حوار مع الصحفي اللبناني حازم صاغية
وسائل الإعلام العربية…أدوات في أيدي الحكام
السيِّد حازم صاغية، لقد عملتَ لصالح صحيفة السفير اللبنانية فترة طويلة. ثم انتقلت في عام 1988 إلى لندن وأصبحت محرِّرًا في صحيفة الحياة العربية الشاملة. بماذا يختلف عمل الصحفي في لبنان عن عمله في إنكلترا؟
حازم صاغية: يوجد بين الصحافة في العالم العربي والصحافة الأمريكية أو الأوروبية فرقٌ مثل الفرق بين الليل والنهار. في لندن يتم إنتاج محتويات مستقلة في معظمها. أمَّا هنا في لبنان فوسائل الإعلام ليست أكثر من أدوات بيد الحكَّام. في لندن الصحفيون أحرار، بينما الصحفيون والإعلاميون في بيروت ليسوا أحرارًا. وهذا يؤثِّر بالضرورة على العمل الصحفي.
لكن مع ذلك فنحن نجلس هنا في مقهى بيروتي ونخوض حديثًا مفتوحًا …
حازم صاغية: من دون شكّ، ولكن فقط طالما يسمح حزبُ الله بذلك. في الوقت الراهن حزب الله وضعه مستقر وثابت، وسلطته ليست موضع شكّ. ولذلك فهو يستطيع السماح لنفسه بصحافة حرة. ولكن لا تنخدع بذلك. فعلى الرغم من أنَّ بيروت تعتبر داخل العالم العربي واحة لوسائل الإعلام، ولكن هنا أيضًا يمكن أن تنتهي حرِّية الصحافة بين عشية وضحاها، وذلك عندما يرى أصحاب السلطة أنَّ هذا ضروري. وهذا اليقين في حدِّ ذاته شكلٌ من أشكال القمع.
إلى أي مدى تشعر بهذه القيود في عملك كصحفي؟
حازم صاغية: أنا أعمل منذ أربعين عامًا لصالح صُحُفٍ عربية. ولم أعد أشعر بالقيود، بعدما أصبحت هي جزءًا مني. وفي عهدي كانت صحيفة السفير مدعومة من معمر القذافي، وصحيفة الحياة لا تزال مملوكة حتى يومنا هذا من قبل العائلة المالكة السعودية.
في الثمانينيات لم يكن مسموحًا لي تبعًا لذلك بالبوح بكلمة سيئة عن معمر القذافي، واليوم أضطر إلى إخفاء رأيي حول المملكة العربية السعودية. ونتيجة لذلك فقد وضعت هذه الموضوعات في الدرج وأغلقته عليها ثم تخلـَّصت من المفتاح. وبالتالي فإنَّ مبدأ عملي الصحفي هو: أنا أؤمن بكلِّ ما أكتب غير أنَّني لا أكتب كلَّ ما أؤمن به.
هل تعتقد أنَّ هذه حال الكثيرين من الصحفيين في العالم العربي؟
حازم صاغية: بالطبع. عندما تتحدَّثُ مع الكتَّاب والصحفيين في المغرب أو في لبنان أو في المملكة العربية السعودية، فستلاحظ أنَّ هذا النوع من الرقابة الذاتية منتشر انتشارًا واسعًا، لأنَّ ذلك ضروري. وأصحاب السلطة ليسوا الوحيدين الذين يجب على المرء أن يكون حذرًا منهم؛ بل وحتى من المجتمع نفسه.
كصحفي شاب في بيروت كتبتُ ذات مرة تقريرًا حول جريمة شرف. وبعد ذلك تلقَّيتُ رسائل تهديد من عائلة الجاني المُفترض. وهذه هي بالضبط حال الصحفيين، الذين يبلغون عن قضايا أخرى تختلف عن القاعدة السياسية أو الاجتماعية. إذ إنَّ مَنْ يكتب حول الجنس أو حول الدين أو حول سلام محتمل مع إسرائيل، يعاني من وضع غير سهل، لأنَّ الضغط الناتج عن الخضوع للروايات الاجتماعية القائمة كبيرٌ للغاية، بحيث أنَّه يقضي على ظهور أي مشهد إعلامي حيوي في مهده.
هل يمكن فهم وسائل الإعلام في العالم العربي على أنَّها سلطة رابعة، أو كثقل موازن للسياسة؟
حازم صاغية: إنَّ مَنْ ينظر إلى الإعلام العربي على أنَّه مُحرِّكٌ من أجل التغيير، ناهيك عن اعتباره كسلطة رابعة، لا بد أن يكون متفائلاً حقيقيًا. الهدف الرئيسي من وسائل الإعلام المطبوعة والتلفزيون هنا في الدول العربية هو الحفاظ على الوضع السياسي والاجتماعي الراهن.
