يوسف قاسم
يُوسف قَاسم : عَينُ الطَير **
حُسين عيسى المحروس
لو كانت أمواجُ البحر على سواحل المنامة تحتفظُ بآثار أقدام الأطفال ، لاحتفظتْ بقدميَّ الصغيرتين العاريتين ، على سواحل حيّ الفاضل . الشمس تتجه نحو المَغيب ، ونحن نتجهُ نحو البحر .. كنّا ثلاثة أو أكثر لا تأتي موجةٌ حتى نطبعَ عليها أقدامنا الصغيرة .. نبعثرُ ماءَها .. نخلطُها برمل الساحل ، فتعود به إلى البحر مُثقلة .. ونحن .. نحن لا نعلمُ بتعبها ، ولا نعرفُ من أيِّ بحرٍ جاءتْ ؟ وكم عدد السفن التي اصطدمتْ بها ، وهي في طريقها إلينا ؟ لكنّنا نَعرفُ أن آثار أقدامنا مطبوعةٌ عليها .
كانت الأمواجُ تَتخطّى مبنى المحكمة القديمة بالمنامة . هنا تُباع ( المَنَاكِير ) التي تُصنع من نبات القصب ، وتستخدم في تسقيف المنازل . لن تغادر مكانها في ( العَمارة ) حتى تستشعر خِفة أجسادنا الصغيرة . نصعدُ فوقها فنفرح ، ونضحك لأنّها تجعلُنا في الهواء كلّما قفزنا فوقها . لا يَنْهَرنا أحدٌ هنا ، فثقل أجسادنا لا يكفي لإفســاد هـذه ( المناكير ) .
نأخذُ حاجتنا ثمّ نعود إلى البحر ، نتقاذفُ بمائه الذي لا نلتفتُ لملوحته في عيوننا الصغيرة ، التي تدركُ الجمالَ بفطرية تامّة . نُمارس ألعاباً عدّة في البحر . نصنعُ سُفناً صغيرة ممّا هو مَرميّ على الساحل ثمّ نضعها بهدوء تامٍ في الماء فإذا ما تحركت ودَّعناها بضحكاتٍ ، وبسمات وتفاخر . طفلٌ يمتلأ بحبّ البحر ، حتى لكأنّ جدران بيتنا وحيّ الفاضل جدران واهية لا وجود لها . هذا البحر لا يوازيه إلا نخيل حيّ الفاضل الخضراء . ربّما لأنّها تطلّ على البحر أكثر منّا .
كانت عيوننا على البحر تارةً ، وعلى نافذة منزل السيد ” Way Well Brian ” مدير شركة النفط تارةً أخرى ، حتى تطلّ علينا زوجته مبتسمة ، و سرعان ما نراه إلى جنبها يبتسم لنا . نحرّك أجسادنا الصغيرة . نتمايلُ ونحن نقتربُ من منزله الذي تضرب فيه أمواجُ البحر . فإذا ما صرنا أسفل النافذة ، رمــى علينا ” Brian ” قطعة نقود صغيرة ، أو قطعتين ، لا يمكن تقسيمها علينا . نعود إلى البحر ، وإلى كرمه الجميل . يقلّ نشاطنا قليلا قليلاً ، كأنّه يستمدّ حيويته من الشمس ، التي لم يبقَ على غروبها سوى لحظات . بدت حركة استعداد نساء حيّ الفاضل لمغادرة الساحل ، بعد أن غَسلْنَ ثياب أُسرهن في ماء البحر . نغادر البحر ، فلا تغادرنا صورتُه ما دمنا نسمع صوته في الحي ، ونشمّ رائحته المميزة .
سيكون لنا نشاط آخر غداً لكنّنا لا نفكر فيه الآن ، سوف ندخل فيه ونمارسه ولن يأتي التفكير فيه مادمنا نرى فيه حلاوة أيامنا صغاراً أكثر طبيعية وفطرية من الطبيعة ذاتها . ها أنا طفل لا يستشعر وجود حدود لطاقته ولا حدود لمنزله ولا نهاية لبصره عندما يقف في البحر ، ولا نهاية لحياته . طفل لا يعرف النظر في الماضي الذي لم يتكون بعد ، ولا يسأل عمّا سيأتي ، لكنّه يعرف ” الآن ” ، ويعرف بشعوره لا بعقله أنّه غرّ اللحظة .
بدأت الصورة كأنّها تعرفني منذ أن كنت طفلاً يُحمل على الأكتاف ، والرقاب ، وكأنّها تعرف ما سوف أكون عليه . يدخل أبي جاسم الخاجه البيت فأتلقاه كأنّي لم أره منذ شهور . يحملني على عنقه ، وأنا شبه عارٍ فتتدلى قدماي الصغيرتان على صدره .. أبالغ في تحريكهما .. لا أعرف إلى أين يأخذني . بدا لي أّن ذلك ليس مهما مادمنا قد خرجنا من البيت ، وما دمت أرى الذي لا يراه هو من هذا العلو . وصلنا إلى المكان الذي قرر أبي أخذي إليه . جمع غفير من الناس والأصوات لا تنقطع . صرتُ أُدير وجهي في كلّ الاتجاهات إلا الأسفل . انتظرنا فزاد تجمع الناس . عرفتُ بعد سنوات أنّ هذا المكان هو قلعة شرطة البحرين بالمنامة . لم يكن حول القلعة سور لذا تدخلها الناسُ من كلّ الجهات .
مضت فترةٌ زمنيةٌ ونحن على هذه الحال حتى صمت الجمعُ فجأة ، وبدأت الرقابُ تَتطاول . هنا أرى أفضل من أبي ومن كثيرين . مجموعة من الشرطة المسلحة يمشون باتجاه وسط الساحة ، وبينهم شخص يُقاد وهو مقيد اليدين والرجلين ، ولا يمكن رؤية وجهه المغطى . توقف الموكب في وسط الساحة وتمّ تهيئة الشخص الذي صار واضحاً لي من خلال برجي أنّه رجل . وعلى مسافة من هذا الرجل وقف عشرة من رجال من الشرطة الذين لا تُرى وجوههم مقابلين ببنادقهن الطويلة المصوبة باتجاه الرجل . انطلقت رصاصات من بنادقهم فسقط الرجل ميّتاً على الأرض . قيل إنّه قتل إنساناً متعمداً .
