عَزيز زباري.. صُوري ماءُ عذاري
حسين المحروس
اقتادتني أمّي وأختاي: فاطمة وعائشة، إلى دار منعزلة في بيتنا الكبير، لا يستأنس فيها أحد. قالت أمّي: “لن يدخل عليك أحدٌ غيرنا.. ستكون حبيسَ الدار حتى تَشفى”. لحقتُ بها ، أمسكت الباب بيدي اليسرى، وطرف ثوبها بالأخرى.. أبكي.. أرجو أختاي بعيني اللتين لم تتجاوزا أربع سنوات. لكن ذلك لم يثنِ أمي عن قرارها. إمّا أن أختفي بمرضي هذا هنا، أو أُأْخَذ عنوةً لجزيرة صغيرة من جزر المُحرق، مثل كلّ المصابين بمرض الجدري.
قيل إنّها جزيرة يأتيها الناسُ ليتألموا، وليفقدوا جنّة الوجه فيها.. العيون.. سمّوها جزيرة الموت، وسموها جزيرة مأوى الفَقد. ينظر كلّ مريض في وجه الآخر.. ليس ثمّة مرايا غير تغيرات العيون.. مرايا ألم.. يحفر المرض في وجوههم.. سمّوها (الكرنتيله).
خمسة أشهر في هذه الدار، لا أرى فيها غيرَ وجه أمّي وأختاي، ووجه الضوء كلّما فُتح الباب. كانت زجاجات نوافذ الدار صغيرة وملونة، أحضرها أبي من الهند.. خضراء، وحمراء، وصفراء، وبنفسجية، تُغري أيّ طفل بأن لا يُحوّل عينيه الصغيرتين عنها، عندما تشرق الشمس، فكيف بطفلٍ حبيس المرض والدار؟ لكن ليس حبيس الضوء.
شفيتُ أنا، وماتَ أخي (محمد)…
جئت مع أكبر حريق في المنامة، سنة 1936م. ولعل كلّ هذه الحرارة في داخلي منه. ولدت في بيت أشبه بقلعة لها بابان: باب للنساء لا تدخل منه الرجال، وآخر للرجال تخشى النساء الدخول منه. في بيتنا بئران، وجدرانه بيضاء من الداخل تزينه مرايا مستطيلة، كان أبي يجلبها من الهند، عليها رسومات زاهية، وأسماء أهل البيت: الإمام علي، والحسن، والحسين، وفاطمة، ونوافذه منقشة، وزجاجها ملون، عليه رسومات. وبوابة البيت كبيرة واسعة، في وسطها باب صغير لدخول الأفراد فقط، يسمونه (فرخة)؛ لصغره.
أنا هنا في حيّ يعيش على البحر كلّ لحظة. أنا في حيّ (الفاضل) بالمنامة. اسمه يعني حيّا منيعاً، لا يدخله الأغراب، ولو مروراً!! وعندما يجرؤ أحد على المرور، يتمّ إيقافه، ثمّ مساءلته عن كلّ هذه الجرأة!! منفتح على البحر لكنه ليس منفتح على غير أهله. ليس ثمّة مَنْ لا يحبّ البحر هنا، وليس ثمة سيرة طفل بدونه. البحر يعني عين ماء (الباكر) أيضا. فالخارجون منه يقصدون ماءها الحلو، مع قربها من البحر!. يقصدها السقاؤون ليزودوا المنازل بمائها ً.
بُني على عين (الباكر)، بناءً يقسمها نصفين: نصفاً للنساء، والآخر للرجال. يسمع الرجال أصوات النساء، وتسمع النساء أصوات الرجال، لكن لا يسمح لأحد من الرجال الدخول النساء، وإذا ما حدث ذلك فإنّ هذا المخترق – غالبا – ليس من الحيّ!! تغسل النساء ملابس، وأواني، وفُرش أهل بيتها، ثمّ تغتسل قبل أن تغادر. كنا اطفالاً يسمح لنا بالدخول في القسمين معاً. هذه العين يزورها القادمون في البحر من كلّ مكان. كما أن الكثير من موزعي الماء (السقّائين) يملؤون خزاناتهم الصغيرة منها، قبل أن يحنلوها إلى البيوت على أكتافهم، كلّ سقّاي يحمل خزانين تتوسطهما عصاة تنتصف على كتفه.
كنّا ندخل البحر، نرمي السمّ على سطح مائه، ثم نعود إلى عين (الباكر) منتظرين سريان مفعوله في الأسماك. كان البحر كلّه سمك. بالسم نحجزه، فلا نسمح لأحد بالمرور في مائه المسموم. نجمع ما مات من السمك ثمّ نغادره شاكرين، منتظرين يوم جديد. وعندما ينحسر ماءُه، يتحول الشاطئ حديقة حشائش بحرية، فيها تبيض الأسماك، وتتغذى منها.
هنا في حيّ (الفاضل) حتى أكثر الإصابات والحوادث يهندسها البحر. أذكر أن مسماراً كبيراً، يُستخدم في بناء السفن، انغرسَ في رجلي بينما كنت ألهو مع أصدقائي على الساحل. حملوني إلى بيتنا القلعة، ومَنْ لا يعرف بيت (علي عبد الله زباري)؟ جاءت امرأة عجوز تدعى (فاطمة)، قالوا إنّها سوف تطببني من الإصابة بأدويتها الشعبية. سلمتُ الأمر لـ(فاطمة)، فسرعان ما نسيت جرحي. كانت السفن تأتي من كلّ مكان تقريباً، وفيها كلّ الجنسيات. لا أنسى تلك السفن الإفريقية التي ترسو في عرض البحر؛ لعظمها، لينزل منها رجال سود في قوارب مستطيلة الشكل، يغنون حتى الساحل، يتزودون بالماء الحلو من عين (الباكر) ثمّ يغادرون.
