“ربى الجمال”.. الصوت الكامل الذي قتله الإحساس
الجمعة 23 كانون الأول 2016
نادراً ما نسمع عن فنانة كان اهتمامها الوحيد المسرح؛ فلا تصنع شيئاً إلا له، الراحلة “ربى الجمال” التي لم تظهر يوماً إلا وهي تغني بكل ثقة على خشبة المسرح الذي كان ملعبها الوحيد، فأطربت بإحساس فاق الخيال كل من ينتشي الطرب الأصيل. ولدت في غار “حلب” ودفنت في ياسمين “دمشق”.
اسمها الحقيقي “زوفيناز حتشادور قَرَبتيان”، اشتهرت لاحقاً باسم “رُبى الجمال”، ولكل فنّ أصيل أصلٌ؛ وعلى الأرجح سيكون “حلب”.
بدأت مشوارها الفني عندما اعتبرت مطربة من قبل إذاعة “بيروت” وإذاعة “دمشق” عام 1979، التي كانت تفخر بالانتساب إليهما؛ لأنّها حققت نجاحاً من خلالهما، ولها في رصيدها الفني بالإذاعة ستّ وعشرون أغنية خاصة من ملحنين سوريين ومصريين ولبنانيين.
كان لـ”ربى” عائلة ملتزمة كأي بيت سوري، فكان حلم والدها أن تدخل كلية الطب، وأن تختصّ في طبّ الأطفال، وبهذا أجبروها على السفر إلى “باريس”، لكنها استغلت سفرها وألمها وقلبت الموازين لأجل حلمها الأول الغناء؛ ففتحت “باريس” أبواب مسارحها على مصراعيها لصوت لم تشهده من قبل، وتعرّفت هناك إلى مدير دار الأوبرا الذي أعجب بصوتها كثيراً وجعلها تشارك على الفور في مهرجان “ماريا كالاس” الذي يضم 30 مشتركة من عدة دول أوروبية وأجنبية، فحطّمت كل التوقعات، وحازت المرتبة الأولى بلا منازع، وحصدت لقب أعلى صوت نسائي في العالم، ونالت عدة ألقاب أخرى في المهرجان؛ كـ”سيدة الأناقة والرقي”، وأفضل “قرار سوبرانو”.
قدّمت “ربى الجمال” في حفلاتها أغاني “أم كلثوم” و”أسمهان”، فأصبح المستمع يدخل في حالات نشوة لا يستطيع الخروج منها؛ وهذا ما جعلها مشهورة في “مصر” أكثر من وطنها “سورية”، وقدمت بعدها حفلة “افرح يا قلبي” في “مصر”، التي تعدّ من أشهر حفلاتها الفنية، وحصدت منها الطبق الذهبي من وزير الثقافة، الذي نقش عليه “ربى الجمال صاحبة أفضل صوت نسائي في الوطن العربي”.
كان لـ”ربى” تعاون مع أكبر ملحني الوطن العربي، أمثال: “وديع الصافي”، و”نجيب السراج”، و”رياض البندك”، و”سعيد قطب”، و”أمير مجيد”، و”أحمد السنباطي”، و”عماد توفيق”، و”صفوان بهلوان”.
في إحدى حفلات ربى الجمال |
حيث اتفق الجميع على قدرات صوتها الرائعة.
مدونة وطن “eSyria” تواصلت مع الفنان “عدنان فتح الله” بتاريخ 12 كانون الأول 2016، وعن رأيه بـ”ربى الجمال”، يقول: «من الأصوات السورية التي تعدّ مدعاة للفخر، حيث امتلكت في هذا الصوت خامة ميّزتها لتكون من أجمل الأصوات النسائية في الوطن العربي، وذلك بعد تكريمها في مهرجان الموسيقا العربية في “القاهرة” بعد أدائها رائعة “أم كلثوم” “افرح يا قلبي”. تمتاز “ربى الجمال” بقدراتها الصوتية العالية واتساع مساحة صوتها، إضافة إلى ثقافتها العالية في علم المقام؛ حيث كانت ترتجل الكثير أثناء وجودها على خشبة المسرح، وكانت هذه الارتجالات تذهل الحاضرين مع أنها كانت وليدة اللحظة، ومن دون أي تدريب مسبق. لها العديد من الأغاني الخاصة التي لحّنها لها كبار الملحنين، حيث جمعت فيها حداثة العصر وأصالة الماضي».
ويضيف: «امتازت بأدائها للّون الطربي الأصيل، وأهمّ ما يميّزه أنه من الألوان الغنائية الصعبة، وخاصة ما كانت تقدّمه لكوكب الشرق “أم كلثوم”، وبشهادة الكثيرين؛ كانت تؤديه بحرفية وتقنية عالية جداً. برحيلها خسر العالم العربي صوتاً مهمّاً يمكن اعتباره امتداداً لجيل العمالقة من أمثال “أم كلثوم” و”أسمهان” و”سعاد محمد”».