لم أستطع نسيان تلك الصورة حتى هذه اللحظة . بدأت عيناي – عينا طفل – حفظ الصور التي تمرّ أمامهما . سوف تبدأ هاتان العينان اللتان تريان الأشياء من فوق مثل عيني طير محلق بمجهود لم تستطع الحواس الأخرى تحمل نصفه . لقد بدأت المهمة الكبرى لهما ، وسوف تمارسان تكوين الذاكرة البصرية لديّ . لكن دون أن أعي أو أعرفُ ذلك . هكذا تتكون الذاكرة البصرية بفطرتها .
ساحة حيّ الفاضل – الذي وُلدتُ فيه عام 1928م – ميدان لا نجعله يستريح إلا عندما تغيب الشمس . يبدو لي أن أصداء أصواتنا ما زالت تملأ فضاء الحيّ . العلب المعدنية لفاكهة الأناناس لنا فيها مآرب أخرى . هذه العلب تتحوّل إلى دراجات تحت أرجلنا تسير بنا حيث نشاء في حيّ لم أره ضيقاً حتى كبرت . وكأنّ عين الطفل تتسع لكلّ الفضاءات ، وكأنّ عينين غير عيني الطفل لا تريان العالم إلاّ بحدوده التي تضيق بالفسحات . وبعض هذه العلب يتحوّل إلى مكبرات صوت لأناشيدنا . في ساحة الحيّ يخرج الطفل محمود المردي فيرانا نلعب فيعود من حيث أتى خوفاً من أن نضربه .
وفي ذكرى عاشوراء نصنع سيوفا من الخشب .. كنا مجموعة أطفال نحمل سيوفنا وننتظر خروج مواكب العزاء في المنامة . وما إن يخرج الموكب حتى نتقدمه بسيوفنا ونسير معه . نبني لنا مأتماً صغيراً نراه كبيراً نحاكي فيه الكبار فنشعر بذوات لا تقل عن ذوات الكبار .
” معلّم القرآن ” بإدارة الملا علي كان مدرستي الأولى التي دخلتها وعمري أربع سنوات ختمت القرآن الكريم ولما أنتهِ من قراءته كلّه !! رفض أخي الذي ختم القرآن لبس السيف ، والجبة ، والعقال ، والسير بها في موكب حول منازل الحيّ لسبب لا أعرفه ، فما كان منّي إلا أن لبست كلّ ذلك ، وسِير بي في أزقة الحيّ بدلاً منه .
كان لابدّ أن أختم القرآن الكريم ؛ لأجد نفسي أمام مدرسة أخرى مازالت غير مرغوبة من قبل الناس في تلك الفترة ، والداخلون فيها قليلون جداً . تلك مدرسة نُعِتتْ بنعوت منها : أنها مدرسة ” إلحادية ” ، يُقال للتلاميذ فيها إنّ الأرض كروية !! وتعلل بعض الناس بعدم كفاية طفل الست سنوات ، وأمور أخرى ناتجة من التعصب الديني . لكن أبي – الذي كان يعمل في بيع الكيروسين على الأهالي – لم يكن كذلك ، بل كان متفتحاً إلى حد ّما ، نشطاً لا يعرف الكسل طريقاً إليه . فبعد تخرجي بشهور في معلم القرآن ، طلب منّي أن أهيئ نفسي لدخول المدرسة . وكان دخول بعض من أطفال الحيّ فيها دافعاً آخر ساهم في اتخاذ أبي هذه الخطوة . هذا رائع سوف أدخل المدرسة ! في أيّ نعمة وحظ أنا . لكنّي لم أكن أعرف أنّ اسمي سيتغير في هذه المدرسة من : يوسف جاسم إلى يوسف قاسم والسبب هو : لسان بعض المدرسين السوريين والمصريين في لفظ ” جاسم “!
في المدرسة الجعفرية بدأت الدروس المكثفة ، بعد أن تأكد مديرها المصري – الذي لا يفارقه الطربوش الأحمر – أنّنا لن نغادر المدرسة للغوص أو لأيّ عمل آخر . كان المنهج يحتوي على الفقه ، والتفسير ، والعبادات ، وتاريخ لا يمجد سوى الدولتين : الأموية والعباسية ، وقرأنا كتاب ” القراءة الرشيدة ” ، وبعض مبادئ الحساب . وبعصاةٍ غليظة طويلة اسمها ” سَمْحَانة ” أُعدت للكسالى من التلاميذ كان الأستاذ المرحوم ” سالم العريّض ” يدرسنا اللغة الإنجليزية ويحملها معه أينما حلّ ، ويحمل إلى عقولنا لغة نتعرف عليها للتو .
ولأنّي كنت سعيداً بدخولي المدرسة ، لم تفتني دروس الموسيقى على يد الأستاذ الإيراني ” أجدان ” الذي أحضرته الشرطة لتعليمها الموسيقى في الصباح ، وفي العصر يتطوع بتدريسنا الموسيقى في المدرسة . على يده تعلمت الضرب على طبل الترانبيت ، والعزف على بعض الآلات الموسيقية المتوفرة آنذاك . ولتطبيق ما نتعلمه من دروس في الموسيقى كنتُ أخرج مع أفراد مجموعتي لنتقدم الموكب الموسيقي لعزاء مأتم بن سلّوم في ذكرى عاشوراء ونعزف آلة الكورنيت دون حرج أو تردد .
بقليل من الديكور الذي جلب معظمه من سوريا ، وبعض الرسومات ، ونافذة بدت لي حقيقية على الرغم من أنها مرسومة ، كان مسرح المدرسة الجعفرية يبدأ نشاطه المسرحي الأوّل . ولأنّ المسرح جنون ، والعشق مسرح لذواتنا بدأت الفرقة المسرحية بعرض مسرحية ( مجنون ليلى ) . في هذه المسرحية كنت ممثلاً وجمهوراً .. ممثلاً لأوّل مرّة يشترك في تمثيل مسرحية ، وجمهوراً لأوّل مرة أيضاً يرى مسرحية في حياته . هنا انتقلتُ بمسرحي الطفولي من ساحل البحر وأمواجه إلى خشبة المسرح . لكن المسرح لم يستطع وحده إرضاء حرارة المغامرة في دمي وشبابي وحيويتي وذاتي . بحثت عمّا يشبع جزءاً من تلك المغامرات في المدرسة فلم أجد غير الفرقة الكشفية . اشتركت فيها فكانت السنة المدرسية الثالثة .