أتنفسُ البحر…
كلّ لعبة بحرية مارستُها، ومغامراتي فيه لم تتوقف. عندما تتعبُ السفنُ الحديدية الكبرى، تترك عند الشاطئ حتى تتحطم أكثر.. تتفكك.. وتصير مربى، للأسماك، ومَلهى لنا. كانوا يسمون الواحدة منها (دُوبة)، والجمع منها (ادْوَب). أدخلها، وأتعلّق في حديدها. نزلتُ مرّة في بطن إحداها مع صديقيّ: (عامر العامر)، و(ماجد الشاهين) فانغلقَ بابها علينا ولم ينفتحْ. حاولنا مرات لكنّ صغر سنّنا، وطاقتنا الصغيرة لم تكفِ مجتمعةً لفتحه؛ لتمكن الصدأ منه. دخلنا الهلعُ الشديد؛ فماء البحر بدأ يرتفع داخل الغرفة الكبيرة، يدخل عبر ثقوف عديدة، كانت ممر الضوء الوحيد!! صعدنا مراراً سلماً من الحديد، ووضعنا أفواهنا في ثقوب في حديد السطح ونصرخ عبرها بكلَ ما أوتينا من قوة.. تناوبنا على ذلك مرات ومرات .. الماء الجميل صار بغيضا. لم نيأس. أيّها البحر يا صديقي نحن أصدقاء أصدافك الجميلة.. بالغنا في الصراخ حتى سمعنا صبية مثلنا في البحر، فهرعوا يستنجدون بأصحاب السفن.. ثمّة أصوات تقترب حتى سمعنهاعلى سطح (الدوبة)، أشخاص يحاولون فتح بوابة الغرفة. خرجنا مُنهكين. لله انتَ أيها الماء واهب الموت، والفرح، والحياة. أجزم أن معظم مناعتي الجسدية منه، ومن رماله.
كان حيّ (الفاضل) شاسعاً في عيني الطفل. شاسع كصدر أمّي – رحمها الله – لكننا قد نتجاوزه بحثاً عن مغامرة جديدة. نترك الحيّ إلى إحدى المقابر الكبرى بالمنامة، نصيد طيوراً وعصافير، لا تختبأ إلا في بعض الحشائش الكثيفة التي تنمو في المقابر. ندخل المقبرة نحمل أفخاخاً معدّة لذلك. وما إن ندخل المقبرة حتى تبدأ رحلة صيد نوع من الديدان، تتلذذ هذه الطيور بأكلها، وتدعوها للمغامرة على هذه الفخاخ. نحضر خوصاً رطباً من سعف النخيل، نستل منها جزءاً طوليا، ثمّ نُبلل أحد أطرافه بلعابنا حتى يترطب، بعد ذلك ندخله في غيران حرجة جداً، تسكنها هذه الديدان. سنحتاج قليلاً من الصبر بعد إدخال جزء الخوصة في غار الدودة. نتركه، نبالغ في النظر إليه حتى يتحرك، فهو الدلالة الوحيدة على أن الدودة استجابت، وعضّت طرف الخوصة. عندها نسحبها بخفّة وسرعة، لنجد الدودة التي تعرف باسم (جندب) في تعض طرف الخوصة. (الجندب) دودة مائلة للبياض، اسطوانية الشكل، تتلوى بكثرة، فيلتفت إليها الطير، وإن كان في بعيداً في الفضاء. وقد نستخدم نوعاً آخر من الديدان يسمى (عَنجوشاً)، له شكل رهيب، ومخيف، لكننا لا نتوقف عن ذلك. تلك مغامرة لنا، لا نوقفها، ولم نتحدث في خطورتها، فتضطرب متعتنا.
نرجع إلى صدر الحيّ بنشوة العائدين من الغابة، نحمل صيداً، وعرقاً، وحكايات. نلتقي بعربة الأيسكريم الوحيدة التي تجوب الحيّ كلّ يوم في هذا الصيف. عربة خشبية، يجرها رجل، ويتوسطها برميل به الأيسكريم، وحوله ثلج كثير. لا ينافسه غير بائع الخضروات على حماره البائس. لم يسلم هذا الحمار من مداعباتنا. نقدم لسائقه الخبز اليابس، ونوى التمر، فيعطينا جملة من الخضروات الرطبة.
للقرآن الكريم نصيب في سير أطفال هذا الحيّ، ولمعلمه نصيب آخر في أبداننا. في بيت معلم القرآن (المطوع) مارست مهن لا علاقة لها بتعلم القرآن، لكنّها صارت عادات، يلتزم بها كلّ من يأتي لتعلم القرآن، صبحا وعصراً. كان (مُعلم القرآن) رجلاً من أصول فارسية يُدعى ( خليل ملاهُو)، يأمرنا أن ننظف زريبة البقر لديه!! أو نكنس حوش البيت، أو أيّ مهنة تُسند إلينا. وكنّا نُعطيه في كلّ خميس مئة فلس، تُسمى (خميسية)، نظير تحفيظنا القرآن الكريم. ماذا سيحدث لو أننا لم نعط (ملاهُو) تلك الخميسية؟ هل (ملاهُو) دقيق الملاحظة؟ هل سيكتشف ذلك؟ لم نفكر في الإجابة، لكننا فكرنا في الشراء بها من سوق المنامة. فلما توسطت السوق مع صديق لي، آزرني في المغامرة. اشتريت لُعبة بالمئة فلس، واشترى صديق المغامرة لعبة أخرى.
