«بسام جبيلي» الفنان التشكيلي النحات والمصور الذي يعطيك انطباعاً يصعب وصفه وحالة روحية عند مقابلته والحديث معه، سعى دائماً إلى تصوير الجمال بكل جوانبه الحسية واللاحسية, وهو من مواليد مدينة «حمص» عام /1946/ نشأ وترعرع في حي «الحميدية. وهو المحب لمدينته ,المفتون بسحرها الذي لا ينتهي ، يحمل إجازة في العلوم الاقتصادية درس الفن دراسة خاصة ويمارس التصوير والنحت ,له معارض في جرافيك الكومبيوتر و فيديو التحريك.
التقينا به ليحدثنا عن تجربته الفنية الغنية , سواء في الرسم أو التصوير او النحت … وبدأ حديثه معنا عن البدايات ..
البدايات
البدايات الأولى بالنسبة لي كانت مع الطفولة حيث التأثير الهام والأساسي للبيت والمدرسة والشارع يترك أثره فينا ما دام الطفل داخلنا ينمو و يطرح الأسئلة ,إنها مرحلة تنمية واختبار لحواسنا البصرية السمعية تلمسا واكتشافا , والبحث عما يسر ويبعث النشوة أثناء اكتشاف عالمنا الصغير , هذا العالم السحري غير المألوف ثنائي الأبعاد الذي هو عالم ورقة الرسم والألوان عالم من الحبور خال من الصراع منساب يعتمد على الذاكرة المعاشة الطازجة لا على الرؤية المباشرة للأشياء , لعل هذا الطفل المغامر المشاكس الفضولي هو من يرافقنا في رحلة الفن الطويلة ، يبدو أنني كنت محظوظا بأسرة صغيرة , ومناخ بيتي ملائم لتنمية وتشجيع علاقتي بالفنون , فوالدتي كانت ترسم , والألوان متوفرة وموجودة في كل مكان , وخالة أمي من الرسامات الأوائل في مدينة حمص كانت ترسم الزهور والمناظر الطبيعية على طريقة بداية القرن الماضي , وتعزف وتعلم العزف على البيانو . اعتقد ان عشقي وحبي للفن كانت بذرته الأولى ناتجة عن مراقبتي لقريبتي وهي ترسم وأنا جالس قربها بالساعات دون حراك انظر متعجبا كيف تنمو الزهور وتطير الفراشات .
فهم قوانين المادة
وعن تجربته الفنية يقول الفنان جبيلي : هي الطريقة التي يفهم فيها الفنان قوانين المادة في محاولة للمواءمة بين إحساسه الداخلي وتجربته المعاشة بتأكيده على غرائز الحياة الراسخة في مواجهة كل ما يعيق الإنسانية وكرامة الإنسان . تجربتي الفنية تدور في فلك القوام الإنساني كنقطة استدلال وشكل مثالي ومقياس ترد إليه جميع الأشياء , ومن جانب آخر طريقتي في تحوير واختزال كل ما يقع تحت إدراكي من الأشكال في محاولة لتلمس مقولات الواقع وجعل المدركات اللامرئية مرئية , حيث لا فرق في الرسم بين ما أراه وما اعرفه ولا ضرورة لتسجيل كل مظاهر الشيء فالمطلوب هو التدليل عليه لا محاكاته , تدليل انساني شامل له جانباه التشكيلي والنفسي , انها محاولة لتركيب الاشكال ذهنيا سواء كانت مشخصة او تجريدية ضمن النظام العام للعالم الذي أحاول فهمه واختزاله لتحقيق التوازن الصعب بين الشكل والمضمون .
بين الواقعية والتجريد
وأضاف :اعتقد ان زمن المدارس الفنية الصافية قد انتهى ولا يمكننا تأطير الأساليب الفنية في الوقت الحاضر ضمن قوانين ومدارس محدده بشكل مطلق , فالفنان لا يمكنه النأي بالنفس عن التأثر والتأثير ضمن هذا السيل من التفرد والتنوع والخلط بين المدارس الفنية حيث يطمح كل فنان لإيجاد أسلوبه الخاص بالاستفادة من قوانين ومعطيات الحداثة وإفرازات ما بعد الحداثة , إن حركات الفن وعصر انتشار الصورة وسهولة انتقال الأفكار والانفجار الواسع للمعلومات الذي توفره الميديا هو من ينمي و يحرض هذه الاتجاهات الحرة للفنان ويسهل انتشار وتبادل الأفكار والادراكات بين الفنانين الذين بدورهم يمدونها بإسهاماتهم للانطلاق نحو ابتكارات شخصية وفردية جديدة , لذلك فانا أفضل تصنيف الأساليب حسب التيارات الكبرى كالواقعية والتجريدية ,الكلاسيكية أو الرومانسية . وتجربتي تقع ضمن هذا الطيف الواسع من المدارس , بين الواقعية في أسلوبي الشخصي والتجريد في تجربتي الأخيرة مع لوحات غرافيك الكومبيوتر .
صياغة الواقع جماليا
وعن اسلوبه الفني قال:انه النظام الذي يفرضه الفنان على فوضى الحواس في لحظات الإلهام, يقال دائما إن الأسلوب هو الرجل , وهذا صحيح فهو البصمة الشخصية التي تميزنا بقصد أو بغير قصد , انه الطريقة الفريدة التي ندرك بها عالمنا المحسوس لنتمكن من صياغته فنيا و جماليا وننقله إلى الآخرين ، اعتقد أن أسلوبي الفني في جوهره ما زال تشخيصيا كلاسيكيا بالمعنى الشامل في محاولة لتصحيح الواقع بواسطة الواقع وإعادة صياغته جماليا , بما في ذلك تجربة التجريد أيضا فالبحث الجمالي عندي ما زال يحمل الجانب المثالي في إعادة تركيب الأشكال والاستفادة من الإرث التاريخي للفنون القديمة , اعتقد أن هناك قاسما مشتركا في أعمالي بين العقلانية والحسية, في التصوير كما في النحت على حد سواء, وهذا يتمثل في التقدم أثناء عملية الخلق الفني عن طريق نقيضين هما الكتلة وتحولاتها من جهة , والخطوط المتصلة اللامتناهية للارابيسك التي تبدأ وتنتهي في نفس النقطة ,من جهة أخرى , إنها الطريقة المثلى لترسيخ الشكل والحركة معا , ومحاولة لإضفاء القيمة الخطية واللونية على العمل الفني , وابتكار الحلول لمشكلات التجسيم والحركة والمنظور والضوء و تدرجات الانتقال من الظلام إلى النور, والعمل على إذابة كل التناقضات .
مشاركاتي قليلة
سألنا الفنان جبيلي عن المعارض التي شارك فيها فقال : أنا مقل في المعارض الشخصية فهي لا تتجاوز أصابع اليد وتمتد منذ بداية سبعينات القرن الماضي والسبب أن تجربتي الفنية تعتمد على التطورالعمودي والحفر في العمق ,هي مغامرة نوعية لا تلتفت كثيرا إلى الكم والانتشار الأفقي مع أني مشارك فعال في المعارض الجماعية على مدى عقود, لا شك أن للمعارض أهمية كبيرة بالنسبة للفنان فهي فرصة للخروج من أحادية الرؤية وتأكيد التفاعل مع الآخر , بالنسبة لي كانت المعارض الشخصية وسيلة للتعبير عن مرحلة أو حالة أو تجربة محددة .
قوانين الفن واحدة
وعن اهتمامه بالرسم على الكومبيوتر وفيديو التحريك و تجربته في هذا المجال وما الذي أضافته له قال : لقد ترافقت تجربتي بالرسم على الكومبيوتر مع محاولاتي للولوج إلى عالم التجريد فكلاهما كان فعالية جديدة وغريبة بالنسبة لي , وهذا ما حفزني لخوض تلك المغامرة لعلمي بان الكومبيوتر يمكن اعتباره أداة كالفرشاة أو الألوان , وبقدر ما كانت تجربتي تنضج خارجيا في مختبر فهم واستخراج إمكانيات الكومبيوتر الغرافيكية , كانت قدرتي على استيعاب التجريد تنضج داخليا , أما بالنسبة لفيديو التحريك فقد اعتمدت على لوحات التجريد كأساس وإمكانيات الكومبيوتر في التحريك كوسيلة للوصول إلى ضبط تلك الحساسيات السمعية البصرية الحركية. لقد كانت محاولة لإقحام اللوحة الثابتة في خضم الزمان بالتأكيد على تماذج المساحات والخطوط والألوان وانزياحها عبر التلاشي والظهور والتحول , ولقد امتدت هذه التجربة لتشمل تجارب أخرى على الكومبيوتر ,وهي مجموعة دراسات بعنوان الأشجار تموت واقفة /2014/ وتجربة ثانية عن صندوق (باندورا ) دراسات بالأبيض والأسود /2016/ و تجربة ثالثة ما زالت في طور الإعداد عن مغارة الضوايات /2017/ , لقد ساعدتني هذه التجارب وأغنتني بفهم بصري أعمق وأكثر تسامحا وتصالحا مع العالم الواقعي المشخص وأقنعتني بان قوانين الفن واحدة ومتكاملة مهما اختلفت المدارس وتنوعت الأساليب .
محاولة لأنسنة الطبيعة
وعما يعنيه الفن للفنان جبيلي وتأثير المحيط في إبراز الموهبة قال : المادة بلهاء إلى أن يتدخل الفنان , هذا التدخل الذي يتعامل مع الواقع كلغز أو كأحجية كبيرة , إنها الطريقة التي ينساق بها العمل الفني بالإحساس والغريزة بهدف اكتشاف الأشكال الأكثر تعبيرا عن غايات الفنان وأحاسيسه المبهمة ، هي محاولة لأنسنة الطبيعة والبحث عن النظام الأكثر تعبيرا عن مزاجنا وتجربتنا وحساسيتنا الفنية , ذلك النظام الذي يسعى لاكتشاف التوازن والانسجام و صهر التناقضات عن طريق الترتيب البارع للعناصر غير النظامية التي تختزنها الطبيعة ، فالفنان بغض النظر عن تأثير المحيط , هو من يأخذ بزمام المبادرة وما على المبدع الحقيقي سوى الانسياق لحركة وتفكير يديه وهما تتعقبان أفكار المادة , فخياراتنا هي من تشي بنا , وأنا اعتقد بأنه كلما نضجت تجربة الفنان اتجه نحو البساطة والحذف وروح المرئيات , واقترب من المعنى الحقيقي للأشياء .
نوع من الخربشات المتشابكة
أجابنا الفنان جبيلي عن سؤالنا المتعلق بآلية صياغة اللوحة لديه وعلاقتها بفن النحت قائلا : انه نوع من مقايضة الحيوية بالجمال ,فعلاقتي مع اللوحة تمر بمرحلة إعداد طويلة عبر خطوات تبدأ بالاعتماد على دراسات خطية هي في العادة رغبات مبهمة وحلم غير واضح المعالم , إنها نوع من الخربشات المتشابكة يحدوها الإحساس والتوق في حركة تستقطب اليد والعين معا لتفرز أحاسيس خارج الإدراك المباشر , واقرب إلى اللاوعي , هي توجيه للطاقات أكثر من كونها مجموعة مفاهيم , لكن هذه الدراسات الأولية الورقية تتحول إلى كيان منفصل غائم , مع تقدم العمل للوصول إلى المعنى الحقيقي للأشكال, في محاولة للمواءمة بين الإحساس الداخلي والتجربة, وبين الطاقة والعشق الكامن وراء الأشكال , حيث غالبا ما يفوق الصدق غرابة الخيال , وتبقى هذه الاسكيتشات غير المكتملة رهينة الأدراج و المصنفات حتى ياتي الوقت المناسب حيث تبرز إحداها أو مجموعة منها , كنواة لموضوع يساعد على تذكر حلم ما , فتقفز الأشكال إلى بياض اللوحة الحقيقية لتخرجها من صمتها وعدمها , ولتبدأ مغامرة الحوار سلبا أو إيجابا في جهد اقرب نحو المعرفة الكاملة , ولكن هيهات فأحد مشاكل اللوحة بالنسبة لي أنني لا اعرف متى تنتهي , وكم من اللوحات أعود إليها مرات ومرات بعد عرضها , لشعوري بانزياح الحلم وعدم استنفاد الخيال , أما بالنسبة للنحت فاشعر بان الأمر مختلف , فانا هنا في حل من مشكلات التلوين ومعالجة الأرضيات وتخيل التجسيم إلى محاولتي أثناء النحت تلمس التوتر الداخلي للشكل بين سطح مرثي وداخل تتجاذبه القوى المتنابذة , حيث يلعب الضوء لعبته المستقلة ويتكفل باختراع الظلال فتنقلب الوسيلة إلى غاية تحدد طبيعة التشكيل وغايته , فسحر النحت يكمن بهذا اللعب مع الظلال على مدى من الدوران حول المنحوتة 360 درجة للوصول إلى تأكيد صراعها أو تكاملها بين الغائر والنافر .
اللوحة صدى وانعكاس
وأضاف : قد يبدو لغير المدقق أن أسلوبي يحمل نوع من التشابه لكن في الحقيقة هناك تغير لا بد منه لكل كائن مرتبط بالعيش والتنفس والوجود ،انه تحول قسري ليس بالضرورة نحو الأفضل , فالحياة هي من تختار أن تحلم بنا قبل أن تبدأ لوحتنا حلمها الخاص بالحياة , هذا الحلم هو الذي يستدعي مني الخوض في مغامرة دائمة مختلفة وجديدة على الدوام ضمن أسلوبي الخاص وطريقتي في إدراك وتفسير العالم الذي يحوي ما درجت عليه من آليات التعبير ومقولات التشكيل , فما دامت الحياة تتغير فاللوحة كصدى وانعكاس لا بد لها أن تتغير, ما دام الفنان يسعى للتعبير عن أحاسيسه الرؤيوية وتحولات فهمه لنظرية الجمال فهو غالبا ما يكون على الطريق الصحيح , اعتقد أن لكل مرحلة بالنسبة لي قانونها الخاص الذي ينصهر في بوتقة الأسلوب الشخصي حيث يشكل ضرورة وطريقة لفهم قوانين المادة وألعاب التشكيل على حد سواء .
الفنان التشكيلي بسام جبيلي : تجربتي الفنية تدور في فلك القوام الإنساني كنقطة استدلال ومقياس
العدد: 14839
التاريخ: الثلاثاء, نيسان 11, 2017
المصدر: العروبة