لم أكن أعرف أن المدرسة ستكون مصدر حيوية كبرى ، تسري في جسدي وعقلي ؛ لذا كنت أشعر ببعض الفراغ في العطلة الصيفية على الرغم من أن الفراغ في حياة الطفل يكاد يكون غير موجود . أنهيت المدرسة الجعفرية فالتحقت بمدرسة الهداية الخليفية .. في الهداية .. وقبل أن يدخل علينا مدرس مادة الدين الأستاذ عبد الله بو بشيت الصف بدقائق قليلة ، أقوم لأرسمه بعمامته على السبورة . وما إن ينتهي من سؤاله عمّن رسم صورته على السبورة حتى يتبرع أحدهم بكشفي فأُساق إلى مدير المدرسة وهو نفسه الذي علمني الإنجليزية في المدرسة الجعفرية ، الأستاذ سالم العريّض فيعطيني ما يناسب شقاوتي ضرباً بعصاته الغليظة . كيف يستقبل طفل الثامنة موقفاً كهذا ؟
هناك أستاذ آخر لم يسلم من الرسم على السبورة ، هو مدرس الإنجليزي : الأستاذ عبد علي . كما لم يسلم شيء من صرير قلمي الرصاص عليه حتى كتبي المدرسية التي تحوّلت أوراق بعضها إلى لوحات وصفحات كأنّها من كتب أخرى لا علاقة لها بمادة الكتاب نفسه !!
خرجتُ أبحث عمَّا يسدّ هذا الفراغ ، الذي يتكون فجأة بعد انتهاء الدراسة في الصيف .. بحثتُ عن عمل في شركة النفط فلم أوفق فطرقت باب المستشفى الوحيد في البحرين آنذاك : مستشفى الإرسالية الأمريكية . خضت امتحاناً صعبا في اللغة لكنّي نجحت فيه بفضل تلك الدروس القوية التي يقدمها لنا الأستاذ العريّض في المدرسة . قبلني المستشفى عاملا تحت التدريب براتب لا يتجاوز 18 روبية . وهناك قابلت لأوّل مرّة عبد النبي سبكار ، وخليل ترابي ، وعبد الحسين سبكار ، وبرهان الدين فروغي لتبدأ صداقة جديدة في موقع جديد ومرحلة عمرية جديدة ، في مستشفى لم يكن يحوي اكثر من 200 سرير .
حتى هذا التاريخ لم تتضح ملامح اتجاهي بعد . لكنّي كنت أعرفُ جيداً أني لن أكون في اتجاه واحد لأنّه مهما كان لن يستطيع أن يملأ كلّ هذه الحرارة في داخلي . شيء ما في نفسي يحدثني دائماً : إنّك تنظر بعين الطير محلقاً ، يعني أنك لا تستطيع أن تتجاهل ما تقع عليه عينه التي تسع كلّ شيء .
للطفولة صورها التي لا تبحث عن الموضوع الواحد ، وللمراهقة صور أخرى لا تعرف الثبات حتى عندما تُشرق الشمس . لا حدود للبيت عندي . حيّ الفاضل كلّه بيتي .
إنّه يوم الجمعة ، وللجمعة نكهة أخرى في حيّنا تختلف عن سائر الأيام . تصل حافلة ركاب نصفها من الخشب ( بَسْت ) إلى ساحة الحي في هذا الصباح فتغادر معظم النساء والأطفال إلى عين ماء ( أبو زيدان ) في قرية الخميس . غادرت أمّي وأخوتي وظللت وحدي في البيت وفي حيٍّ خلا من الأطفال تقريباً . كنتُ أنظر للإسمنت الأبيض ( الجص ) الذي أحضره أبي لبعض الإصلاحات في البيت . اقتربتُ منه . تحسستُه . ماذا لو سكبتُ عليه الماء مادمت وحدي ؟ مرّت لحظات صار الإسمنت عجينا متماسكاً قررت أن أصنع منه جسد امرأة . لا أعرف لماذا اخترتُ المرأة ولم أختر الرجل ؟ تمثال جسد امرأة – على قدر فنيتي تلك الفترة – بدأ من منتصفها حتى الرأس . كان الصدر هو الذي يحدد عمّا إذا كان هذا التمثال امرأة أو رجلاً . الصدر هو الذي نميّز به المرأة عن الرجل في هذا العمر . انتهيت من العمل وانتهت رحلة أهل الحي عند المغرب . لم أنس ضرب أمي حتى الصباح . كان ذلك بعض الجزاء . والجزء الآخر تكسير أمي للتمثال الذي كان من خلق يدي طفل لم تتكلفا في صنعه فجاء كما يتمثل حقيقته .
أخرج إلى سوق قماش النساء بالمنامة لأبحث عن صورة طالما اشتقت للنظر إليها . صورة امرأة جميلة ، آلهة من آلهات الهند . على طاقية القماش الهندي توضع صورة هذه المرأة وتغطى بالنايلون الشفاف . وعندما تفتح طاقية القماش ترمى الصور لأجمعها في لحظة من أروع لحظات عمري . لا أفعل بالصورة غير الحملقة فيها وفي ألوانها .