بعد صلاة العشاء، كانت المائدة قد فرشت في سطح منزلنا، وتحلقنا حولها لتناول طعام العشاء. وقبل أن تمتد نيةُ يدي إلى لقمتي الأولى، امتدتْ يد أبي إلى لقمته الأولى على لحم ظهري الطازج. قمت أبكي.. أخبرتني صفقة أبي أن (ملاهُو) حاضراً في تلك اللحظة. تركت المائدة فزعاً.. قررتُ الاختباء، صاروا يبحثون عني، وخشي بعضهم أنّي سقطت في أحد البئرين المظلمين. وبعد جهد وجدتني أختي (عائشة) مستغرقاً في نومي، أفترشُ البصل الفارسي، وألتحفُ رائحته!! وجدتني في مخزن البصل.
كان أبي (علي عبدالله زباري) – الذي تزوج خمس نساء لم تنجب منهن غير أمي، وأخرى أنجبت له فتاة واحدة – تاجر البحر، والهند مصدر بضائعه. ففي دكانه يبيع كلّ ما يحتاجه الإنسان في البحر. يبيع لصيادي السمك أدواتهم، ولصيادي اللؤلؤ أغراض صيدهم، ولناقلي البضائع كل ما يحتاجون إليه. يقع دكان أبي في وسط سوق المنامة تقريباً، وحوله مجموعة دكاكين لتجار يهود. كنتُ أرى النشاط في دكان أبي لا يهدأ، والبحارة وأهل السفن والغاصة لا ينقطعون عنه، والناس في السوق في قمّة نشاطهم اليومي. أفرح لأنّي أشاهد هذا النشاط، ويزيدني طرباً، تلك اللعب التي يحظرها أبي من الهند، ويبيعها في الدكان، منها مراكب خشبية صغيرة جميلة. وقد ألعب بالمسامير، أو بالثقل الذي يربطه غاصة اللؤلؤ في أقدامهم للنزول في قاع البحر، أو بسنارات الصيد (الميادير). في الدكان كان صبّاب القهوة يمرّ مشياً على قدميه، منطلقا من المقهى الشعبي في حيّ (أبو صرّة) بالمنامة، طائفاً بجميع الدكاكين بالسوق. كنتُ أذهبُ صَباحاً وأعود ظهراً.
وإلى جانب تلك البضائع يبيع أبي أهم المنتجات الفارسية مثل: ماء الورد. كنت أساهم في حمل بعض بضائع الدكان. كلفني أبي مرّة بمساعدة أخي (أحمد) في حمل قناني ماء الورد الفارسي إلى البيت فاستجبتْ، مررنا بها سوق الطواويش بالمنامة، وكان زجاج القناني رقيقاً جداً، لا يتحمل أيّ صدمة ولو يسيرة، مّما جعل أخي (أحمد) يوصيني مرات بالاحتراس أثناء المشي بها، لكن ما خاف منه وقع، فقد اصطدمت إحداها بجدار أحد البيوت، وبدأ ماء الورد يسيل منها قليلاً قليلاً. لم أخبر أخي. دخلتْ مطبخ البيت خائفاً، ووضعتها فيه، لم أخبر أحداً.
في حيّنا الجميل لم نكنْ نلتفتُ إلى غير الحبّ. نلعب بفطرة الأطفال، فطرة الإنسان. كان ديننا الحبّ. في الحيّ جالية يهودية كبيرة، تعيش مع أهالي الحيّ دون حساسيات. كنّا نلعبُ مع أطفالهم، وندخل بيوتهم، ونحضر احتفالاتهم الدينية. لكننا لم نكن ندخل بيوتهم يوم السبت لأنّهم يصومون فيه. ولو دخلنا لا يحدث شيء. كانت بعض بيوتهم ملاصقة للمساجد، ولم يكن ثمّة حرج.
لم يستمر ذلك كثيراً، ففي سنة 1948م، خرجت مظاهرة كبيرة في المحرق، منددة بإسرائيل، واليهود، اخترقت أحياء المنامة، ووصلت حسينية (بن رجب) لتستعير أعلامها السوداء، والحمراء، والخضراء، في المظاهرة. و لما وصلت معبد اليهود كسرت اجزاء منه، وبعض محلاتهم التجارية، التي لم تسلم من النهب. ولو لا حماية المستشار( بلجريف)، الذي نقل معظمهم إلى عوالي، لكانت المصيبة أكبر. بعد كلّ ذلك هاجر معظمهم إلى الهند، وقيل إنّهم نزحوا بعدها إلى فلسطين ولندن، ولم يبقَ منهم في البحرين إلا القليل. هذه المشاهد لا أنساها أبداً. عرفت فيما بعد من صديق الحيّ، اليهودي (فكتور)، أنّ الذين هاجروا إلى فلسطين تأسفوا كثيراً على مغادرة البحرين.
ندخل معابد الهنود (البونيان)، ونرى إلى عيون مائهم أسفل الأرض. كنّا ننزل للماء بسلم خشبي. وفي عيد الألوان نراهم يتقاذفون بها، فنفرح لذلك، على الرغم من أنهم كانوا يميّزون بيننا وبينهم، فلا يقذفوننا بألوانهم. ولم نكن نغضب لو فعلوا.. كم تمنينا لو دخلنا ألوانهم.
