ثانيا: التطور الوظيفي وتستكمل ا لمسيرة لتصبح الصورة الفوتوغرافية في كافة الخدمات التي يستفيد منها الإنسان في عالم اليوم.. فتعددت مجالات التصوير الفوتوغرافي.. وتعانق هذا المجال مع عدد كبير من ا لمجالات المختلفة.. فهناك التصوير العائلي أو الشخصي والتصوير التوثيقي والإعلامي والرياضي والفني والعلمي وتصوير الحيوانات البرية والتصوير تحت الماء وتصوير الأزياء والتصوير الجوي والتصوير التجاري.
وأصبحت الصورة في الأدب.. في العلم.. في الصحافة.. وما في ذلك من تفريعات كثيرة إلا أن ما يهمنا في هذا المقام من كل تلك المجالات الآنفة الذكر هو التصوير الفني.. ذلك أن عددا كبيرا من المجالات السابقة يمكن أن يندرج تحت مسمى “صورة فنية”.
“لقد حقق التصوير أول ما ظهر الحلم الذي طالما راود الإنسان بالقبض على الزمن.. الا أن التطور السريع الذي عايشته البشرية حدا بالتصوير الى تجاوز المستوى الأول من الواقع نحو آفاق جديدة في التشكيل فإذا كانت كلمة (فوتوغراف) (Photograph) تعني في اللغة اللاتينية الكتابة بالضوء، فإن التصوير الفوتوغرافي لم يقتصر على تقليد خطوط هذه الكتابة بل أعاد صياغة أبجديتها ونظم هذه الحروف الضوئية نظما شعريا يخاطب وجدان المتلقي أكثر مما يخاطب عيونه، لتوازي في جوهرها سائر المجالات الإبداعية الأخرى كالشعر والرواية والرسم والمسرح”.(6)
ومع بداية هذا القرن قال وليم مور “ان عمل الفن هو صنع التأثير (Effect) وليس تسجيل الحقائق الوقائع (facts)”.(7)
كانت الصورة فيما مضى مجرد أداة لنقل الواقع وتسجيله كما هو.. ولكن عندما تم التعامل مع الصورة كفن تغيرت هذه النظرة.. فلم يعد التصوير مجرد لوحة صامتة لمنظر طبيعي أو غيره، وإنما أصبحت الصورة معاناة إنسانية، فكرة تحمل مضمونا
إنسانيا وجدانيا فكريا أيا كان ا لمهم أنها لم تعد صورة جميلة فحسب.. وانما هي لوحة فكرية وجدانية تخاطبك لتتأملها وتغوص في أعماقها فتخرج مدهوشا بقدرة الفنان على الابتكار والابداع والخروج عن المألوف بأسس علمية مدروسة.. ورؤية فنية راقية.
ترى هل اختلفت وظيفة التصوير الفوتوغرافي الآن ؟! أعتقد ذلك.. لم تعد وظيفته مجرد نقل الواقع وانما تفتش عما يختبيء وراء الواقع بكشف أغرار الحلم.. وعيون المستقبل.. فأصبحت وظيفة الفن اجمالا الآن أشمل من الماض ر.. يقول صاحب (السيدة / الكمان ) (8) الفنان (مان ري) “ان وظيفة الفن هي دفع المشاهد الى التأمل وليس فقط إثارة الإعجاب بالبراعة التقنيه التي يتمتع بها الفنان”. (9)
لو تأملنا أعمال انسل آدمز (Ansel Adams) (1982 -1902) وإدوراد ويستون (Edward Weston) (1883- 1976) وأموجن كننج هام (Imogen Cunningham) (- 1883 1976) وغيرهم من المصورين من الذين كانوا علامات مميزة في سماء التصوير الفوتوغرافي نجد أن الفضل يرجع لهم في تحويل التصوير من مجرد واقع تسجيلي الى فن بكل ما تحمله كلمة “فن” من معان.. حيث معهم بدأ التصوير الفوتوغرافي يتخطى حواجز الواقعية التسجيلية ليكون لفة الصورة الرومانسية الحالمة عندما تم التعامل معه على شكل فن جميل.
وعندما تقرأ كتاب (الفن والحياة ) (Art & Life) تدرك تماما ذلك التحول بعد أن نظر المصور الى الصورة على أساس الفن.. “يسير كل من ويسترن وانسل آدمز بقوة نحو العمق ليمسك اللقطة الفنية من أجل مهمة الفن”. (. ا)
إذن مخاطبة اللوحة.. الوقوف أمامها.. محاولة مخاطبة ما وراء الصورة ومتابعة مساراتها الدقيقة.. تني ما تبقى من جمال روحي في عقلك بعد أن طفت مشاغل الحياة المادية على الجزء الأكبر منه فتأتي الصورة لقض ء جانبا آخر مهما منه.
