منها الى فنّ الرسم
جوزف الحاج
(لبنان)
«الهندسة والعاطفة، معرض فرديناندو شيانا في «البيت الأوروبي للفوتوغرافيا» ـ باريس محطات عمر بأكمله وعودة الى آثار وبقايا كوّنت حياته كفنان: صور، نصوص، أفكار وملاحظات، كتب، أصدقاء، قراءات واهتمامات. المعرض (120 صورة من أعمال بدأها منذ 1960) تفكير حول الزمن وقراءة هادئة لإيقاعاته وحكاياته.
شيانا، الذي ولد في 1943 وانضم الى ماغنوم في 1982، بدأ التصوير في سن مبكرة في مسقط رأسه «باغيريا» المدينة الصقلية الصغيرة القريبة من باليرمو. بقي فيها الى حين بلوغه الخامسة والعشرين:
«وجدت الفوتوغرافيا صدفة، كنت أصور الفتيات اللواتي أعجب بهن. اكتشفت أن التصوير سهل يرضي حشريتي تجاه العالم الذي أعيش فيه. ما شجعني على اختياره معقد بعض الشيء: دوافع سياسية ورغبة في تجنب قدر كاد يدفعني الى أن أصبح طبيباً أو محامياً تلبية لحلم والديّ ونظراً لانتمائي العائلي وظرفي الاجتماعي. كانت الفوتوغرافيا بمثابة هروب من حياة البورجوازية الصغيرة تحوّل الى مشروع حياة. كان بودي أيضاً سرد عالم المزارعين المحيط. بدأت إذن بتصوير حياة الناس الذين يعيشون حولي لأضيفها الى أطروحتي في الأدب والفلسفة التي كنت بصدد إعدادها آنذاك في جامعة باليرمو. لقائي بالكاتب ليوناردو شياشيا الذي أعجب بصوري أثناء عرضها في باغيريا غيّر حياتي واستمرت صداقتي معه حتى رحيله قبل سنوات. كانت تلك المناسبة حافزاً لنشر عملي المصوّر الأول «الأعياد الدينية في صقلية» (1965) في كتاب مع نصوص من شياشيا نفسه. كان كل شيء قد بدأ».
في بداية الستينات لم تكن أعمال مشاهير المصورين تصل الى صقلية بعد لكنه رأى في الصحافة المحلية بعض صور لهنري كارتييه ـ بريسون، وليم يوجين سميث، وليم كلاين وبن شان. كارتييه ـ بريسون بقي الأكثر إعجاباً والوحيد الذي أثّر فيه. الكتاب الأول الذي اشتراه «من صين الى أخرى» كان له.
في 1966 نال جائزة «نادار» عن عمله «الأعياد الدينية في صقلية» انتقل بعدها الى ميلانو حيث عمل مصوراً ثم كاتباً صحافياً في 1973. كتب عن السياسة في «لوموند ديبولوماتيك» وعن الأدب والفوتوغرافيا في La Quinzaine Littéraire. في 1977 نشر عمله «الصقليون» والتقى كارتييه ـ بريسون وعمل في الموضة. في 1989 صدر له «شكل الفوضى». عاد الى تناول الشعائر الدينية (1995)، ثم نشر مجموعته «النوم، والحلم بالصدفة». أنجز كتابه «ناس باغيريا» عن مدينته الصقلية محاولاً إحياء مناخات شبابه عبر صور وكتابات عن المدينة وأهلها.
بعد هجرة طويلة عاد الى صقلية ليحقق موضوعاً عن الأزياء لحساب مصمم أوروبي شهير كان أعلن عن رغبته «تكليف مصور لا يفقه شيئاً في أمور الموضة». وقع الاختيار على شيانا الذي حقق عملاً رائعاً اختار له عارضة أزياء وحيدة هي «ماربيسا» التي لم يصورها في أماكن رومانسية كما اعتادت مجلات الموضة، بل في شوارع مدينته الضيقة التي حضنته طفلاً، مستخدماً صورة الموضة مدخلاً الى الوثيقة الذاتية.
التقنية بالنسبة إليه مهمة يجب تعلمها للتوصل الى استخدامها بطريقة لاواعية. ممارسته تصوير الموضة إضطرته الى استخدام الفلاش والعاكس الضوئي. لا يحبّذ العمل داخل الاستوديو لكنه يلجأ إليه أحياناً. يفضّل الأسود والأبيض. يبقى ميله مشدوداً نحو الأحداث الكبرى أو ما يسمى في المهنة وفي اللغة الفوتوغرافية «مقاربة طولية». كتب موريس نادو عنه: «الفوتوغرافيا عند شيانا أشبه باللغة. فالصورة واللغة وسيلتا اتصال تحملان وجهة نظر شخصية. جسّد شكلاً نادراً من الفوتوغرافيا التي تقرأ على مستويات عدة وتقوم على تهيئة فكرية وتحليلية تنهل من ثقافة واسعة».