أعود إلى الحيّ لأبحث عن صورة أخرى . صور آلهة بحرينية لا هندية . وقرب عين ماء ( بن حديد ) في حيّ الفاضل بالمنامة أستقر بجسدي لكن عيني في أوج نشاطيهما . كانت عين ينبع منها الماء كأنّه الروح وتنبجس منها أيامي وعمري القادم . كنتُ أذهب إليها وأرى نساءَ المنامة يحملنَ الماء منها على أكتافهن ورؤوسهن إلى منازلهن وقد سال بعضه على أيديهن وصدورهن شبه المفتوحة . كيف ستبدو الصدور التي تهتزّ عندما تسيل عليها المياه ؟ الجمال كلّه هنا وفي هذه الاهتزازة . ولا أنسى ذيل الثوب المرفوع أثناء مشيهن . هل تبرعمت الذاكرة البصرية وتهيأت لإنتاج الصور .. صورها ؟ أو هي حركة تذبّ في خلايا جسدي بعد بياتها الطفولي الطويل ؟
بين الماشية التي تربيها أمي في ساحة البيت بنيت أوّل مسرح في الحيّ كلّه . في هذا المسرح كان معي : خليل زباري ، وعلي تقي ، وجاسم زباري . صنعنا من أغطية مراقدنا ستارة للمسرح . ومن كتاب ” القراءة الرشيدة ” الذي حصلنا عليه من المدرسة نختار نصوصنا للتمثيل . يتجمع الأطفال بينما تدعو أمي بعض جاراتنا في الحيّ لمشاهدة المسرحية . نجرّ الستارة جرّاً . وإذا ما صادف مجيء امرأة قبل نهاية العرض تصرخ أميّ عليّ : ” يوسف ابدأ من الأوّل ” فنبدأ .
بدأت الرسم بإعلان من نادي المحرق ، يدعو مَنْ هم في سنّي ؛ لتعلم الرسم في دورة بإشراف الأستاذ متولي أحمد متولي الذي كان ضمن البعثة التعليمية . وبـ 25 روبية دخلت الدورة ، التي خصص لها بيت بجنب النادي . كنت أذهب إلى الدورة على دراجتي الهوائية وكان جسر المحرق لم يزل جديداً . وفي البيت كانت امرأة بحرينية تعمل خادمة فكنّا نطلب منها الجلوس أمامنا لرسم وجهها فقط ( بورتريه ) . كنا نتعلم كيف ننقل كتلة الوجه إلى الورقة . وعندما أعود إلى البيت بدراجتي الهوائية ، أجلس بالقرب من بقرتنا الصامتة دائماً في ساحة البيت ، ثمّ أبدأ في رسم رجليها . هذا الأستاذ خلخل أميتي في الرسم ثمّ أزالها .
قرأتُ في مجلة ( روز اليوسف ) المصرية إعلانات ، تطلب ممثلين جميلين . أرغب في الدراسة في مصر لكنّي لا أملك المال . أعطاني أحدهم يدعى ” علي ” من المحرق صورة بلجريف مستشار دولة البحرين آنذاك . فرسمتها بالقلم الرصاص ولا أظنّ أنّي أجدتها إلى حدّ كبير . فلم اتجاوز الخامسة عشرة . أخذت الصورة إلى محل ( خان باي ) وعملت لها إطاراً ( زجاج + ورق + خلفية من ورق الكارتون ) غطيتها بقطعة قماش ناعمة جدا تستخدم منديلاً ، ثمّ أخذتها إلى بيت المستشار جنب السفارة البريطانية بالمنامة . دخلت مكتب بلجريف فأرسلوني إلى سكرتيره واسمه (نارين ) . سألني عن هدف الزيارة فأريته اللوحة . كنت خائفا . سألني عن الشخص الذي رسمها فأخبرته . لكنه اتهمني بالكذب وسألني مرّة أخرى عن صاحب اللوحة . فحلفت له ( والله العظيم ) وكدت أصيح لولا أنه طلب كلّ أعمالي الأخرى ليقارنها بهذه اللوحة ثمّ يدخلها هو للمستشار . كما طلب مني عدم الكذب في المرّات القادمة وإلا سوف يضربني لذا لم أعد إلى المكتب مرّة أخرى . بعد سنوات أخبرني صديقي واسمه ” علي اليحي ” من المحرق كان يعمل لدى المستشار ، بأنّ اللوحة معلقة في بيت المستشار. والغريب أن المستشار لم يطلبني حتى الآن !!! لذا لم أحقق من هدفي شيئا .. السفر إلى مصر .
هكذا بدأ الرسم يأتيني فلا أرغب عنه ، ولا أراه غريبا عن التصوير بتلك الكاميرا القديمة جداً .أليس التصوير والرسم أخواين أُخِذَ أحدهما من ضلع الآخر ؟ لم يكن عندي فرق بين أن أكون مصوراً أو رساماً ، فأنا واللون والصورة شيء واحد .
بعد انتهاء عرض فيلم عنتر وعبلة في السينما أُزيلت نشرا ت العرض الورقية ورميت في الطريق فجمعتها ولصقتها على سطح بيتنا في حي الفاضل صورتها بكاميرتي الصغيرة ثم تمثلت نفسي طيرزان فخلعت ملابسي الفوقية وجئت أمام الملصقات وأخذت أصرخ مثل طيرزان وأضرب على صدري . كان الذين يدخلون عرض فيلم عنتر وعبلة أكثر من مرّة يعتقدون أن الممثلين يتغيرون في كل عرض ، فنسمع أحيانا مُشاهداً يقول لآخر ” ما تلاحظ إن عبلة صارت متينة الليلة ؟ ”
وإلى جنب الرسم ، والتصوير ، والتمثيل تعلمتُ عزف العود ، فكنتُ أصعدُ على سطح منزلنا بحيّ الفاضل بحيث يراني المارة في الشارع ويسمعون عزفي . .. لا تكفيني مهارة واحدة ، ولا تقنعني هواية واحدة ما دمتُ أنظر بعين واسعة كعين الطير المحلق .
في مستشفى الإرسالية الأمريكية ، كان كلّ واحد منّا ينتقل من قسم لآخر كلّ ستة شهور . من قسم المختبر – مثلاً – الذي يعمل فيه خليل زباري إلى قسم الصيدلة الذي يعمل فيه برهان الدين وهكذا . كان هذا النوع من التنقل يجعلني ألمّ بكلّ ما يحدث في كلّ قسم ، كما أنّه يؤمّن للمستشفى غطاء عمليا في حال غياب شخص ما عن قسم من الأقسام . انتقلت من قسم إلى آخر حتى جاء موعد دخولي قسم الأشعة والتصوير .