كانت جدران بيتنا من الداخل بيضاء تُغري أيّ طفل بالرسم عليها. أغرت أخي (أحمد)، ثمّ أخي (محمد) الذي ترك رسوماته عليها قبل أن يترك مرض الجدري رسوماته على وجهه الجميل. مازالت هذه الرسومات تذكرني به، كلما تحسست خطوط الأشكال بيدي. وعلى الرغم من عظم اتساع جدارن بيتنا القلعة، إلا أنّها غالبا ما كانت تكفي أخي أحمد، فيلجأ للورق. أحمد شغوف برسم الطبيعة كالبحر، والنخيل، والطيور، وكذلك الوجوه النسائية. كان يستخدم ألوان أصابع الشمع في الرسم. ومنه صار أخي (حسن) رساما، وأخي الصغير (محمد) رساماً، وأنا أيضا صرت رساماً، ودرست الرسم لاحقاً بسببه.
لم تكن الرسومات على الجدران تُغضب أبي، بل كان يقدر ذلك كثيراً، ويشجعنا على الرسم. ويبدو لي أنّ أبي لن يكون كذلك لولا تعدد زياراته للهند، حيث اللقاء بالحضارات، والجمال، والشعر، والطبيعة. يستقر شهوراً في(بونا) بالهند، ويرسل البضائع لأخي أحمد في البحرين فيهتم بأمورها، ويدير شؤون الدكان. أما حبيبتي أمي، فقد كانت بارعة في خياطة (الكورال)، وأنواع أخرى من الخياطة. وكثيراً ما كان بيتنا مركزاً وملتقىً نسائياً تُمارس فيه الكثير من المهن التي تعتمد على فن، وذوق نسائي.
وعندما يعود أبي من الهند يحضر معه رسومات لطيور جميلة، وبعض أوراق عرض لبعض الرسومات المزخرفة. كنتُ أستغل هذه الرسومات بوضع ورق شفاف عليها، ثمّ أطبعها، فتشتريها النساء من عندي، يطبعنها على بعض أثاث البيت، ثم يطرزنها بخيوط ملونة. كانت رسوماتي هذه مصدر رزق لي، طالما أحببته، فليس لـ(مُلاهُو) حقّ فيه؟!
أحياناً أترك دكان أبي، وأسرح في شوارع، وأزقة سوق المنامة. أتوقف عند أستوديو الفنان الفوتوغرافي (يوسف قاسم)، أو أستوديو ناشو نال، أو أستوديو جنرال، أو أستوديو أحمد عبد الله الماضي، أو أستوديو عبد الله مبارك. هذه الاستوديوهات كلّها في فضاء تنقلي وتجولي اليومي. عند أستوديو أحمد الماضي أقف، أنظر في الصور الملصقة على زجاج واجهة المحل. وعند واجهة أستوديو عبد الله مبارك علق صوراً، إلى جنبها ورقةً كبيرة، كُتب عليها (زوجوا بناتكم). وكان فعلا يقوم بتزوج الناس، لكني لا أعرف سبب تمسكه بهذا الشعار. تعود أصول عبد الله مبارك إلى عمان. أما الماضي فقد كان نحيلاً، ووجهه ممصوص الخدين. رأيته يضع رأسه تحت قماش أسود عند تصوير الزبائن.
أثرّ الفوتوغرافي يوسف قاسم – ابن حيّنا – فيّ كثيراً. كنتُ أراه يصنع تماثيل من الطين، ثشبه تماثيل غرناطة، لمسرحية (عبد الرحمن الناصر) التي أقيمت في النادي الأهلي حينها. كنّا ندخل بيت يوسف قاسم لنشاهده وهو يمارس عمله الفنّي كل يوم تقريباً. لقد حبّب إليّ الفنون أكثر، والتصوير.
كان عام 1946 ميلادية، عمر المدرسة النظامية، وعام رحيل تاجر البحر، والدي (رحمه الله). كان نظام التعليم في المدرسة مكونا من قسمين: القسم الأوّل ويضمّ ثلاثة فصول هي: الأول، والثاني، والثالث التحضيري، والقسم الثاني يتكون من ثلاثة فصول أيضا هي: الأول والثاني والثالث الابتدائي. كان جميع التلاميذ يرتدون الثوب، ولم يكن الزي الأجنبي قد انتشر بعد. كنت أرى بعض الطلبة في حالة يرثى لها في المدرسة. أما أبي فقد كان يعطيني كل صباح مبلغاً قدره (آنتين)، وهو ما لايحضى به أي تلميذ في هذه المدرسة!!
كان عدد تلاميذ الصف ثلاثة وعشرين تقريبا، كل أربعة تلاميذ يجلسون إلى منضدة واحدة، بحيث تشكل كل منضدة مجموعة مستقلة، قد تتنافس في الإجابة على أسئلة المعلم، أو في المسابقات الثقافية. دخل علينا بهيبته، وربما بقسوته رجل يهودي اسمه (سلمان زلوف)، عرفنا من اللقاء الأوّل به أنّه سيعلمنا الحساب. بدأنا بالأرقام التي نعرفها من البحر، ومن حساب موجاته، والسفن التي تسبح فوقها، كلما جلسنا عند ساحله. علمنا جدول الضرب، وهدد كلّ مَنْ لا يحفظه بالضرب!! وسرعان ما مارس كل تهديداته عملياً. فعندما لانحفظ ما يريد من جداول ضرب أوغيرها، يضع المسطرة الخشبية بين أصابع أيدينا الغضة، ثمّ يضغط بيده الخشنة على أيدينا، فلا يتركه حتى نبكي، ونرجو العفو منه والمغفرة! أيّ قسوة كانت؟!! بين هذه الجدران، وأيّ اتساع خارجها؟
يبدأ اليوم المدرسي بالطابور الصباحي، وفيه يتمّ التفتيش على نظافة أصابعنا، وأظافرنا. كان على كل واحد منا وضع (رومال)- أي منديل – من القماش تحت أصابعه، لتبدو حالتها من حيث النظافة أو غيرها واضحة للمدرس المفتش، ثمّ يتمُّ النظر إلى نظافة الحذاء، والثياب. ولأنّ أحداً لا يعرف معجون الأسنان، فقد قام مدير مدرستنا الأستاذ حسن الجشي، بتقديم وصفة تقوم مقام معجون الأسنان آنذاك!! وهي خلط الفحم الفارسي المطحون، مع بعض البهارات ذات الرائحة النفاذة، مثل: الهيل، والمسمار. وعندما يجهز نفرك أسناننا بهذا الخليط.