صوّر ثقافة الجزيرة كما لم يفعل أحد من قبل مخصصاً لها أعمالاً عدة، أولها «الصقليون» في 1977 وآخرها ما عرضه منذ فترة قريبة في مهرجان «نوردرليخت» ـ هولندا. بدت صقلية في كتابه «الصقليون» محكومة بالتقاليد الاجتماعية والثقافة الدينية في الوقت نفسه الذي تداهمها فيه الحداثة. كتب في 2004: «بالنسبة لي تصوير صقلية كالإطناب في اللغة. بدأت تصويرها لأحاول فهمها وفهم ماذا يعني أن تكون صقلياً. سؤال سرعان ما يتحوّل هاجساً عندما نغادر الجزيرة زمناً طويلاً. أن نتركها أو أن نكون صقليين يعني الشيء نفسه.
عند هجرانها يبدأ الحنين والذكريات وحلم العودة المتعثرة. يتحول كل ذلك الى حسرة وهروب موقت. نحاول نسيانها. نستكشف العالم لنجد أن نظرتنا إليه لا تشبه بتاتاً أعيننا الصقلية. أعتقد أن مسألة الذكرى في اللاوعي الصقلي تبقى بادية حتى لو بقينا مقيمين في جزيرتنا». في «الصقليون» الذي اختصر علاقته بالجزيرة الأم، كتب: «لا معكِ ولا من دونكِ أقوى على العيش». من صقلية، ورث شيانا هذا الوعي الحاد بالموت وما ينتج عنه من حاجة ملحة للتمتّع بملذات العيش، من هنا وصفه بالمصور الأكثر حيوية في حياته وفي أعماله.
ظل أسلوبه في التحقيق الصحافي أميناً للمصورين الإنسانيين في فترة ما بعد الحرب الثانية. بقي ضوء صوره الباروكي والظلال الشديدة السواد دلالات ثابتة تذكّر بسينما الواقعية الجديدة الإيطالية في أربعينات القرن الماضي. عن كارتييه ـ بريسون أخذ النظرة الإنسانية. بعد أن صوّر في صقلية أماكن طفولته وأعيادها ومسيراتها الدينية وأعراسها وجنازاتها، انطلق الى العالم فزار الهند، بوليفيا، هنغاريا، الولايات المتحدة، اليابان، مالي… حيث صوّر بحس إتنولوجي حقيقي. حفظ ملاحظة كارتييه ـ بريسون «التفصيل يعني الكل» فانطلاقاً من حائط، من نظرة، من موقف… يمكن أن نصوّر مدينة، بلداً، طريقة حياة… حرّكت مشاهده الخيال ودفعت العين الى قلب حكاياتها المدهشة والشاعرية حيث الغرائبي يطلع فجأة من اليومي. لقّبه كارتييه ـ بريسون بـ«موزار الفوتوغرافيا».
لا يغريه الهندسي والخطوطي في صوره المساكِنة لبعض ظاهرة أسلوب «الباروك». شيانا معجب بتدفق الحياة يعترضها وكله رغبة للالتصاق بها حتى ينوء تحت أثقالها بفعل استعماله للعدسة الواسعة التي تجعله يتّحد بمواضيعه أكانت جماداً أم حيواناً أم بشراً. هذا الغوص العميق في الحياة وانعكاساتها في صوره تجسّدا ببراعة في رائعته «ناس باغيريا» الكتاب المميّز بين كتب الفوتوغرافيا عامة، الرائع بمضمونه وتصميمه، والذي جاء على شكل سيرة ذاتية كتبت بصور فنية مبدعة وأخرى عائلية ونصوص، يحتار القارئ في المفاضلة بينها كلها.
عاطفية وساخرة، معتمة ومضاءة، ضبابية مغشاة بحبيبات ظاهرة هي صوره الصقلية التي تعبّر عن التعلق بالأرض والهجرة. تضمر عنفاً مخفياً (صورة القنّاص البيروتي مثالاً، كما كتب ناقد أوروبي ـ صوّر شيانا بيروت في 1976). في تحقيقه عن مستشفى للأمراض النفسية في إيطاليا تساءل عن مغزى الصورة والدور الذي نكلفها القيام به في مثل هذه الأماكن: «هل هي صورة ذهنية سحرية، أم شاهد، أم ذخيرة مقدسة؟».
ينزع شيانا الأقنعة، يسرد، من دون مواربة، قصصاً ليست بريئة، عنه وعن غرابة العالم.
يقول: «صوري الأولى نشرت في صحيفة محلية توقفت عن الصدور. تحقيقي الجدّي الأول تناول قرية صقلية بائسة هي «بالما دي مونتي كييرو» امتد على ثماني صفحات مع نص رائع للكاتب ليوناردو شياشيا. الصور التي أعشقها هي لآخرين، أستوحي منها كل أعمالي. أعتبر نفسي الأكثر تأثراً بمصوري جيلي. الصورة برأيي هي سجل الحياة الكبير، فهي لا تُخلق على يد المصوّر بل جلّ ما يفعله هو فتح نافذة صغيرة فيكتب العالم نفسه على الفيلم. عمل المصوّر هو أقرب الى القراءة منه الى الكتابة. المصوّرون يقرأون العالم».
«أصوّر لأجد علاقة مع الآخرين ومع الواقع ولأفسح المجال أمام الواقع كي يقيم بدوره علاقة معي. الفوتوغرافيا هي حكاية السيرة الشخصية عبر الأشياء التي أشاهدها وأصورها، إنها تصنع اللغز وتفككه، هي أيضاً طريقة عيش ووجود ورسم توالي أحداث يمكن أن تكوّن حياة. لا أدّعي أبداً أن صوري يمكنها أن تغيّر شيئاً، لكنني مقتنع بشدة أن الصور الرديئة تجعل العالم أكثر قبحاً».
عن تحقيقاته المصوّرة في الهند وفي أمكنة أخرى من العالم قال: «لم أتصرف لا كمتلصص ولا كمن يتباهى بتفوقه العنصري. صوَرتهم موجودون وليس بهدف استغلالهم. حدّقت ملياً في مرايا وجودهم. على المصوّر أن يكون غير مرئي للآخرين. نتخفى لتُظهر اللامرئي بشكل أفضل». وصف زملائه في «ماغنوم» بأنهم مجموعة من المصورين يهتمون بالحياة والعالم والتاريخ «هم لم يعتقدوا يوماً ـ وأتمنى أن أغلبيتهم ما تزال على موقفها هذا ـ بأن العالم والحياة والتاريخ كلها موجودة بالنسبة إليهم لالتقاط الصور فقط».
من أعماله المنشورة: «الأعياد الدينية في صقلية» (1965)، «الصقليون» (1977)، «كامي» (1988)، «شكل الفوضى» (1989)، «ليوناردو شياشيا» (1989)، «ماربيسا» (1993)، «مكان آخر» (1995)، «رحلة الى لورد» (1996)، «النوم وربما الحلم» (1997)، «خورخي لويس بورخيس» (1999)، «هدف غامض» (2001)، «صقلية المستعادة» (2001)، ناس باغيريا ـ 2002.
نشأته التقليدية تبرر العمق الأدبي لأعماله المرئية. لقاؤه مع الكاتب ليوناردو شياشيا أقنعه بالعلاقة الضيقة بين الأدب والفوتوغرافيا أكثر من علاقة الأخيرة بفن الرسم: «للفوتوغرافيا علاقة وثيقة بالأدب، بتحرير الرسم من دور الشاهد أصبح المصوّر قارئ العالم… يجب دمج اللغة بالصورة لأن الفوتوغرافيا مخزن تجارب وحياة، كما تضم إليها أيضاً الزمن والذاكرة. لا فوتوغرافيا من دون الأدب». اجتمعت نظرتي فرديناندو شيانا وصديقه ليوناردو شياشيا في أرض وهوية المواطن، ما وصفه أحدهما بكلماته صوّره الآخر بكاميرته. لولا شياشيا وبورخيس وكارتييه ـ بريسون وجياكوميللي وكونديرا وإليوت إرويت لم تر إبداعاته النور: «ليوناردو شياشيا هو الذي علّمني كيفية النظر الى الأشياء واتخاذ موقف من العالم. بكل بساطة، هو الذي علّمني كيف أفكر» يقول شيانا الذي ترأس هذا العام الطاولة المستديرة لمهرجان فوتو إسبانيا 2009 وكان موضوعها «الأدب والفوتوغرافيا».
بتأثير من دراسته للأدب والفلسفة وثقافته الواسعة، علّق شيانا أهمية على الكتاب كواسطة طبيعية ومتميزة لصوره التي أحب دوماً أن يرفقها بنصوص له أو لأصدقائه الأدباء: «بعد 45 سنة في التصوير وجدت أن القدر الأكثر إغراءً للصورة هو أن تنتهي في ألبوم العائلة، أو ربما تكون الكتب هي المآل الأخير والملائم لها، فإذا ما طُبعت على صفحاتها أكثر تعبيراً».
تبقى لقطات شيانا الرافض لعالمه «الذي كان يعيش في ركود كلّي مستسلماً لقوانينه» مخترقة بذلك التوتر الذي يسبق أو يلي حوادث الثأر المحلية.
المستقبل – الاحد 23 آب 2009