في هذا القسم كان أوّل لقاء لي بما يحدث بعد التقاط الصورة . هنا التقيت بأحماض التظهير(Developer ) ومعدات التظهير ، وتعرفت على الأفلام ، ورأيت خليل ردباري الذي يعمل في هذا القسم يحمّض أفلاماً خاصة به !!! أعجبني العمل في هذا القسم أكثر من غيره من الأقسام وخصوصا أنّي أتقنته جيداً .
في هذه الفترة أرسلني المستشفى في دورة دراسية في مستشفى (إسكدر ميمورل ) بقرية ( رانيبت ) في الهند . بعد الدورة انتقلت إلى ( بومبي ) والتقيت بشخصين هما : عبد الله اليماني وحامد اليماني . فسهرت معهما عدّة مرات عند المهراجات الهنود لأعزف لهم العود . وقبل رجوعهما إلى البحرين طلبت منهما أخذي إلى الفنانين الهنود ، فأخذاني إلى استوديوهات إنتاج الأفلام الهندية . قدمني عبد الله لهم متدرباً فقبلوا ذلك . كنت آتي الصبح للأستوديو قبل فتحه وأنتظر في المطر أحياناً . اكتسبت خبرة جيدة هناك بعد شهر ونصف في بومبي . وقد بدأ الذي شهادته في الهند يعمل بخفاء في تجربتي الفنية وفي فرشاتي . فأكثر ما ظهر ذلك في عمل ديكورات المسارح .
لكن الصورة وما أدراك ما الصورة ، لا تبتعد عن مخيلتي وعيني . فبعد عودتي إلى المستشفى قررت بناء غرفة مظلمة ( Darkroom) في بيتنا بحيّ الفاضل ، واستعمال كاميرا خشبية الجسم (Camera box ) أمّا التحميض فسوف يكون في المستشفى !! بدأت العمل . بعد ذلك نقلت بعض مواد التحــــميض (Developer ) من المستشفى إلى الغرفة المظلمة في البيت . لم يكن هناك مادة تحميض جاهزة بل لا بدّ من خلط خمس مواد كيماوية لتحصل على مادة التحميض (Developer ) . وهذه الحال موجودة في الصيدلة أيضا فالأدوية لا تأتي جاهزة .
بدأت التحميض لمجموعة أفلام في البيت فنجحت في ذلك . ولك أن تتصور الحالة التي كنت فيها آنذاك . لم يبقَ عليَّ إلا طباعة الصور الآن . اشتريت ورق ( Elford) من محل فكتور مراد وهو بحريني من أصل يهودي وموقع محله سابقا هو موقع تشاردر بنك الآن بالمنامة . صرتُ أطبع الصور لأوّل مرّة خارج المستشفى . صار الناس يأتوني البيت لأصورهم . وأعتمد في ذلك على إضاءة الشمس حتى إذا جاءت الكهرباء في حيّ الفاضل استخدمت الإضاءة ومصباحا مغطىً بقرطاس أحمر في الغرفة مظلمة . ها أنا أمارس ذلك الذي شغفني حبّاً .. أمارسُ التصوير الفوتوغرافي .
وبخفاء تام لا أشعر به تسرّب ما درسته في مادة ( Autonomy ) في التصوير الفوتوغرافي فأخذت أهتم كثيرا بحركة الجسد ووضعه أمام الكاميرا ، كذا وضع الرأس وإخفاء بعض مظاهر الجسد غير المرغوبة مثل الأنف الكبير .
لم أتوقف عن ممارسة التصوير في المنزل ، وبعد فترة ستة شهور تقريباً بدت طاقتي وطموحي في التصوير أكبر من إمكانيات الكاميرا التي عندي . صرت أراها كأنّها كاميرا أطفال فذهبت إلى محل يُسمّى ( جنجيرا ) وموقعه موقع فندق العاصمة الآن بالمنامة . كان عمري 17 سنة تقريباً . طلبت منه شراء كاميرا فشكك في مقدرتي على التصوير ، بعد ذلك وافق على بيعي إحدى كاميراته التي يستعملها في المحل . وقبل أن تنتقل الكاميرا إليّ صورني بها آخر صورة . لم أستطع تغطية المبلغ المطلوب فذهبت إلى الطبيب استورن وطلبت منه قرضاً سددته من راتبي في المستشفى الذي صار 90 روبية تقريباً . لكن الدكتور استورن لم يكن يعرف لم هذا القرض !!
قبل أن أنقل الكاميرا دربني عليها جنجيرا جيداً . كانت صورها رائعة جداً وفيلمها من نوع ( Cut ) وليس ( Role ) ومقاسه 5 X 7 . وهي تعتمد على إتقان مستخدمها إلى تحديد الوقت المناسب للتعريض ، فزيادة التعريض أو إنقاصه سوف يفسد الصورة .
استلمت الكاميرا في فترة ألزمت الحكومة فيها مجموعات من الكويت وإيران والسعودية وعمان ، وضع صورهم في تأشيرة الدخول لممارسة الغوص واستخراج اللؤلؤ. كان البحرينيون يطلقون على الإيرانيين اسم ( التنكسير ) في فرضة المنامة . طرأت عليّ فكرة فتح محل للتصوير ( استوديو ) واستخدام هذه الكاميرا الجديدة فيه . بعد أيام من التفكير استأجرت محلاً مقابل محل ( جنجيرا ) بالمنامة . عملت خلفية لمكان التصوير ، وإضاءة كهربائية . جلبت بعض المصابيح الكبيرة من موقع الجيش البريطاني في المحرق بعد عرضها للبيع . أوصلت أحد المصابيح بالكهرباء ثمّ أدرته لأرى كمية الإضاءة فيه ، وهنا حدث تماس كهربائي فسرى التيار في جسدي وأحسست أني غير قادر على الابتعاد عنه . ولقصر السلك انقطع فتوقف التيار . أغمي عليّ فرشّ بعضهم ماءً على وجهي . ظللت أسبوعا أعاني من التيار .