أحببتُ النشاط الرياضي في مدرستنا، الذي كان من أقوى الأنشطة فيها. فمدرس المادة، الأستاذ علي تقي مدرس رياضة نشط دائماً. أكثر الألعاب التي يقترح علينا ممارستها الألعاب السويدية. أماّ أشهر الألعاب المحلية التي نمارسها كلّ يوم، وخصوصاً في فسحة الأكل فكانت: المشي على الخشب الطوال، أو المشي على براميل القمامة الفارغة. وعندما نملّ ذلك يأخذنا الأستاذ تقي إلى الماء كلّ صباح خميس.. يأخذنا إلى مكان ساحر في كلّ شيء..يأخذنا إلى عين (عذاري) بين بساتين النخيل الكثيفة. ننزل ماءها فتضيئ بأجسادنا الصغيرة. نتدرب فيها على السباحة، ونجري المسابقات التنافسية، والعصافير، البلابل البحرانية تراقبنا. كنت غالباً ما أفوز بالمركز الأوّل. وفي يوم الاستعراض، يأتي المتنافسون من جميع المدراس للتباري على المركز الأوّل. وقد فزت مرة في هذا السباق، وحصلت على المركز الأوّل، ونلت ميدالية ذهبية، بمواصفات تلك الفترة!! ولا فضل لي في ذلك بل الفضل لبيئة البحر التي عشت فيها في حيّ الفاضل. صرتُ سباحاً ماهراً دون أن أعي ذلك، فالسباحة ليس نشاطاً مدهشاً في حيّنا!! تعلقتُ بعين عذاري تعلقاً شديداً، لم أعرف مثله غير تعلقي بالبحر. عرفت بعد أن كبرت أنّه تعلّق بالمـــــــاء.
أحببت مادتي الجغرافيا والتاريخ اللتين يدرسهما أستاذ فلسطيني يدعى (جارودي). وكان ضخم الجثة!! كأنّه الكرة الأرضية!! ووجدت نفسي قريبا من الأستاذ (أحمد السني)، وهو يعلمني الرسم. تراءت لي جدران بيتنا البيضاء، وأخي أحمد يشعلها بألوانه الشمعية الحارة. لم يكن (السني) هو المعلم الوحيد الذي أخذني إلى الرسم، فمن قبله معلم رائع آخر، يدعى (يعقوب)، وهو منحدر من أصول عراقية.وتعلمت فنّ الخط من الأستاذ (سيد رضي) ومن الخطاط البارز (خليل زباري)
للرحلات نصيبٌ في مدرستنا، وهي غالباً ما تكون جميلة، ولا تخلو من المغامرة، أو الإصابات أحياناً. كان التلميذ الخليجي (عبد العزيز الحليبي) أكثر التلاميذ نشاطاً سلبياً في المدرسة كلّها!! ففي إحدى رحلاتنا الجميلة إلى بساتين البحرين استغل فترة غيابنا عن موضع أغراضنا وطعامنا، ليقوم بفعلته النكراء. ماذا فعل؟؟!! بل ماذا وجدنا بعد عودتنا لمركزنا؟ وجدنا الطعام كلّه مرمياً على الأرض، ممزوجاً بالتراب!! وسرعان ما كشف المدرسون الفاعل. إنّه (عبد العزيز الحليبي). وفي طابور صباح يوم السبت، الذي يلي يوم الرحلة، وبعد أن أخذ التلاميذ مواقعهم في ساحة الطابور، أُخْرِج التلميذ (عبد العزيز الحليبي) إلى مقدمة ساحة الطابور، بحيث يراه الجميع. وبعد أنّ عرّف المدير(الأستاذ حسن الجشي) المدرسة كلّها بفعلته، ضربه ضرباً شديداً لم ينساه، ولم يغب عن ذاكرة المدرسة. ولم ينتهِ العقاب عند هذا، بلْ حبسه في عريش دجاج المدرسة حتى اليوم الثاني!! لم ننسى ذلك ولم ينسَ الدجاج!!
