاهي .
في تجربتك الأخيرة متعة بصرية تنم عن نضوج لوني وثقافي ، كيف تحاكون اللون كعامل حسي وتعبيري ورمزي وبنية … ؟
سؤال جميل هذا ما كنت أبحث عنه تماماً لقد أرهقتني رحلتي الطويلة مع اللون لتجسيد حوامل جمالية وفكرية هامة.
أن تفلسف اللون ضمن تقنيات الصورة الحديثة وتقيم علاقة ممتعة مع المتلقي فهذا هو المطلوب تحقيقه ضمن اللوحة الفنية .
أنت ترى الأشياء بحسك الخاص … والآخرون يرونها بإحساسهم ، وهذه معادلة صعبة .
ويتابع الفنان فرزات :
إن اللون ينشط الحواس البصرية ويحرك مواقفنا ومشاعرنا .
لقد ساهم اللون لدى دولاكروا وغويا ونلد وبقية الفنانيين العظام في قوة أعمالهم .
لنأخذ أيضاً على سبيل المثال ( فان غوخ ) فقد جاء في إحدى رسائل فنست فان غوخ وصف فيها كيف أنه لم يستطع تحقيق غاياته التصويرية سوى من خلال التلميحات الرمزية التي ولدتها ألوان معينة .
اللون ضوء وبتعبير أدق إن لوناً معيناً هو طول موجة معينة من الضوء .
إننا إذا تأملنا لوحة ( ترنر ) ( شمس غاربة فوق البحر ) فإننا نرى سطوعها المغمور بالضوء وهو ناجم عن استخدام الرسام لظلال لونية معينة ، وأن تجلياً لطاقة لا تصدق ترافق مثل هذا الإظهار للضوء وإن الإجابة عن سؤالكم تحتاج إلى كتاب لتوضيح طبيعة اللون الفيزيائية وكيفية استخدام الفنان لقدراته الفكرية والروحية لتوليد إحساساً مركزاً باللون ، الضوء الطاقة .
بين الفن والفلسفة علاقة مثالية ما هو أثر هذه العلاقة في اعمالك … ؟
الفن فلسفة كما الشعر والفلسفة منطق وأنا أترجم مفرداتي على هذا الأساس في أعمالي أعتمد الفراغ اللامتناهي ضمن مساحات لونية مدروسة ثم أضيف إليها خطوطي ( التعبيرية ) وهذه كافية لأن تضيف إلى العمل الفني فلسفة حسية تعطي اللوحة أبعاداً جديدة كلما نظرت إليها .
للعمل الفني الإبداعي شروط ومكونات تستند إلى الفكر العاطفة ، اللاشعور ، الخيال ، الواقع . فهل استحضرت هذه المكونات في أعمالك…؟
بالتأكيد كل المكونات التي ذكرتها ضرورية شريطة أن يقوم الفنان بعمل التنسيق على نحو واضح ومدروس لأن غياب هذا التنسيق يجعل العمل الفني مضطرباً وأحياناً
مشوشاً وبالتالي يفقد تواصله مع المتلقي ومن ثم تأثيره وأنا حريص على استحضار هذه المكونات في أعمالي .
يقول ( بيلينسكي ) ( الفن تفكير في صور ) ما هو أثر الفكر في الصورة وما مدى تأثير ذلك على المتلقي … ؟
الفكر في الصورة ابداع ذهني صرف ومهما يكن من أمر فالصورة بحاجة إلى الفكر … وحين تخلو الصورة من الفكر تغدو هذياناً وفوضى .
وفي هذا الصدد يشير الفيلسوف الألماني ماكس شلر إلى وظيفة الفن قائلاً :
( ليس غاية الفن هي نسخ ماقدتم إعطاؤه ( وهذا غير ضروري ) ولاهي إبداع شيء في نشاط المخيلة الذاتية المحض ) ( وهذا الشيء لا يهم الناس ) ، ولكنها شق الطريق قدماً في الكل المكون من العالم الخارجي والروح
إن الرسام الذي ينقل صورة شجرة كما هي ليس برسام إذ يمكن للشجرة أن تكون حصاناً أو ثورة ضد الظلم …
إن معظم الفنانين الكبار كانوا ينظرون للواقع بازدواجية الحقيقة المادية للشيء الذي تتبينه العين الحسية إضافة إلى مغزاها السري للفنان في ماوراء حقيقة الظواهر .