ونظراً لكثرة الزبائن لم تكن تلك الكاميرا تسعفني كثيراً ؛ لذا اشتريت كاميرا ( Roalflaks) يحتوي فيلمها على 24 صورة . وهي أفضل كاميرا في تلك الأيام ولم أرَ بوضوح صورها حتى اليوم ، ثم اشتريت كاميرا ( Linhofe ) وكنت آخذ على الصورة 300 فلس . ونظراً لكثرة عملي في الأستوديو بدأت أتغيّب عن المستشفى الأمريكي . أحيانا أحضر المستشفى لكني أغادره بعد مرور بعض الوقت !! صاروا يبحثون عنّي في أرجاء المستشفى ولم يمضِ من الوقت كثير حتى عرفت إدارة المستشفى سرّ تغيبي هذا .
وفي يوم لم يكن بهيجا كثيراً دخل عليّ أحد الزبائن ولم أصدق أنّه كان الدكتور هارسن ، أمريكي الجنسية وهو قس أيضا وأستاذي في المستشفى . دخل عليّ الأستوديو وأنا أصور .
– يوسف ؟
– نعم ؟ ( بخوف )
– ماذا تفعل هنا ؟ لماذا لا تحضر نوباتك في المستشفى ؟
– دكتور .. تعال إلى هنا ( أخذته إلى مكتب المحاسبة فتحت درج الأموال ) انظر دكتور كم حصلت من مال ؟
– ما هذا ؟
– هذا من عملي الجديد في التصوير
– أوه !!
– أنتم تعطوني 90 روبية فقط
– هذه أموال كثيرة عندك
لم يرضَ عني الدكتور حتى ذهبت المستشفى اليوم التالي ، فوجدته هادئاً ومزاجه أفضل ما يكون . جلست جواره فوضع يده على رأسي وأخذ يدعو لي ويباركني . طلب مني أن أعاهده بتلبية نداء العمل في المستشفى وقت الضرورة فواعدته على ذلك . لقد صلى عليّ بمسيحيته وكنت أستشعر البركة في صلاته لأنّه لم يغضب عليّ كما توقعته . أما الدكتور إستورن فقد غضب عليّ وأنبني وذكّرني أن المستشفى علمني وصرف عليّ الكثير من النقود !! وطلب مني الرجوع حالاً وترك الأستوديو . و بعد فترة طويلة سافر خليل ردباري مسؤول التصوير في المستشفى فطلبني الدكتور إستورن للعمل مكان خليل فوافقت على ذلك .
بعد فتح أستوديو أوال جاءني رجل هندي الجنسية صار صاحــب محل ( Smart ) بعد ذلك . قال لي : ” أنا جئت من الهند لأفتح محلاً للتصوير ومتعلقاته ” كان يودّ فتح المحل بقرب أستوديو أوال وفي الشارع نفسه وكذلك الاستفادة من الديكور الذي أعجبه في هذا الأستوديو . وعندما فتح المحل طلبت منه إحضار مجموعة أصباغ من محل ( خان باي ) في المنامة . عملت له خلفية عبارة عن غيوم ففرح بذلك . لم يهمني أن يفتح بجنبي مع أنّه أجنبي ولم أعاده ، لأنّه لن يتغلب عليّ ، كما أنه سوف يحدث مقارنة بيني وبينه وهذا يجعلني أكثر انتباهاً ومنافسة .
استمرَّ استوديو أوال في العمل ، وهنا لابدّ من العقبات . إذ بدا التصوير في أستوديو أوال غير مقبول لدى التاجر حسين يتيم الذي يقع مكتبه في شارع الأستوديو نفسه . كان حسين يتيم يخرج من مكتبه ويقول ( يوسف اترك عنك ها التصوير .. بنات يأتون إليك وأنت رجل شريف ولد ناس ولد أوادم بتخرب سمعتك .. لا تضع نفسك في مثل هذه الأمور ) كنت أحترمه كثيرا على الرغم من تقارب العمر بيننا .. وإلى جنب الاحترام كان هناك خوف أيضاً .. صار الأستوديو عندي كالنار لذا رأيت إغلاقه . كان هو المعارض الوحيد الذي التقيت به في البحرين ولم يحدث أن عارضني أحد غيره هنا . لكن ثمّة معارضة أخرى أشد في المنطقة الشرقية أسردها في المكان المناسب .
لقد حصلت على حرية كبيرة في التعبير في عائلتي ، وهذا الذي جعلني أنظر إلى الأشياء بعين طير محلق ، وأدخل في فنون عدّة دون عقبات أو إحباطات من العائلة . فالحرية تشعل الإبداع في أوسع آفاقه .
من مدينة الخبر بالشرقية ، كان مقاول البناء حسين العليان يزور البحرين دورياً . وفي كلّ مرّة يأتي يطلب مني أن أعزف له وأغني أغنية ( الجندول ) لمحمد عبد الوهاب . أخبرته بأنّي سوف أغلق أستوديو أوال ، وعرضت عليه فتح الأستوديو في الخبر فرحّب بي . وبعد أن حصلت على محل للإيجار قال لي بأنه يفضل ان أفتح الأستوديو بالقرب من المكتب الذي يستخرج البطاقة السكانية للمواطنين السعوديين العاملين في شركة أرامكو الحديثة التأسيس آنذاك . وكانوا يسمون هذه البطاقة بالورقة الحمراء . فتحت أستوديو في دكان كان وقفا لمسجد هناك . بدأ العمل نشطا ولا ينتهي ، كما أن الكهرباء مجانية من أرامكو . هناك حمل المحل اسم ( أستوديو الظهران )
ونظراً لكثافة العمل كنت أعود كلّ مرة البحرين لأشتري أدوات عديدة وكثيرة من ورق وأفلام ومواد تحميض من محل ( شكيب ) بالمنامة . وقد عمل في هذا الأستوديو الكثير من البحرينين الذين علمتهم التصوير مثل : شاهين العماري ، محمد سعد ، سالم الداريني ، محمد ونوح وهما أخوان ، عبد الله جابر ، جاسم ( … ) ، خليل إبراهيم ، أحمد بو حسيّن ، عثمان البلوشي ، أحمد الضاعن ، يوسف أحمد عبد الله ، وغيرهم لا أذكر أسماءهم الآن .