هل يرجع ذلك فقط إلى الرقابة السياسية والرقابة الذاتية، التي تحدَّثنا حولها في السابق، أم أنَّ الأسباب أكثر تعقيدًا؟
حازم صاغية: هاتان النقطتان من دون شكّ هما الأكثر أهمية. ولكن ربَّما لن يكون لهما أي وزن كبير لو لم يُضَف إليهما عامل ثالث، هو: جُبْن الطبقة الوسطى. وبطبيعة الحال النخب المالية وأصحاب السلطة هم الذين يقمعون الصحافة الناقدة ويرفضون أي شكل من أشكال التغيير. ولكن لا توجد أية برجوازية عربية تستخدم وسائل الإعلام من أجل تحقيق التغيير.
والطبقة الوسطى لا تعتبر نفسها كعامل مساعد من أجل تحقيق إصلاحات سياسية. بل تهتم بالمصالح المالية أكثر من اهتمامها بالمصالح السياسية. القطاع الخاص لم يحاول بتاتًا بجدِّية شراء حصة من المشهد الإعلامي. وهكذا يصبح بطبيعة الحال من السهل بالنسبة للقلة الحاكمة والطغاة والحكومات من الخليج إلى المحيط السيطرة على المشهد الإعلامي.
هل تطالب إذًا بالمزيد من الشجاعة من أجل مقاومة وسائل الإعلام المقرَّبة من الدولة؟
حازم صاغية: الشجاعة كلمة كبيرة عندما يواجه المرء أنظمة لا تترك للناس أي مجال من أجل تنظيم أنفسهم كمجتمع مدني. عندما يلتقي شخص سوري بجيرانه لمناقشة أفضل طريقة من أجل التخلص من نفاياتهم المنزلية، فعندئذ سيتعرَّض لغضب واستياء جهاز المخابرات. فالنقاشات الناقدة باتت اليوم محظورة ببساطة في أماكن كثيرة. ولذلك فأنا أخشى من أن يكون الوقت قد تأخَّر منذ زمن طويل من أجل استعادة وسائل الإعلام – بأي شكل كان.
من خلال قمع الشعب وضبط وسائل الإعلام لم يعد معظم الحكَّام العرب يسيطرون على دولهم فحسب، بل وحتى على ماضي مواطنيهم وحاضرهم ومستقبلهم. يسيطرون على الماضي لأنَّ لديهم القدرة على إعادة صياغته، وعلى الحاضر لأنَّهم يملكون الوسائل لقمع الناس والأفكار، وعلى المستقبل لأنَّهم يستطيعون منع الناس من تنظيم أنفسهم سياسيًا.
مع ذلك خلال الربيع العربي كان الكثير من الناس لا يزالون يعلـِّقون أملاً كبيرًا على وسائل الإعلام كقوة ثورية، خاصة في شبكات التواصل الاجتماعي …
حازم صاغية: هذا صحيح. باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بات من الممكن في تلك الفترة حقًا ولفترة وجيزة كسر احتكار الحكَّام للمعلومات والاتِّصالات. لقد وجد الشباب العربي فجأة وسيلة لتنظيم أنفسهم. وقامت مواقع مثل الفيسبوك بالوظيفة التي كانت تشغلها الأحزاب السياسية من قبل – وحتى أنَّ هذه المواقع كانت تبدو جزئيًا أكثر فعالية.
لكن مع ذلك فقد أعقب الحماس الأوَّلي فشل الثورات الكبير …
حازم صاغية: في الواقع لم يكن التمكُّن من التواصل كافيًا. وسائل التواصل الاجتماعي تربط بين ملايين الناس، ولكن لم يكن هناك نموذج بديل للمستقبل من أجل منح الثورات الحافز الضروري. والحرِّية كانت المطلب الأساسي. وكانت هذه قضية محترمة تستحق النضال من أجلها. غير أنَّ السعي إلى الحرِّية في حدِّ ذاته لم يكن كافيًا. فقد كان هناك نقصٌ في الأفكار والمناقشات حول ما يمكن للمرء أن يفعله بالحرِّية عندما ينالها.
ولم تكن وسائل الإعلام الاجتماعية تُقدِّم المنبر المناسب من أجل ذلك. غير أنَّ هذا الفراغ الأيديولوجي لم يكن مفاجئًا أيضًا: فحيثما تم منع النقاشات السياسية على مدى عقود وقرون من الزمن، لا يمكن أن تنمو الكثير من الرؤى الجديدة. أما الرؤى القليلة المتداولة فهي “رؤى مناهضة”.
ماذا تقصد بذلك؟
هذا يبدو وكأنَّه استسلام. هل ترى أنَّ الصحافة في لبنان وفي بلدان عربية أخرى لم تعد تملك أية قوة ثورية؟
حازم صاغية: وسائل الإعلام وحدها لا تستطيع أن تُحدِث أي تغيير. وحتى عندما نتحدَّث حول الحركة النسوية وحول المساواة أو حول الحرِّيات الدينية – وجميعها موضوعات ممتازة – فإنَّ وضع الناس لن يتغيَّر. يجب أوَّلاً أن يتغيَّر الوضع السياسي. ولكن منذ فشل الربيع العربي أصبح البندول يتأرجح من جديد نحو الاتِّجاه الآخر: نحو المزيد من القمع.
حاوره: كاي شنير
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017