في المدرسة أسس مُدرسٌ مَصري يدعى (سامري)أُسرةً صغيرة، عُرِفَتْ باسم (أسرة التصوير الفوتوغرافي) كنتُ من أوائل المنتمين إليها. إنّها فرصتي لأدخل هذا العالم الذي أرى صوره كلّ يوم في السوق فتذهلني. كانت هذه الأسرة صغيرة جداً، وليس ثمّة مكان لها تجتمع فيه وتمارس أعمالها.. إنّها مشكلة المكان في هذه المدرسة. لم يعدم المحبّ الحيلة، فثمّة عريش كبير جداً بجوار بيت العريض في المنامة، به مجموعة كتب وطاولات كانت المدرسة تستخدمه مكتبةً للقراءة. في إحدى زوايا هذا العريش، حجز الأستاذ (سامري) مساحة صغيرة لتكون أوّل أستوديو في هذه المدرسة! جعلنا له باباً صغيراً، يمكن قفله. دخلته أوّل مرةّ فرأيت جدرانه مغطاة بالسواد، يتدلى في وسطه مصباح أحمر. بدأنا أوّل لقاء في هذا الأستوديو بتلقي أوّل عرض نظري حول التصوير، ثمّ درس عملي عن عمليات تظهير الصورة وطباعتها يدوياً في أحواضها المختلفة. ولم نكن نكتفي بدروس النشاط هذه، فقد كنت أفرح بيوم الخميس، حيث تكون الفسحة أكبر للعمل في هذا الأستوديو. كنّا سبعة تلاميذ فقط مذهولة بالصورة، قد ننقص واحداً أحياناً.. لم يكن الأستاذ يسمح لنا بممارسة التصوير، أو حتى إمساك الكاميرا الوحيدة في هذه المدرسة، التي كانت كبيرة من نوع (كودك)،ذات فيلم مقاس 120. لم يكن لدينا صفائح لتجفيف الصور في هذا العريش الجميل، لذا كان الأستاذ يعلّق الصور على حبل خُصص لذلك.
ظلّ اقتناء كاميرا خاصة حلماً يراودني. كيف أكون قريبا من الصورة ولا ألمس الكاميرا؟ كان ذلك مؤلماً حقاً، مثل محبّ وُلد في تجربة ممنوعة. لذا فعّلت تجارتي الفنية مع نساء الحيّ، فكنتُ أشتري الورق الشفّاف، وأطبع عليه رسومات هندية كانت تأتي ملفوفة على طيّات القماش الهندي، أو من مصادر أخرى، بعد ذلك أبيعها على النساء اللواتي ينسجن الزخرفة والزهور على التكايا والمساند القطنية، التي توضع في مجالس النساء وفرشات العرس. هذا العمل أمّن لي بعض الأموال. كما أننا كنا عائلة ميسورة. كان يوماً مميزاً ذلك الذي حملت أموالي باتجاه متجر (أشرف)بالمنامة؛ لأشتري أوّل كاميرا لي، من نوع (كودك) كنتُ حينها في الصف السادس الابتدائي.
حملتُ الكاميرا فرحاً مسرعاً باتجاه الحيّ، أصوّر بها الناس، والأطفال، والنشاط اليومي فيه، ولم أترك شيئا لم أصوب عدستي الصغيرة عليه. كان الناس يراقبونني مندهشين، لقلّة عدد الكاميرات في حيَ الفاضل. ماذا يفعل ولد زباري؟
لم يدمْ عريش التصوير بالمدرسة كثيراً. ففي إحدى صباحات المدرسة انتشر خبر أزعج أعضاء أسرة التصوير. وجد المدرسون باب العريش مكسوراً، ولم يبقِ اللصوص شيئاً في الداخل غير حبل تجفيف الصور!! أسرة تصوير بلا كاميرا وبلا مكان!! وعندما التقيت الأستاذ السامري في الستينيات – وكنت حينها مدرس في المدرسة ذاتها- ذكّرته بحادثة سرقة عريش التصوير فضحك.
إنّه الفجر يتنفس على حيّ الفاضل بدءاً من البحر. أصعد دراجتي الهوائية، وفي كتفي كاميرتي، باتجاه عين عذاري.. في الطريق تحرسني النخيل، ويراقبني ماء عذاري حتى أصل ينبوعها.. هنا عليّ أن أحترم كل هذا السكون.. النخيلُ يلفّ العين من كلّ الجهات.. ضباب صباحي هش عند أعناق النخيل، كأنّه يسرّ لها خبر الماء، والعصافير. من أين يأتي كلّ هذا الماء؟ من أين يأتي كلّ هذا الجنون؟ أنزل الماء، أسبح فيه حتى ارتفاع قرص الشمس.. صورت عين عذاري منذ أن حملت الكاميرا.. صورتها وأسماكها، وسلاحفها، وتهافت الناس عليها.. دهشة الزائرين. صورت عذاري وهي تسقي البعيد، وتهمل القريب.. آخ صورتها وليتني ما فعلت!! تركت في قلبي غصّة!! كلّما هممت بالذهاب إليها حملت معي مجموعة من أفلام التصوير، ولم أكتف يوما بتصوير فيلم واحد. أعود على الطريق ذاتها، طريق النخيل.
وقد أبدأ من طريق آخر كلّه نخيل أيضاً، يخترق قرى البحرين الشرقية، بدأً من منقطة (النعيم)، ثمّ قرية (جبلة البرهامة)، ثمّ (السنابس)، ثم( الديه)، وهكذا حتى القرية الأخيرة (البديع). شارع كلّه نخيل، وعلى جانبيه أشجار أفراخ اللوز البحريني الأبيض والأحمر، وأشجار الكنار، والمانجو، و الجيكو، والأترج، والليمون، وغيرها. لذا لا أجدني متعباً عندما أعود، ولا أشعر بمسافة الطريق. على كتفي كاميرتي الرائعة تؤنسني.