لم يتحمل مبنى الأستوديو طاقة العمل فوسعت البناء بعد تراخيص رسمية . وجعلته طابقين : العولي سكن للعمال والسفلي أستوديو الظهران . بعد ذلك فتحت فرعاً في الأحساء وجعلت فيه جاسم ( … ) .
في أستوديو الظهران مارستُ الخدع في التصوير الفوتوغرافي . جاء شخص ذو وجه يمكن أن نتصور فيه الشيطان لو عملت عليه بعض الخدع . طرحتُ عليه الفكرة فوافق بسرعة . عندها أجلسته وجعلت مصباحاً عند قدميه بحيث تسطع الإضاءة في وجهه من الأسفل ، أي أن الإضاءة تبدأ من أسفل الأنف فقط ! وهكذا العينين بعد أن غيّرت تسريحة شعره واتجاه شعر الحاجبين . ظهرت الصورة أبشع من الشيطان لو تخيلناه . بعدها انتفح هذا الباب وتنوعت رغبات الزبائن ، حتى أن بعضهم رغب في التصوير بجانب بعض الملوك !!
بدأت مشكلة أخرى وهي رغبة الناس في الحصول على صورهم في الحال . كانت هناك آلة تصوير تسمى ( Photomaton) تأخذ الصورة وتجهزها في الحال . لم تكن هذه الآلة موجودة في الخليج فذهبت إلى العراق وذلك لتقدمها في التصوير في تلك الفترة . لكني لم أجدها في العراق !! فعدت إلى البحرين أفكر في الحل . وعندما وجدته كان حلاً جزئيا . أصور الشخص وأطلب منه أن يأتي بعد نصف ساعة . أغسل الفيلم وأطبعه على زجاجة بعد أن أضع عازلاً من ورق الجلاتين الشفاف حتىلاتصل الرطوبة إلى الزجاجة . بعدها أضع الزجاجة على الورق وألصق الصورة وأسلمها للشخص وهي رطبة في نصف ساعة تقريبا . لم يعرف أحد هذا الاختراع . عدت للعراق مرة أخرى فلم تصل الآلة بعد فقررت السفر إلى بيروت وبحثت عنها في جميع الأستوديوهات هناك حتى دلني أحدهم على استوديو في ساحة الحمراء فلما وصلت رأيت آلة كبيرة جداً وقديمة قال لي صاحبها هذه هي الفوتو موتون ( Photomaton ) ولا يوجد غيرها في لبنان وأنها ليست للبيع . طلبت منه أن يصورني ففعل . سمعت صوتاً غريبا ثم إضاءة . كأنّي عرفت الطريقة فصممت غرفة مشابهة لآلة (Photomaton ) تخرج منهاعدسة ومصباحين ، ويتم التحميض داخل هذه الغرفة واستخدام التقنية نفسها التي كنت أستعملها من قبل لانتاج الصور السريعة . وهكذا تحققت هذه الآلة محليا !!! . لقد تغلبت على معوقات كثيرة في التصوير وكنت لا أمل من تحقيق الهدف دون كسل أو تراجع .
في سفري أحاول دائما البحث عمّا ينمّي هواياتي . وفي تلك الفترة كانت هوايتي التصوير الفوتوغرافي . في ساحة البرج في بيروت دخلت عند مصور فوتوغرافي وسألته عن كيفية استخدام أقلام الرصاص وغيرها من الأصباغ في التعديلات على السلبية ( Negative ) مثل توزيع الإضاءة بأقلام رصاص خاصة بتدرجات لونية مختلفة ، وسائل يسمى ( Retching) .
أرسلني هذا الشخص إلى أخيه في مكان آخر . كان هذا الشخص اسمه ( أنطوان ) واسم محله (R . X) عملت عنده شهراً كاملاً كل صباح . علمني العمل على السلبية وعلمني الإضاءة عملياً وعملية التناسب بين الإضاءة وشكل الوجه المراد تصويره .
من الزبائن الذين تعاملت معهم في استوديو (R . X) فتاة لبنانية جميلة جدا فقلت : سبحان الخالق . فقالت : ماذا تقصد ؟ عندها شرحت لها قصدي ، فعرضتْ عليّ الزواج فوافقت ، لكنها سألتني : عندك منزل ؟ عندك سيارة أمريكي ؟ فقلت لها : لا . فقالت : ما تساوي شيئا . بعد ثلاث سنوات تقريبا رأيتها متزوجة في الدمام !!! لقد حققتْ ما أرادتْ !!! .
بعد أن أتقنتُ الإضاءة ، طلبتُ منه تعلم تلوين الصور فوافق على ذلك . كنت آخذ مجموعة من صور الأبيض والأسود لتلوينها في النزل الذي كنت أسكن فيه فكان ينقد تلويني ويقدم تعليقاته عليه .
وفي إحدى سفراتي إلى لبنان ذهبت إلى فنان تشكيلي ومصور فوتوغرافي لبناني قدير ، كبير في السن يسمى ( فاهي ) الذي اشتهر ببراعته في تصوير البورتريه حيث ترىالإضاءة صوره ناعمة جداً . وهو غالبا ما يستعمل اللون الأسود القريب من البني بدلاً من الأسود . قلت له : أنا من البحرين وأودّ أن أتعلم التصوير . فاعتذر لكبر سنه ولانشغاله بفنه الذي لا يتركه إلى غيره . لذا أحسست بالخسارة فكنت أذهب كل يوم لأرى الصور المعروضة وتمنيت أن أصل لهذه المرحلة .
تغيّر إمام المسجد الذي استأجرت الوقف منه . جاءني إمام آخر وقال : ” العمارة لك على العهد لكن عليك إغلاق الأستوديو والتصوير لأنّه حرام ” لم أقبل منه ذلك . لكن سرعان ما قُطعت الكهرباء عن العمارة كلّها !! أعدت عليهم العمارة وعدتُ إلى الدمام حيث فتحت محلا جديدا يحمل اسم أستوديو الظهران أيضا . عملت في الدمام طويلاً . وإلى جانب التصوير مارستُ عمل انتاج بطاقات العيد والأفراح تتضمن صورة الزوج أو صاحب الطلب .