ولا شك نحن لانختلف على أن الناس مختلفون في رؤيتهم للأشياء حيث “لا يستطيع شخصان أن يكونا نفس الفكرة تماما عن شيء واحد” (11)
وهنا مكمن جمال الصورة وما تحمله من مضامين تعبر عن هواجس مختلفة وهموم شتى.. تداعب أحلاما قديمة عند هذا وتراود طموحات مستقبلية عند ذاك.. ترسم صورة بائسة قاتمة.. وتلامس أفكارا حالمة.. لماذا كل هذا؟ لأن التصوير فن وليس نقلا.. و”هناك من المصورين من هم مثقفون حتى أطراف، أصابعهم.. يهمهم التعبير عن الأعماق وكوامن الأمور.. يسيرون في أعماقهم الى ملامسة العقل اللاواعي والغوص عميقا في تخوم الحلم والمناطق المظلمة” (12)
فالمصور يبقى في النهاية انسانا.. يهمه التعبير كذلك عن الواقع.. ولكن برؤية فنية.. حتى لو أخذنا في ذلك أقرب مجالات التصوير للواقعية وهو التصوير الوثائقي لابد من الغوص في الأعماق لابراز حادث معين أو التوثيق لمرحلة معينة لتعميق الأثر ولتبقى ذكرى لا تنسى.
فمثلا عندما تتأمل صورة اعدام الجندي الفيتنامي الشهيرة والتي التقطها ايدي آدمس (Eddi Adms) عام 1968 وحصل على جائزة بولبيتزر ترى هذه الصورة وأنت متأهب لسماع الطلقة النارية من مسدس الضابط الفيتنامي.
الأمر نفسه في تصوير (البورتريه) حيث لابد من الغوص في المناطق المظلمة في الشخصية التي تود تصويرها.. تعبر بصدق عن نفسية هذه الشخصية بملامحها الدقيقة وما تصاحب الصورة من إضافات.. من منا مثلا لا يتذكر صورة (تشرشل) والتي جاءت بعنوان (What, no cigar) التي التقطها مصور البورتريه الشهير “يوسف كارش Karsh عام 1941_ تأمل جيدا هذه الصورة تجد أنها تعبر عن ملامح تلك المرحلة في ظل الحرب والعنف والدمار. رغم ان المصور التقط له صورة أخرى (بسيجارته هذه المرة ) كما أراد ولكن لم يكتب لها البقاء وظلت هذه الصورة (بدون سيجارة) هي الأقوى والأكثر عمقا.
هكذا أصبح التصوير الفوتوغرافي عندما تم التعامل معه على أساس الفن وما أجمل ما يقوله ماكلين (Mccullin) ” المصور يجب أن يكون إنسانا متواضعا صابرا مستعدا للمزيد من المتابعة.. اذا كنت وحيدا انتظر السعادة أو الخجل أو حتى الموت وليس أحد بجانبي يمكن أن يكون عندي عدة اختيارات وأحدها أن أكون مصورا للآخرين ولكن ما أحاول أن أصل اليه هو أن أكون إنسانا”. (13)
رأينا أن التطور في الوظيفة نابع من التطورات البشرية العامة والاهتمامات الإنسانية الشاملة.. الاهتمام بالمعاني وليس مجرد السطحيات الجمالية فقط.. فتصوير لقطة واحدة ذات معنى أفضل من مشات الصور بلا معنى.. فالصورة لم تعد مجرد نقل للواقع وانما هي البحث عما يختبيء.. وراءه… وما هذا التطور إلا نتاج للتطورات في الفنون الأخرى كالأدب شعرا أو نثرا والرسم والمسرح وغيرهما.. وكم من المصورين هم شعراء أو مسرحيون أو كتاب قصة وسينمائيون.. بل كم من لوحة تم التعبير عنها بلفة الشعر والعكس صحيح.. فالحس الفني والروح الشاعرة رابط أساسي يجمع الفنان بالأديب فيصبحان في معقل واحد.
“في الحلم..
خرجت القروية التي تحمل العب ء..
وبدأت تحدثني عن أوجاعها..
أسمع هذه الصورة
قريبة مني..
قريبة كحبل الوريد..
اعرفها بدمي”.(14)
هذه المقاطع للفنان والمصور العربي المعروف مراد الداغستانيى – رحمه الله – يخاطب اللوحة.. لتولد من رحم المعاناة.. ومن منبع الألم.. فتستقر في مصب وجداني.. لهذا الإنسان الواقف أمام هذه اللوحة.. متأملا مقاطعها.. “فعندما تنظر الى الصورة عليك أن تتعلم كيف تتخيل.. لترى ما وراء الصورة”. (15)
و”يعتمد نجاح المصور على كيفية تمكنه من اجتياز المصاعب والتعبير عن الوقت بالاتصال والأفكار والحقائق والآراء والطموحات في صورة موضوعية”. (16)