نص: حسين المحروس
تصوير: عبد الله الخان، فريد البيات، حسين المحروس
«صباحاتك لا تتشابه، ولا ينالها الملل: صفتان من الماء يهبهما للذين يبتكرون الضوء فيه! تُشكِّل يومك مثلما يُشكّل الحداد أبو هلال الحديد الأحمر المائع في عَمارة الحاج محمد حسن، في حفرة بدكانه المبني من الصفائح المعدنية (الجينكو). حفرة قال عنها وعنهم قاسم حداد:
”حدادون مصلوبون في حفرٍ مصفحةٍ
لتنثالَ الكتابة في نشيج النار
نهراً في المجامر يُوقظ الفولاذ”.
أبو هلال
باب الحداد أبوهلال إلى الشرق، قريب من نادي الحيّ الثقافي. مكان متواضع جداً ربما لهذا السبب أيضاً يتواضع الحديد لأبي هلال ينصهر بين يديه ليحتمل قسوة ماء البحر! أكثر ما ينتجه أبو هلال للبحر: مسامير متينة للغاية بأحجام مختلفة، يُسمى كلُّ واحد منها (مسمار حدادي)! وهي تعني أنّ هذا المسمار من صنع حدادة البحرين، وليس من تلك التي تحضر من بلاد الهند، عندما يزاد الطلب على المسامير، فلا يستطيع الحدادةُ تلبية متطلبات القلافين!».
يتفصّد جبين أبو هلال عرقاً حتى في فصل الشتاء! أليس عمله في تخليق النار؟ وحده الحديد لا يتكلم حتى يكون في قمة خجله! يحمّر كلّه ليستوي كلّه! يغريك مشهده الناريّ، وتودّ لو كانت مطرقة أبو هلال في يدك. تأسرك حمرة الحديد، جمرته، أليس الجمال يحرق؟ ترتد حمرته سواداً فجأةً عندما يضع أبو هلال الحديد في الماء، ويخفتُ جماله! وقبل أن يهدأ فيه كلّ شيء يصرخ في الماء..إ شششِشش! (يُبَرْبِق) الماء! تتنفس النار لتموت! خاتمة الجمال صرخة! وخاتمة حمرة الحديد سواد وقليل من الدخان يشبه إعلان ما تبقى من كرامته، وخاتمة أيةِ ثورة سرقتها! ستعرفُ أنّ للماء وجعَ الانطفاء أيضاً، مثلما له بهجة الضوء.
لون الظلّ
في العام 1985 كانت كاميرا الصديق فريد البيات وبترتيب من أحد طلابه في جامعة البحرين تلتقط كلّ شيء في سوق الحدادة الكائن في وسط السوق القديم بالمنامة: الوجوه، الثياب، الحفر المربعة تحبس الحدادين، العرق، برادة الحديد، حمرة النار في قلبه، التعب، أكوام الحديد، سواد الحديد في الأيدي والوجوه، ضوء الشمس يخترق السقف على استحياء فلا يضيء المكان غير حمرة الحديد. كلّ شيء بلون الظلّ في هذا المكان إلاّ قلوب الحدادين بلون جمرة الحديد. ما أكبر اتساع خواطرهم للرزق وللزائر الجديد. يشتري، أو يتسلى، أو يفرّج عن همّه بتواضع الحديد القاسي جداً بين أيديهم. القسوةُ تنصهر في المكان المنتخب.
فريد البيات يعرف جيداً كيف يصوّب عدسته العالمة نحو الكادحين في سوق الحدادة في المنامة، حتى أكاد أسمع صوت المطارق في صوره، أنفاس الحدادين، ميل أجسادهم نحو قبلة الحديد، استدارتها نحو المصهر الصغير، إذكاء ناره بالهواء ونار الرزق، تخليق نيات المشترين في شكل الحديد، تخليق أرزاقهم. لا وقت للكلام في هذا المكان. الوقت كلّه للقوت.
رائحة المكان
للأسواق رائحة المكان..
لكلّ سوق رائحة، لكلّ مكان سيرة الرائحة فيه: البيت، غرفة المرأة البكر، غرفة المرأة التي لم تنجب، غرفة المسن الذي لم يتزوج، غرفة الزوج إذا سافرت زوجته، قفص الحمام، المكتب، السجن، البستان، السيارة، خزانة الملابس، خصوصا خزانة ملابسها بعد الزواج، الثلاجة، مرتبة السرير، أعني المقعّرة منها، المطبخ القديم، سوق اللحم، سوق الفواكه، وسوق الحدادة القديم بالمنامة رائحة عسف الحديد، وصبر رجال سُمر من لحم وحديد.
