بيروت تتحوّل شيئا فشيئا إلى مدينة يغزوها فنّ الغرافيتي. أينما ذهبت ستجد جدرانا رُسِم عليها. والفاعل المجهول هو بالتحديد فنّ “الغرافيتي”. أن ترسم وتهرب. أن ترسم وتختبىء بانتظار دهشة العابرين في الشارع وأسئلتهم حول الرسم والمقصود منها.
فما هو الغرافيتي، ليس تاريخيا، بل في حاضرنا؟
لطالما ولدت فنون الشغب أو العفوية الإجتماعية من المجتمعات المضغوطة، إن كانت موسيقى البلوز التي ولدت من حقول القطن التي كان يعمل بها “الزنوج” في الولايات المتحدة الأميركية في العشرينيات من القرن الماضي، وهي موسيقى تحكي آلام الفلاحين الذين يعانون من العنصرية العرقية لتتحول بعد ذلك إلى نوع موسيقي عالمي يستعمله كل الموسيقيين والمؤلفين، وإن الغرافيتي، أي فنّ الكتابة على الجدران، وهي تعني ترك الرسومات أو الأحرف على الجدران أو الأشياء في الشارع بطريقة “غير مرغوب فيها” بالنسبة إلى الأمكنة العامة، أو بدون إذن صاحب المكان.
رسم الغرافيتي على سطح عام أو خاص دون الحصول على إذن من مالك السطح قد يُعتبر نوعا من أنواع التخريب، الذي يعاقب عليه القانون في معظم دول العالم. يستخدم الغرافيتي غالباً لإيصال رسائل سياسية واجتماعية، وكشكل من أشكال الدعاية. ويعتبر أيضاً أحد أشكال الفن الحديث.
في القرن الواحد والعشرين يمكننا أن نعتبر الغرافيتي نوعا من أنواع نشر الوعي الشعبي حول قضايا معيّنة. على سبيل المثال، وفي لبنان تحديدا، لطالما رأينا كتابات على الجدران نقدية وضدّ الحكومات اللبنانية مثل “الشعب يريد اسقاط النظام الطائفي”، أو “إرحلوا، أو “لا للتمديد للمجلس النيابي”. ومؤخرا صرنا نرى رسومات تلفت الأنظار، شبيهة بشعار حزب الله، المرسوم بكلمة “حريّة” في القبضة بدل السلاح، وهو واحد من الشعارات المؤيّدة للثورة السورية في شوارع بيروت.
بين مؤيّد للجرافيتي ومعارض، المؤيّدون معظمهم من الشباب الذين لهم ميول فنية أو المعارضين للأنظمة العربية. والمعارضون هم من رُسِمت جدرانهم بالخفاء عن عيون الدولة. فبعد البحث علمنا أن الكثيرين من رسّامي الغرافيتي اعتقلوا أكثر من مرّة بتهمة تخريب الأملاك العامة وقلّة الأدب. لذلك رفض كثيرون منهم، وأنا أعرفهم شخصيا، الحديث في الإعلام، وفضّلوا التستّر على أسمائهم كما جرت العادة. لكنّ بعضهم لم يمانع الحديث. منهم يزن حلواني.
يزن حلواني هو أحد رسامي الغرافيتي اللبنانيين. ولد في بيروت العام 1993، أي أنّه لم يتجاوز الواحد والعشرين من عمره. هو من المهتمّين بالثقافة وفنون الشارع، ومن منتجي أكبر الجداريات والكتابات على جدران بيروت. واليوم بات واحدا من أصغر الفنانين في منطقة الشرق الأوسط.
حاول يزن نشر هذا الشكل الفني الجديد في لبنان من خلال الجمع بين الخط العربي والأرابيسك، مع أنماط الكتابة على الجدران الغربية. وتتميز رسماته من خلال تعقيدها وحجمها (40 م ₂). وهو شارك في العديد من الأحداث والمعارض في الكتابة على الجدران الحيّة، وفاز بالمركز الأول في مسابقة الكتابة على الجدران التي أجريت في الحمرا ببيروت العام 2010.
من مشاهير هذا الفنّ في العالم “بانكسي”، وهو رسام جرافيتي إنجليزي مشهور ومجهول في نفس الوقت. ظهرت رسوماته المختلفة في العديد من المواقع في بريطانيا خصوصاً في مدينة بريستول ولندن وحول العالم منها في الضفّة الغربية على الجدار العازل. تتنوع رسومات بانكسي في الموضوع وتشمل بأغلبها المواضيع السياسة والثقافية والأخلاقية. وقد أثارت العديد من التساؤلات حول شخصه وأفكاره خصوصاً صورة الموناليزا وهي تحمل قنبلة. وفي العام 2014 قام بانكسي بتكريم الثورة السورية أيضاً برسم بنت صغيرة يطير من يدها بالون على شكل قلب أحمر. وهي صورة انتشرت بشكل واسع حول العالم وفي وسائل التواصل الاجتماعي.
يدور النقاش الدائم إن كان الغرافيتي فناً أو جنحةً وطريقة لنشر الشغب في المجتمعات، في عالمٍ يجتمع رؤسائه الكبار حول طاولة الكوكب ويتقاسمونه كقطعة جبنة. وخلال الشغب ضدّ الحكومة يُعتقل من يرسم على الحائط، ما يجعل مقولة بانكسي الشهيرة صحيحة: “إن كان الغرافيتي سيُغير شيئاً في العالم، فسيحولونه إلى جريمة”.
اليوم الغرافيتي في بيروت يحتاج إلى الإضاءة عليه، لأنّه يشكّل بابا من أبواب الاعتراض في “المساحة العامة” و”المكان المشترك” و”الحيّز العام”، الذي لم يستعط الفايسبوك ولا التويتر ولا اليوتيوب استبداله، بل أضاف إليه أمكنة مشتركة، لكن بشكل محدّد ومحدود.
والصورة المرفقة خير دليل على ما لا يمكن نشره إلا في الشارع، أو لا يمكن نشره من دون ارتدادات أو ملاحقة “انترنتية”، إلا في الشارع.