ولكنني وبعد أن وضعت إعلاناً على محلي في الدمام – وهو عبارة عن صورة شخص بلباس للركبة ( Short ) يقوم بعملية تصوير شخصٍ آخر أمامه ، إذ كان المصور في اللوحة يبدو غربيا بهذا اللباس – جاءتني هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك بعد نشر مقالة هاجمتني في الصحافة ، وطلبت مني إنزال الإعلان ففعلت فكسّروه أمامي . وأُخذ عليّ تعهد بأن لا أعود لمثلها .
في عام 1957قررت ترك السعودية . أغلقت الأستوديو في الدمام وأهديت محليّ في الأحساء لجاسم الذي تزوج هناك وأنجب . سألت عنه بعد عشرين سنة في الأحساء فقالوا لي قصة مجيئه وزواجه وأولاده ، وأنه مات من زمن .
الكويت كانت محطتي الأخيرة في التصوير الفوتوغرافي . مارستُ التصوير هناك نشاطاً مع الفرقة الكشفية . هذا هو آخر عهدي بهذا الفن الرائع . بعدها لم يبقَ سوى مجموعة صور كبيرة جداً مزقتها زوجتي بعد الزواج مباشرة ولم تُبقي لي سوى الصور التي كنتُ أنا فيها . قالت عن الصور التي فيها فتيات ” صور سرسرية ” . فجأة هكذا تُصبح ذاكرتي البصرية بلا مرجع خارجي . وسيرتي في التصوير كان معظمها في تلك الصور . هل كان من الضروري أن أبقى بدون تلك الذاكرة ؟
أرى الفنَّ مثل عين الطير . لماذا أحببتُ أن أكون ” عين الطير ” ؟ لماذا لم أختر فنا واحدا وأتخصص فيه وأنبغ ؟ وضعت الفنون أمام عيني متدرجين فرأيت خصائص كل فنّ من هذه الفنون وأخذت أحلل فيه . وهنا برزت لي علامة كبرى تشير لي بأن ” الفنون كلها فنّ واحد ” ورأيت أنّي لا أمارس فنون متعددة بل فنّا واحداً . فالتصوير الفوتوغرافي – مثلا – فيه نور وإضاءة بل اعتماده أصلا على النور . وفيه كتلة ، وفيه مقدمة أمامية ( Foreground ) ، وخلفية ( Background ) وربما فيه شخص ، وفيه فضاء ، وزمن الصورة ، والزمن الذي أخذت فيه الصورة . ولو رجعنا إلى الموسيقى لوجدنا فيها زمن ، والخلفية في الصورة هي السكتة في الموسيقى . وفي الموسيقى نجد الهارموني الذي يقابله الألوان في الكاميرا وهي درجات . فعندما تركز إضاءة عود كبريت على الوجه وتقتم باقي الجسد والخلفية فإننا سنحصل على صورة صفراء لوجه واضح . بالإضاءة تستطيع أن ترى الكثير من الألوان وتدرجاتها في التصوير الفوتوغرافي وبدون ألوان أخرى ؟؟! من هذا الذي مرّ رأيت التصوير الفوتوغرافي والموسيقى قريبين جدا ومتداخلين أيضا .
وفي المسرح نجد الفضاء أو الفراغ الذي يتحرك فيه الممثل . ولا بد من أن يكون تكوين المسرح وديكوره وأثاثه تساعد على رفع معنويات الممثل ، وعلى توصيل الرسالة إلى المتلقي وهو الجمهور ، وهو يقوم بوظيفة الفراغ في الصورة تقريبا . في المسرح يكون الممثل هو الموضوع الذي تتبعه العيون ، وهذا ما يحدث عندما نركز على وجه في الصورة الفوتوغرافية . مرة أخرى نرى الفاعل ، والفراغ ، والأمامية والخلفية ، والزمن ، والحدث ، والمكان ، والموضوع . ولأنّ المسرح كما يقال ” أبو الفنون ” فهو يجمع الموسيقى ، والتصوير وغيرهما من الفنون . رأيت أنّي لن أقدم ديكوراً ممتازاً للمسرح ما لم أتعلّم الموسيقى .
ها أنا أخيراً أترك الموسيقى والتصوير من أجل أوّل ما عرفته في الفن .. إنّه الرسم . على الرغم من أنّي أعرف أن الفنون التشكيلية لن تدرّ عليّ نقوداً .. .. الفنّ كتلة من حضارة الإنسان .. انتقلت من جيل إلى جيل ومن حضارة إلى أخرى .. أنا رأيت الفنون مثلما يرى الطير المحلق الأرض من أعلى . في هذه الحالة إنّك لا ترى شيئا واحدا فقط ، كما أنك لا تراه من جهة دون أخرى . وفي التصوير الفوتوغرافي تسمى عين الطير ( Aye Beard ) . درست الفن دراسة غير أكاديمية بل فلسفية تطبيقية ، بالإضافة إلى النظر في فنّ الفنانين الكبار والاستفادة منهم . وبذلك أكون قد فتحت كل الأبواب أمامي . سافرت معظم دول العالم : فرنسا ، إيطاليا ، الهند ، العراق ، المغرب ، مصر . في معظم سفراتي كنت فيها مشارك أو متحدث في تخصصي وهذه كانت فرصة لي للقاء الفنانين الكبار.
هذا هو يوسف قاسم …
لم يبقَ لي من التصوير غير زيارة معارضه . ولم يبقَ لمَنْ هم خلف الكاميرا شيء يُذكر . صارت الكاميرا اليوم هي التي تنتج كلّ شيء ، و صار المصورون أسرى الدوائر الإلكترونية في هذه الكاميرات .
حسين المحروس
المنامة – النُعيم
عَينُ الطَير هذا النصّ مستمدّ من عشرات الأسئلة التي حاورتُ فيها الفنان يوسف قاسم ، في جلسات فاقت العشر بمكتبه بالرفاع الشرقي في المدّة بين مارس 2001م و مايو 2001م ، ثمّ قمتُ بإعادة كتابتها على هذا النحو ، بعد أن تمثّلتُ هذه الشخصية وتمثلتُ أماكنها وأزمنتها ، واستشعرت أحاسيسها.. |
يُوسف قَاسم
|