يقع سوق الحدادة على شارع الشيخ عبد الله في وسط المنامة تقريباً، جنوب فندق صحاري حالياً. يشكل سوق الحدادة مع مجموعة دكاكين ومحال مثلث قائم الزاوية فيها يقع السوق نفسه. في داخل هذا المثلث سوق لبيع الماء الحلو، يجلب من ”عين الحنينية” بالرفاع؛ لذا أخذت هذه السوق اسمها من اسم العين فسُميت بـ ”سوق ماء الحنينية”. عربات فيها قُرب من جلود محمّلة بالماء تجرّها حمير. لا يقوم السوق، ولا تُرى هيئته حتى تتجمع العربات فيه. ينتهي السوق فيتحول مكانه إلى ساحة مفتوحة لكلّ شيء. مَنْ يقوى على القول: إن للماء رائحة؟! وبعد أن جاء الماء في البيوت وغابت السوق، تماما صارت الساحة لجمع زبالة سوق المنامة. طبعاً.. تغيّرت رائحةُ السوق. في هذه الساحة أيضاً نجد في أوقات متباعدة ما يشبه التلّة السوداء، تلمع من بعيد. يُسميه الحدادون ”الفحم الحجري”، وهو يجلب من شركة النفط (بابكو). سهل النقل، سريع الاشتعال، ومضاره الصحية أقلّ بكثير من ”فحم خاقه” الذي يستعمله الحدادون اليوم. لا علاقة لـ”خاقه” بالمعنى السلبي الذي نعرفه: متعب، محبط، فاشل مع أنّ حالة الحدادين البحرينيين اليوم ”خاقة” إلى أقصاها! وفي هذه الجهة أيضاً ستجد ورشة نجارة ”منجرة” السيد عبدالرحمن «أبوخالد».
لازلنا داخل المثلث الحيّ.. فمن الشمال يحدّ سوق الحدادة شارع الشيخ عبدالله، ومن الشرق يأتي استوديو المصور الفوتوغرافي أحمد عبدالله الماضي (من حي النعيم بالمنامة. تعلّم التصوير في الهند، وتوفي في العام 1976) [1]، دكان صغير لـ ”أبو ادريس” لبيع أدوات النجارة، محل ”السومالي” لبيع الثياب، خصوصا الثقيلة منها. وفي قمّة المثلث محل ”سالم فون” لكلّ ما يتعلّق بالموسيقى والغناء الشعبي آنذاك. لا توجد لدينا خرائط تعرّفنا بأسماء المحلات و”الأمكان” وتحولاتها. لدينا خرائط تُوضح حدود العقارات وليس أكثر من ذلك.
مربع السوق
تأخذ سوق الحدادة شكلاً مربعياً علاماته أسطوانات متينة مربعية الشكل أيضاً، واللون الأسود، وأصوات المطارق تهوي على الحديد العنيد، لكن ليس في هذا المكان. فحرارة الرزق تُلين الحديد. الحدادون السّمر هنا كلّهم داود النبي.
تبلغ عرض كل أسطوانة قدمين تقريباً، وارتفاعها ثمانية أمتار تقريباً هو ارتفاع السوق. وهي مبنية من الحجارة المرصوصة إلى بعضها البعض بالجصّ، تصل بينها بشكل أفقي سيقان خشب أشجار ”الجندل”. وقد تمّ الأخذ في الاعتبار الحرارة المنبعثة من المصهر اليدوي فلم يجعلوا سقف السوق من ”المناكير” الناعمة، القوية كما هو شائع في تلك الأيام، بل من شرائح الصفيح ”الجينكو”. وهو أيضاً لا يغطي سقف السوق كلّه، فثمّة فسحات للضوء ليهبط على خجل. فلكثرة السواد في هذه السوق ما عادت الشمس قادرة على إضاءته كما ينبغي. أحياناً تعجز الشمس لكنّها لا تعترف!