ومرةً نزلتُ من دراجتي الهوائية أصور مجموعة فلاحين يمارسون عملهم اليومي. وما إن رفعت الكاميرا إلى عيني حتى أمسكني أحدهم، وهبّ الآخران يساعدانه على طردي!! لم يمساني بسوء. غادرت المكان لكن صورتهم في كاميرتي!!! ومرةً دخلت مسجد الخميس الأثري لتصوير أيات قرآنية محفورة في قطع صخرية كانت مرمية على جوانب المسجد، ولم يكن مسّوراً. صورتها كلّها ثم توجهت ناحية البساتين في قرية (طشّان)، القريبة من عين عذاري، وذلك عبر مقبرة الخميس، وما إن شاهدني فلاحان يجزّان البرسيم حتى لاحقاني بمنجليهما!! خفت!! سألاني عمّا أفعل، فقلت لهما: أصور! فطرداني!! كنت غريباً، وأحمل كاميرا. ذنبان مرّة واحدة!!
صورت العمانيين في دكاكينهم، ومقاهي الشاي، والعائدين من العمل، والنشاط اليومي، وأولئك الذين يطبخون أمام أبواب منازلهم بعد عودتهم من أعمالهم. صورت السفن في البحر، وسفن الأفريقيين السود، وهم ينزلون من سفنهم نحو سواحل حيّ الفاضل. وكنتُ في جميع ذلك استعين بدراجتي الهوائية، قبل أن أشتري سيارتي. دخلتُ بهذه الدراجة مناطق ومدن، وقرى، وأحياء كثيرة، منها (المحرق) التي طالما أثارتني. وعندما أدخل أزقة المحرق للتصوير يُنظر إليّ بريبة! لماذ أصور في الأزقة بالذات؟ صورت المحرق القديمة وأزقتها، وسوقها ومساجدها وحماليها، وأعراسها، وأحزانها.. ونساءها وأطفالها وشيوخها.
لم تبقَ عين ماء لم أصورها في البحرين. صورت عين قصاري والأنشطة التي تدور حولها.. رجال يغسلون حميرهم ، وبيوت السعف حول الماء.. مَجرى عين قصاري بين أشجار السدر، متجهاً نحو بساتين المنامة، يحمل ودّ وجوه قرية (البلاد القديم) إلى الآخرين.
تخرجت في الصف السادس، فعملتُ في شركة النفط (بابكو) لمدة سنة واحدة، أو أقل. ثمّة أمر آخر لم يحبب البقاء في هذه المهنة. كان صديقيّ: حبيب منصور العريض، وصالح علي العريض، يعملان في التدريس، في فترة نُعتت فيها شركة (بابكو) بأنها شركة استعمارية. قدمت استقالتي إلى إدارة الشركة؛ فرُفضت لحساسية عملي في غرفة مراقبة عمل الأجهزة، وضغط السوائل والأبخرة. عقدت الإدارة المسئولة عني اجتماعاً ضمّ الأساتذة: عمر الرميحي، وحسن غيث، وشخص يُدعى عبد الغفار، وغيرهم. كان الاجتماع بقيادة الخبير الأجنبي (مستر لوك). أحضروني في غرفة الاجتماع وسألوني عن أسباب الاستقالة، فاضطررت إلى الكذب، قلت لهم: أهلي في الكويت، وأنا أعيش مع خالي هنا.. أهلي يرغبون في التحاقي بهم!!! قال لي عبد الغفار: شوف يا ولد زباري .. إذا عدلت عن فكرة السفر فنحن في حاجة إليك. قلت له: حاضر! سلمتني الشركة كافّة حقوقي المالية. غادرت الشركة فتعينتُ مدرساً بمعارف حكومة البحرين، وأرسلت إلى مدرسة المعامير الابتدائية، التي أسستها شركة (بابكو) نفسها!! وتتكفل بمصاريفها في تلك الفترة!!
وفي يوم وبينما كنت أشرح للطلاب مادة تاريخية عن حمروابي وهانيبال، وارسم على السبورة الطويلة، انتبهت إلى وجه تبحلق عيناه في وجهي باستغراب!! انفتح الباب أكثر فدخل ثلاثة رجال بينهم عبد الغفار!!! قال لي ما لم أنسه حتى الآن: “أفه يا ولد زباري يا العفطي” ؟!!! (العفطي: صغير السمك). توقف عبد الغفار ليشرح للشخصين اللذين معه كيف كذبتْ على الشركة وهم يضحكون!! لم أستمر أكثر من سنتين في مدرسة قرية المعامير ، بعدها نُقلت إلى مدرسة السلمانية لنشاطي الملحوظ. في السلمانية لم استمر كثيراً أيضاً، فقد حدثتْ بيني وبين مديرها منازعات، نُقلت على إثرها إلى المدرسة الثانوية الوحيدة في البحرين سنة 1960م، وهي مدرسة المنامة، التي يأتيها الطلاب من جميع أنحاء البحرين. وفي سنة 1962م عُينت مشرفاً إدارياً من قبل مديرها عبد الملك الحمر، كنت مشرفا على أوّل قسمي العلمي والأدبي في البحرين سنة. وإلى جانب الإشراف الإداري كنتُ أدرس مادة الرسم. كنت مهتماً كثيراً بأن يرسم الطلاب طبيعتهم، وبيئتهم ليتعرفواعليها أكثر، ويقتربوا منها. كنت انطباعياً أكثر من أيّ شيء آخر.
كثيرا ما أحضرت بعض الفواكه ليرسمها الطلاب في الصف، وهو الرسم المعروف بـ (Stile Life). لكني للأسف لم أفعّل التصوير الفوتوغرافي في المدرسة، واقتصرت على تصوير بعض الطلاب والمعارض السنوية.
وفي أحد الدروس، اخترت (الجنة والنار) ليكونا موضوع الرسم!! وتفاجأت برفض أحد الطلاب وهو (إبراهيم بو هندي) الاستجابة لرسم هذا الموضوع، فقد كان أبوه مؤذناً في أحد المساجد، فطردته من الصف. بعد قليل وجدته ومدير المدرسة الأستاذ عبد الملك الحمر يقفان عند باب الصف. هنا بدأت المشكلة. ناداني المدير، وسألني: هل صحيح ما يقوله هذا التلميذ؟ هل موضوع الرسم اليوم: الجنة والنار؟ قلت له: نعم أستاذ!! كنتُ أذكّرهم بالآخرة!! كأنّ المدير اقتنع فطلب مني إعادة التلميذ إلى الصف. وفي الحصة ذاتها رسم الفوتوغرافي والكاتب الصحفي (عقيل سوار) شخصاً بأنياب كبيرة وحادة، وفم أحمر، يُخيف الناس، ويشير بيده إلىالنار فلما سألته: مَنْ هذا الشخص؟ قال: هو (…) فطردته من الصف!!! أمّا الفوتوغرافي (حسين علي) فقد كان تلميذاً هادئاً للغاية.
في إحدى حصص الرسم بالمدرسة، أدخلتُ آلة العود الموسيقية، وصرتُ أعزفُ عليه، بينما التلاميذ يرسمون. فلما عرف مدير المدرسة الأستاذ عبد الملك الحمر في اليوم التالي، أحضرني وقال لي: لم تحضرْ عوداً إلى المدرسة؟ قلت له: نحن نرسم ونسمع الموسيقى عبر الراديو، فماذا يضير لو عزفتُ للطلاب وهم يرسمون؟ كأنّه اقتنع، أو لم يجد رداً!!
على الرغم من حبّي للتصوير الفوتوغرافي، وشرائي العديد من الكاميرات، و أدواتها، وكتب التصوير، ومجلاته المتخصصة، تملأ البيت.. على الرغم من فتحي غرفة مظلمة في بيتي أحمّض الأفلام فيها وأطبع الصور.. على الرغم من كلّ هذا التعلّق بالكاميرات والصور، إلا أنّ الرسم استأثر بكلّ وقتي، فقلّما أجلسُ دونَ قلم رصاص، أو فِرشاة زيت. صار للتصوير أوقات معينة، وقليلة جداً، غالباً ما تكون في الإجازات، على الرغم من توفر مواصلات أسرع، وأروح من ذي قبل. وبعد أن فتحت مؤسستي (بلاستيك الجزيرة) سنة 1959م، صرتُ لا أصور إلا في يوم الجمعة فقط. أصعد سيارتي الإنجليزية(وزلي) (Wazly ) وانطلق عبر الشارع الذي يخترق القرى كلَها، كما كنت أفعل بدراجتي الهوائية سابقاً.. كانت الأشجار والنخيل توفر من الظلال ما يكفي لمتعة المشي.. هنا المساجد الصغيرة متقاربة، يصلي فيها الفلاحون الذين يحملون الخضراوات إلى السوق فجراً، وعند عودتهم مساءً.. ويصلى فيها كل أولئك الذي يستيقظون فجراً وتكون هذه المساجد في طريقهم. أبدأ بحيّ (النعيم) الساحلي بالمنامة . أدخل ورش صنّاع السفن (القلاليف) وهم يصنعون السفن، و في لحظات إنزال السفن الكبيرة قرب مستشفى (النعيم) الصحي.. صورت السفينة البكر تتصل بالماء لأوّل مرة على غناء الرجال وهم يدفعونها إلى البحر بأيديهم العارية، بينما يقف مالك السفينة قلقاً وفرحاً في الوقت ذاته.. لا يبتسمُ حتى تلتقي سفينته بالماء.. إنّها بهجةُ الماء… صورتُ عربات تجرّها حميرٌ تدخل البحر لجمع الحجارة والصخور، والرمال، وغيرها.. كُنتُ أجلسُ عند سواحل (النعيم) فأرى قلعة البحرين (قلعة البرتغاليين) التي طالما صورتها.
لدي صور لعين عذاري لا يعرف عددها إلا الله.. آخ عذاري كأنّ ماؤها في عدستي.. عذاري كانت حياة في صغري وكبري.. صورتها منذ أن وعيت عليها حتى لحظة احتضارها.. صارت صوري تتخفف كلّما جفّ ماء عين عذاري.. قَلَّ ماؤها فأصيبت عدستي بالخمول.. وهل يحيا مَنْ يغادره الماء؟
عذاري … عذاري لا تتصور كيف هي مني؟ كيف هو قربي منها؟ هي الوحيدة التي صورتها بأطوارها المتعددة، مثل امرأة تدخل عدستي في كلّ أطوارها.. لا يمرّ أسبوع دون أن تدخل عذاري في كاميرتي.. عذاري هذه أنا.. صوري كلّها تُشبه عذاري.. كانت آخر صورة التقطها لها قبل أسابيع فقط.. صورتها وأنا أعتذر منها، ومن مائها الذي غادرها تماماً.. أقصد غادرنا.. هل تسمع معي المغني وهو ينشد(عذاري يسألون: الماء تبدل؟ صحيح الماء تبدل يا عذاري؟).. أنا أسمعه وأسمعها، وأسمع سيرتي فيها.. أصوات أطفال – أنا واحد منهم – يضربون ماءها بأقدامهم الصغيرة. الماء تبدّل وعذاري وأنا، وصوري.. توقّف ماء عذاري فتوقفتُ عن التصوير.. كاميرا من بلدي لا يدخلها ماء عذاري مشبوهة!!
غاليري
في ساحل حي الفاضل في الخمسينيات |
|||
ساحل حي الفاضل في الخمسينيات |