في تواصل مع الفنان والصحفي اللبناني “غابرييل عبد النور” المهتم بفنّ “ربى الجمال”، يقول: «صوت في مصاف الكبار، ويوضع إلى جانب صوت “أم كلثوم” و”أسمهان”، وهناك فرق شاسع بينها وبين أبناء جيلها لهذا ظلمت؛ لأن زمانها هو زمن الكبار و”السميعة” والملحنين الكبار أمثال: “فريد الأطرش”، و”الشيخ زكريا أحمد”، و”القصبجي”، و”محمد عبد الوهاب”، الذين يليق بهم أن يلحّنوا لها، صوتها قادر أن يغني “أم كلثوم” و”أسمهان” و”فيروز”، ونادراً ما نجد صوتاً يغني ثلاثة أنماط مختلفة،
الموسيقي عدنان فتح الله |
ويتقنها بإمكانيات عالية مهمّة وإحساس رهيب».
ويضيف: «مساحة صوت “ربى” كبيرة، ولديها استطاعة التنقل بين الصوت الطبيعي والأوبرالي بسلاسة رأيناها لدى “أسمهان” و”فيروز”، والتنقلات التي لا نشعر بها، وهناك الكثيرون الذي يتنقلون بين الطبيعي والأوبرالي، لكن هذا التنقل يكون مزعجاً في بعض الأوقات، وكان بإمكانها أن تصعد إلى طبقات عالية جداً، وتمتلك حالة من الإحساس، وكانت -حسب ظنّي- سبب وفاتها الأساسي قبل أي شيء آخر. و”ربى” جسّدت اللحن في صوتها، فتحولت من مغنية إلى الأغنية ذاتها».
ويتابع: «باختصار “ربى الجمال” من الأصوات القليلة في الشرق التي تجمع ما بين الشرقي بأقصى حالاته وتعدد مقاماته، وقدرة الارتجالات التي تستطيع أن تعطيها، والصوت الغربي والأوبرالي بكامل الاحترافية، “ربى الجمال” الصوت الكامل».
الابن الوحيد للراحلة “ربى الجمال”، تحدّث في لقاء صحفي عن مسيرة والدته الفنية، وقال: «تملك والدتي رسمياً “ألبومين” غنائيين؛ وهما “فاكر ولا ناسي”، و”ليالي العمر”، والكثير من تسجيلات الحفلات لأغانيها المتنوعة، ومن أشهر أغانيها: “صعّبها بتصعب”، ولم تستخدم يوماً صوتها أداة للربح، كان صوتها ملكها الخاص؛ فاتّهمها بعضهم بالمزاجية وهي لم تأخذ الغناء يوماً مهنة أبداً؛ وهو ما جعلها تدخل في ضائقة مادية وتراكمات كان من الممكن أن تنهيها بحفلة أو حفلتين».
ويضيف: «كانت آخرُ حفلات “ربى الجمال” في أحد ليالي آذار عام 2005؛ إذ صعدت خشبة المسرح، ولكن كانت الفرقة (في وادي، وهي في وادي آخر)، وقالت بغضب للجمهور: “كل ما بسلطن، بيطيرولي السلطنة”، فصفّق لها الجمهور حينئذٍ، لكنها لم تكن قادرة على تجاوز الموقف أبداً، وبعدها غادر أحد أعضاء الفرقة المسرح؛ وهو ما اعتبرته تقليلاً من شأنها وشأن جمهورها؛ وهو ما جعلها
الفنان غابرييل عبد النور |
تغادر المسرح بحالة غضب وذهول؛ وهذا كان سبب دخولها المستشفى، حيث توفيت بعدها بأيام».
لم نشاهد في دار الأوبرا السورية يوماً تكريماً لهذه الحالة الفنية الفريدة، “ربى الجمال” تستحقّ أكثر من ذلك بكثير، وبقي ذكرها خجولاً في بعض الصحف العربية.
نهاية سريعة لسيدة لم يتجاوز عمرها 39 عاماً، التي وُلدت في مدينتي* الأم “حلب” الشهباء عام 1966، لأم لبنانية وأب حلبي من أصل أرمني، ولم يقتل “ربى الجمال” أحد سوى إحساسها المرهف، وتوفيت يوم ولادتي* أثر نزيف دماغي في العاشر من نيسان عام 2005.
*ياء المتكلم: تعود لكاتب المقال ماروت صوفي
المصادر:
http://www.syr-res.com/article/1869.html
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B1%D8%A8%D9%89_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84
http://www.amarbeirut.com/13861