الوقت من مطارق
أخذت سوق الحدادة في المنامة شكلاً مربعياً تقسّم إلى حوالي أربعة عشر مربعاً يشكل كل واحد منها ورشة صغيرة مفتوحة على الورش الأخرى إذا سمحت أكوام الحديد والصناديق بذلك، وهي نادراً ما تسمح. يتكون كل مربع ”ورشة” من: حفرتين بينهما سندان ضخم هو مركز الورشة الصغيرة، مصهر صغير ممتلئ بالفحم الحجري الأسود اللامع، وبطاقة اندفاع الهواء من منفاخ ضخم، يحركه ساعد الحداد الأيمن بحركة عمودية للأسفل والأعلى. الأولى تدفع الهواء نحو النار فتذكيها، والثانية تسمح للمنفاخ بالامتلاء بالهواء. عملية التنفس هذه هي التي تبقي النار حيوية على قيد الحياة.
الحداد الذي يتولى عملية إدارة المنفاخ غالبا ما يكون هو المسؤول عن إخراج الحديد من المصهر وتثبيته على السندان، بينما يقوم الحداد الآخر بمجهود لا يقلّ عن الأوّل، يرفع أكثر من نوع من المطارق الثقيلة يهوي بها على جمرة الحديد يعسفه بها. ولكل مرحلة في تشكيل الحديد مطرقة، ولكل مرحلة صوت. فكلما احمّر الحديد خفت صوت طرقه. يعلو منه الصوت، ويصعب تشكيله كلما اسودّ وبرد. المرأة الباردة أيضاً يصعب تشكيلها على سندان السرير. علاج الرجل البارد مطرقة عظيمة على رأسه وهو نائم. البارد ضربٌ من الحجارة.
أما اللمسات الأخيرة فيتولاها الحداد الأوّل، الذي يملك حرية تقليب الحديد على السندان. في الورشة الصغيرة كلّ شيء باتجاه السندان مركز المربع، مركز الرزق: الحدادان، المصهر، والخلق الجديد للحديد.
يروي الشاعر قاسم حداد عن تنوّع إيقاع المطارق في سوق الحدادين بالمحرق ”عندما عملت مع والدي في الحدادة، كانت لي عدتي ومطارقي الخاصة، وعشت في سوق الحدادين، حيث كان إيقاع المطارق يشكل جوقة متداخلة يستطيع المرء، بفعل الخبرة، أن يميز، عن بعد، حجم المطرقة ونوع الحديد المطروق، وما إذا كان محمياً أم بارداً، ومن المشوق أيضاً أن تنصتَ إلى الحداد وهو يتلاعب بالمطرقة حيث: طرقة على الحديد طرقتان على السندان. وأذكر أن أحد الحدادين كان يبالغ في تنويع إيقاعه متلاعباً بمطرقته، حيث كان يضع بجانب سندانه قطعة من الصخر الصلد، زاعماً أنها نوع من الحجارة تشحذ المطرقة، وتصقلها لتحسن تطويع الحديد الخارج من النار، وكان ذلك ضرباً من الاستمتاع وتبجيل العمل، بتحويله إلى طقس يزخرفه الإيقاع المبتكر الذي تخلقــه مخيلــة العامل”. (ورشة الأمل، قاسم حداد، 2004)
في المنامة أو المحرق الحديد يتواضع في سوق الحدادين ويخضع أمكنته، وتصبح حفر الحدادين مصادر للقوة، والرزق والكتابة. يهبط الحداد في حفرة مصفحة تحميه حتى نصفه الأسفل. وهذا ما يمكنه من الاقتراب من السندان بصدره، ويهب ساعديه قوة طرق مستقيمة ممتلئة بدفع ومساندة من ظهره الذي لولا الحفرة لتقوّس وغابت قوة ساعديه. بهذا الوضع يصبح ثقل الجسد كلّه في كلّ طرقة.
بن شرار
يعجنون وهج الحديد بأيديهم كي لا تخبو جمرة القلب بذلّ السؤال…
المصور التوثيقي عبدالله محمد الخان حفظ صور سوق الحدادة بالمنامة في مجموعة صور فوتوغرافية استثنائية. سألته: هل أجد عندك صوراً لسوق الحدادة فقال: كلّ مكان في بالك صورته وحفظته.
كنت أشاهد صوره وأستعين بها على خروقات الذاكرة، وصورها الترقيعية لكي يبدو الأمر وكأنها لا تغفل عن شيء. بصوره وجدت نفسي أمرّ للتو فأجتنب الحرارة المنبعثة من السوق. بين ورشاتهم الصغيرة العارية جدران من دخان وكلام.