يصف ( روجرفراي) اللاشعور المبدع بأنه (الطبقة الأساس السفلية لكل الألوان الانفعالية الخاصة بالحياة) والنفسيون الذين يتبعون منهج فرويد وبيرغسون وكروتشه ربطوا عملية الإبداع الفني باللاوعي ،بل جعلوه العامل الأساسي في عملية الخلق ، ماهو تعليقكم على هذا الربط ..؟
النفسيون الفيزيولوجيون الذين يتبعون منهج فرويد وتلامذته في التحليل يحصرون مسألة (اللاوعي) بالذكريات والحوادث الذاتية التي صادفت المبدع في حياته ولكن الواقع أن طبيعة الأْعمال الإبداعية ترفض هذا الحصر ،فهي على مستوى اللاوعي تتجلى بخصوصيات المبدع أحياناً ،وهذا ليس قاعدة ، وأستبعد أن يكون اللاوعي هو العامل الأساسي في عملية الخلق والإبداع ،إن الدفاع عن الصفة اللاعقلانية للإبداع الفني يقود إلى التقليل من دور الأفكار عموماً .. وهو دفاع وثيق الصلة بالمساعي المبذولة لتسفيه الأفكار التقدمية والتطلعات المستقبلية الخلاقة .
ماسر تركيزك الدائم على لون السماء والبحر في خلفية أعمالك ،كالأزرق ومشتقاته وهو المحير للمشاهد في تفسيره ..والبنفسجي الذي هو لون التأمل..؟
اللون الأزرق هو لون التأمل المطلق ، هناك حالتان تحرض في شعورنا التأمل بشكل عميق ،عندما ننظر إلى السماء مرة والبحر مرة ،واللون الأزرق من الصعب تفسيره .
ماذا تعني الثقافة التشكيلية للفنان ..؟
-الثقافة التشكيلية للفنان تعني الكثير ، هي أساس بناء العمل الإبداعي ، والثقافة ليست القراءة فقط ومعرفة المدارس والاتجاهات نظرياً ،بل هي اطلاع ومعرفة وحضور سواء في المعارض المهمة أو الندوات الثقافية التي تطرح قضايا الفن التشكيلي خصوصاً ونحن في عصر تحتد فيه الصراعات الثقافية بكل أشكالها .
النقد التشكيلي الموضوعي غائب ،أو لنقل قليل جداً على مستوى القطر ،هل هو لقلة النقاد ، أم لضعفهم ثقافياً .
هذه حقيقة النقد الموضوعي المنهجي غائب تماماً .
الذي نطالعه في الصحف والمجلات ليس نقداً بمفهوم النقد التحليلي على الإطلاق ،فهو مجرد استعراض هامشي سريع للأعمال الفنية ،طبعاً هذا عائد لقلة النقاد من جهة والمختصين ثقافياً بالشؤون الفنية من جهة أخرى ،فمعظم الذين يطلقون على أنفسهم (نقاد) هم مجرد هواة عابثين موظفين لدى مؤسسة إعلامية لاأكثر ولاأقل ،طبعاً هذا لاينفي وجود نقاد كبار أمثال الدكتور عفيف بهنسي ،وعبد العزيز علوان وغيرهم ،ولكنهم يعدون على أصابع اليد الواحدة .
المشهد الثقافي التشكيلي في محافظة دير الزور يحتاج الى نضوج أكثر ..كيف تقيمونه ..؟
بالتأكيد المشهد الثقافي التشكيلي بدير الزور يعاني من أمراض مزمنة وهو يحتاج إلى ضخ كميات كبيرة من الاجتهاد والتعاون والدعم والتفاعل ،طبعاً أنا لاأضع اللوم بشكل كامل على الفنان ،هناك فنان يجتهد على نفسه بينما الآخر يجد أن المسألة تضييع للوقت ولاقيمة لها .
القضية ليست هنا فحسب بل أيضاً في الجهات المسؤولة التي لاتعير هذا الجانب الحضاري الاهتمام المطلوب سواء كان ذلك بدعوة الفنانين لإقامة المعارض وشراء أعمالهم ،أو وضع خطط وبرامج مدروسة لدراسة المدينة وتزيينها بالأْعمال الجدارية والنحتية كي ينهض المشهد التشكيلي ويتفاعل ..إضافة الى فقدان حلقة الوصل مابين المركز الثقافي من جهة واتحاد الكتاب من جهة أخرى..
وأعني بذلك أن المركز الثقافي مسؤول عن النشاطات الفنية وتفعليها .. واتحاد الكتاب مسؤول عن التبادل الثقافي عبر المحاضرات والندوات ،حقيقة هناك تقصير يجب استدراكه .
الطبيعة الفراتية غنية بألوانها وفولكلورها ،هل أضافت لتجربتك شيئاً ..؟
الطبيعة الفراتية هي لوحة تشكيلية بحد ذاتها سواء في المشهد الثقافي أو في الأزياء الريفية المتعددة الألوان والأشكال ،وهي بالتأكيد ،أضافت أشياء كثيرة الى تجربتي ..بل أغنتها..
ماذا عن مجلة (ألوان) للفنون التشكيلية؟
-مجلة ألوان ،مجلة متخصصة بالفن التشكيلي ،وستصدر قريباًِ عن اتحاد الفنانين التشكيليين في سورية وقد تم التركيز فيها على دراسة أعمال الفنانين المبدعين وأصحاب التجارب الطويلة منهم ،وقد تم تخصيص ملف خاص لكل محافظة ،لأن الكثير منهم لم تتح لهم الفرصة لدراسة أعمالهم ،وقد تم اختياري مديراً للتحرير.