ثورة أون لاين- ناديا سعود:
حين نتحدث عن فاتح المدرس, فنحن أمام فنان وأديب رائد في كل شيء , وواحد ليس من اشهر فناني سورية والوطن العربي , إنما العالم كله , ترك بصمته الواضحة الجلية في الفن السوري والعالمي , ولوحاته مقتناة في متاحف العالم , فاتح المدرس المبدع الذي يبقى حضوره اقوى من أي غياب كتب عنه الفنان فائق دحدوح في الموسوعة العرية مادة غنية بالمعلومات , يقول دحدوح :
ولد فاتح عام 1922 في قرية حريتا الواقعة شـمالي سورية بالقرب من مدينة حلب، وسط بيئة فلاحية
تجمع مزيجاً من العرب والكرد والتركمان، وكان والده عربياً ينتمي إلى عائلة
المدرّس المعروفة بنفوذها الإقطاعي وكانت والدته كردية، عاش معها طفولة شقيّة
محرومة، متنقلاً في قرى الشمال عند أخواله بعد مقتل والده، مما ترك أثره في وجدانه وسلوكه الاجتماعي وإنتاجه الفني والأدبي، غادر المدرّس حياة الريف وهو في الثامنـة من عمره، ليقيم عند أعمامه بحي الفرافرة بحلب، وهو حي يضم مجموعة من العائلات الأرسـتقراطية، لكنه فضّل الإقامة مع والدته في أحد البيوت البسيطة في حي باب النصر. وحين دخل المدرسة الابتدائية، اكتشف أستاذ الرسم شريف بيرقدار موهبة الرسم لديه، واستيقظت ميوله نحو الموسـيقى والشعر والقصة والرحلات. وفي مدرسـة التجهيز الأولى (ثانوية المأمون) تعرَّف أساتذة الفنون: منيب النقشبندي وغالب سالم ووهبي الحريري وأخذ عنهم المبادىء المدرسية لفن الرسم والثقافة الفنية.
وفي مطلع الأربعينيات من القرن العشـرين، غادر المدرّس حلب إلى لبنان ليتابع دراسته في الكلية الأمريكية، وقد درس اللغة الإنكليزية التي كانت وسيلته للاطلاع على الأدب والفن العالميين، بما في ذلك الاتجاهات الفنية الحديثة، وتعرف على ثلة من المثقفين اللبنانيين مثل مارون عبود الذي أسهم في تحرير وعـيه الثقافي.
وحين عاد إلى حلب عمل مدرساً للغة الإنكليزية والتربية الفنية في ثانويات حلب، وبدأت مشاركاته الفنية في الرسم تظهر إلى جانب عدد من الفنانين الرواد، كما ظهرت مساهماته الأدبية في الشعر والقصة التي كان ينشرها في الصحف والمجلات السورية، (قصيدة الأمير- مجلة القيثارة – اللاذقية)، وتعززت علاقته بالشعراء والأدباء مثل: عمر أبو ريشة وأدونيس والمخرج سليم قطاية والناقد سلمان قطاية.
وقد كانت لوحاته السريالية المعروضة في واجهات المكتبات في شارع بارون بحلب تستوقف المارة لأنها تحمل مفاهيـم جديدة لم تكن معروفة آنذاك، وفي عام 1952 شـارك في المعرض الرسمي الذي أُقيم في دمشق إلى جانب أبرز الفنانين السوريين، ونال الجائزة الأولـى في التصوير عن لوحته «كفر جنّـة»
التي عدّها النقاد وقتئذ في طليعة الأعمال التصويرية في الفن السوري المعاصر.
وفي عام 1954 وضع المدّرس مؤلفاً من ثلاثة أجزاء
عرض فيه (موجـز تاريخ الفنون الجميلة) وكان ذلك مقدمة أفاد منها في دراسته الفنية
في أكاديمية روما عام 1956 حيث اختار محترف الفنان الإيطالي جنتليني الذي ترك أثره في منهج المدرس التعبيري الميتافيزيقي، ولاسيما في جوانبه المعمارية، وإيقاعاته التكوينية، ودرجات إشراق ألوانه. وهناك في روما التقى المدرّس المفكرَ الفرنسي جان
بول سارتر الذي ترجم له بعض قصائده إلى الفرنسية، كما التقى مجموعة من
المثقفين العرب والغربيين. وفي معرض حديثه عن دراسـته في روما يقول المدرس: «إن زيارتي لأوربا قد قلبت مفاهيمي نحو تركيز جهودي في أسلوب واحد معين. وقد خلصت من تجاربي كلها أن على الرسام المحب لوطنه أن يعمل على بلورة مفهوم الفن في بلاده، في طابع أصيل يمت للتاريخ والتقاليد، فليس هنالك فن بلا واقع أو تقاليد عميقة الجذور، وكل هذا يجب أن يتماشى مع أحدث المفاهيم العالمية».
نال المدرس الجائزة الأولى في معرض أقامته
أكاديميـة الفنون الجميلة في روما التي تخرج فيها عام 1960، وعاد إلى دمشق ليتخذ له محترفاً للرسم وسـط المدينة، ويُعيّن معيداً في كليـة الفنون الجميلة بدمشـق
عند إحداثها عام 1961، وقد كان لقدومه الكلية وقع خاص لدى تلامذتها الذين رأوا فيه فاتحاً لعهد جديد في الفن السوري، فقد أخذ يحرر أذهانهم من المفاهيم التقليدية،
ويفتح أمامهم آفاقاً جديدة، تعتمد الحرية في التعبير واستخدام الأدوات والوسائل
المستحدثة والمبتكرة، مما ترك أثره الواضح في جيل الفنانين الذين اختطّوا لأنفسـهم اتجاهات جديدة في المسار الإبداعي.
أما مُحترف المدرس الذي تحدث عنه كثيرون مثل: فائق دحدوح وأسعد عرابي فقد كان له دور مهم في إغناء تجربته وغزارة إنتاجـه، وذيوع شـهرته، من خلال احتكاكه بالأوساط الثقافية والإعلامية، فقد كان خلوة للفنـان يفرغ فيها ما تجود به قريحته، وسـرداباً يصل بين عالم الوعي الخارجي وعوالم الإبداع المدهشة بما فيه من ملامح وأدوات ومجالس كانت موئلاً للعديد من الفنانين والأدباء والمثقفين والمريدين الذين سحرتهم عوالم المدرس وطقوسه، وجرأته في فنه وحديثه.
ومن هذا المرسم خرجت آلاف اللوحات الصغيرة والكبيرة، الزيتية والمائية، التي تحمل توقيع فاتح المدرس الذي أقام عشرات المعارض الفردية في سورية والأقطار العربية والعواصم الغربية والولايات المتحدة وكندا منذ عام 1947 حتى عام 1997، إضافة إلى مشاركته الدائمة في المعارض الرسمية والجماعية
التي نال فيها كثيراً من الجوائز العالمية منها:
(الجائزة الأولى لأكاديمية روما 1960 ـ الميدالية الذهبية لمجلس الشيوخ الإيطالي 1962ـ جائزة شرف بينالي سان باولو 1963 ـ جائزة الشراع الذهبي للفنانين العرب في الكويت 1977 ـ جائزة الدولة للفنون الجميلة بدمشق 1986ـ جائزة الدولة للفنون الجميلة في الأردن 1992 ـ وسام الاستحقاق السوري 2005)
أقام المدرس معارض عدة مشتركة، منها المعرض الذي أقيم في روما عام 1972 ، ومعرضاً مشتركاً مع لؤي كيالي في متحف حلب 1976، واقتُنيت أعماله من قبل عدد من الشخصيات العربية والعالمية مثل: جان بول سارتر والرئيس الفرنسي جاك شيراك .
تابع المدرس دراسته العليا في أكاديمية الفنون
الجميلة في باريس، ونال الدكتوراه عام 1972، وعُيِّن أستاذاً للدراسات العليا في
كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1977، وكان عضواً مؤسساً في نقابة الفنون الجميلة
في سورية، ثم نقيباً لها مدة أحـد عشـر عاماً، وقد حفلت حياتـه بعدد من الأنشـطة
الأدبيـة إلى جانب إنتاجـه التصويري الغزير. ففي عام 1962 أصدر مع شريف خزندار ديوان «القمر الشـرقي على شـاطىء الغرب» باللغتين العربية والفرنسية، كما أخرجت السينما السورية ثلاث قصص له في ثلاثية بعنوان «العار» (1973)، وصدرت له مجموعة قصصية بعنوان «عود النعنع» (1981) وديوان «الزمن السيئ» مع صديقه حسـين راجي (1985). وقد كانت كتاباته الشعرية تميل إلى السريالية، في حين كانت قصصه تحمل ملامح الواقعيـة النقدية. أما إنتاجه التصويري فقد كان يتأرجح بين التجريد والتشخيص. فاللوحة عند المدرس ترجمة آنية لمجمل معارفه وهمومه وهواجسه، وهي تخرج دفعة واحدة عبر شحنة انفعالية قوية، تتزاحم فيها الصور، وتتكاثف الرؤى، وتنهمر العواطف والمعارف مشكلة شلالاً من الأشكال والألوان التي تفصح عن موقف إنساني ممزوج غالباً بعناصر الطبيعة والحياة. وقد كوَّنت البيئة الريفية التي عاشـها في طفولته مع أمه وعماته رافداً مهماً في مسيرته الإبداعية، بما في ذلك من مفاهيم شرقية وعقائد، وأسـاطير محلية ومفاهيم اجتماعية وإنسانية، باتت تؤلف مخزوناً كبيراً في ذاكرته التي تفاعلت مع كل الثقافات المحلية والعالمية، وفي ذلك يقول: «بإمكاني أن أعترف أنني لم أستعمل مؤثراً واحداً داخل ذاكرتي بعد سن التاسعة، وليست دراساتي الطويلة وتجاربي سوى عملية تكنيس وتنظيف لاتساخ الذاكرة».
كما أصبحت القضايا الإنسانية والوطنية محاور إنتاجه، بما في ذلك قضية فلسطين ونكسة حزيران والحرب الأهلية في لبنان وغيرها من الأحداث القومية.
ولعل من أبرز أعمالـه: «التدمريون» (60× 90سم)
محفوظة في متحف حلـب (1973) و«العشـاء السـري وصديقي محمد محفل» (200×90سم) محفوظة
في متحف دمشق و«انطباع حرب حزيران» (1972) و«التيس عاشق القمر» (50×70سم) ألمانيا
(1970) و«أطفال فلسطين» (50 ×70سم) روما (1959).
وتعد لوحة «التدمريون» نموذجاً لإنتاجه، فهو يصور فيها ملامح لرجال أسطوريين، وآلهة الخصب، بإحساس فطري رفيع، وخطوط عفوية واضحة تكسوها ألوان تحاكي في توضعها وبنيتها ومناخاتها ألوان الأرض التي تزخر بها تدمر في حمرتها وسمرتها، عبر أشكال تشبه الدمى المضغوطة التي كانت تصنعها النسوة في الريف السوري من الخِرَق المتعددة الألوان.
وتبدو القدرة التعبيرية الجامحـة في لوحة المدرس منبثقة من ذاك الصراع القائم بين الخطوط التي تتشكل في خلايا اللوحة، وبين المساحة المتولدة من علاقة الأشكال المنجزة، إذ يتجدد الرسم مرة إثر أخرى كلما حاولت المادة المشحونة بالانفعالات الإغارة على الخطوط وإغراق معالمها بهيجان اللون، وتوقيعات الفرشاة المعربدة.
اكتسبت لوحة المدرس مكانتها من شخصية مبدعها المفتونة بروح المغامرة في اقتحام عالم الذاكرة وتحرير مكنوناتها الدفينة بأداة فنية متوهجة، وبذلك استحق شهرته الواسعة، ومكانته السامقة في التشكيل السوري والعربي، فلا غرابة أن تصدر عن تجربته مجموعة من الكتب المصورة وعشرات الدراسات التي تعرض نتاجه، وتتحدث عن تجربته المتفردة.