لم يؤثثوا لجدران كلّما تألقوا في الكدح والتواصل. مشاريعهم الصغيرة متشابهة في الشياع والشكل. لا صفقات سرّية، ولا طلب خارجي لم يأخذ حظّه من الانتشار على وقع ”الرزق على الله وهمّة عباده”.لا شيء مخفيّ بينهم/فيهم غير تلك العلاقة بين قوة عسف الحديد ورقة القلب الجديد.
ما الذي يجعل قسوة الحاج عبدالهادي عبدالله بن شرار (توفي في عام 1990) على الحديد توازيها رقّة صوت يوقع المارة في ضرورة التوقف والإصغاء إليه وهو ينشد أبيات الشعر كأنّها تقال لأوّل مرّة على الرغم من حفظ الناس لها في الحيّ. ينشدها في شهر محرّم من كلّ عام فيظنّ المُصغي أنّها جديدة. ولا شبيه لذلك غير أن يخرج من الـ(حداد) شاعر سيرته بين الجنّ والسجن. كلاهما عسف من الحديد الأخضر شعراً.
يغادر بن شرار – ورث مهنة الحدادة عن أبيه ” عبد الله بن شرار” أحد أشهر وأمهر الحدادة- حيّ النعيم بثوبه الأبيض مشياً على الأقدام شرقاً إلى سوق الحدادة بالمنامة. يحمل الشاي والقهوة ولا شيء غير ذلك. يمشي بميلان قليل إلى الجهة اليمنى ربّما كي تظلّ جهة القلب ناهضة، وربّما لحقه ذلك من عادة ميل الجسد ساعة عسف الحديد على السندان.
يعود في المساء بالثوب الأبيض الناصع أيضاً. وبين البياض والبياض حديد يحمرّ ويسودّ ويحمّر ويسودّ كأنّه العمر، وبين البياض والبياض تحيات بن شرار الرقيقة للمارة في الحيّ من الرجال والنساء. كلامه على قدر، ضحكته المبحوحة، ابتسامته، ترتيله للقرآن، أحاديثه في مجلسه الصغير، نشاطه في غير السوق كلّه على قدر. كأنّه يدّخر قواه لعسف الحديد، ليرضي غرور مطارقه وسندانه.
يتوقف عن العمل عشرة أيام فقط متتالية هي الأولى من شهر محرم من كلّ عام، لا يطرق على الحديد بل على الشعر وإنشاده وقراءة ما تيسّر من أبواب كتاب ”الفخري” للطريحي [2]. بن شرار قارئ من الدرجة الأولى ينطق الكلمات على مهل ولا يستعجل تماماً مثلما يهب الحديد وقته المفترض في التوهج والانطفاء. القراءة أيضاً توهجٌ وانطفاء. لذا قلّما توقّف في نطق كلمة. يبدأ في سرد واقعة كربلاء فيصغي المارة للصور فيها. وتلك براعة في قراءة بن شرار.
شخوص:
* فريد البيات: أكاديمي بحريني يعمل الآن على إنجاز رسالة الدكتوراه
في تصميم إنموذجاً لتعليم التصوير الفوتوغرافي باستخدام الوسائط المتعددة التفاعلية.
** عبد الله محمد الخان. مصور توثيقي ولد في مدينة المحرق في عام ١٩٣٤. نشـأ في عائلة يمتهن عائلها التصوير وطباعة الصور في منزله بالمحرق. أسس مع صديقه خليفة شاهين مؤسسة الصقر للتصوير أكبر مؤسسة تهتم بالصورة والسينما في الخليج حتى العام ٢٠٠٥ عندما تفككت. أسس بعدها (بيت البحرين للتصوير) صدر له كتاب (المحرق.. وردة البحر) في عام ٢٠٠٧ وهو من إعداد حسين المحروس. مازال الخان يحمل الكاميرا حتى الآن ويصور.
ملحوظة:
- نشرت هذه المادة في صحيفة (الوقت) البحرينية على حلقات في شهري ديسيمبر ٢٠٠٨و يناير ٢٠٠٩ وأعيد ترتيبها للنشر في (سيرة الضوء).
- لقراءة المادة في صحيفة الوقت (www.alwaqt.com:80/scat.php?cid=62)
أقرأ أيضاً: