سليمان العيسى وشعر الأطفال
تتطرق هذه الدراسة إلى إحدى التجارب الرائدة في مجال الكتابة للطفل، ونقصد بها تجربة الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى، الذي كانت أشعاره الموجهة للأطفال زادا وعونا رافق الطفل العربي سنوات طوال، ولا ننكر أننا كنا من الأطفال الذين تغنوا بقصائده، ولازلنا نحفظها إلى اليوم.
لطالما كان الشعر ولازال من أهم الفنون التي تعبر عن إنسانية الإنسان، وثراء تفكيره، وشساعة آفاقه، وتعدد مذاهبه، فهو حصيلة تجارب إنسانية ينقلها الشاعر إلى الآخرين ويشاركهم إياها. ليبقى الشعر من أرقى الوسائل التي يستعان بها لبث وبعث الأفكار والعلاقات بين الأفراد. ولربما تظهر وظيفة الشعر أكثر إذا كان موجها للأطفال، وهم البراعم الصغيرة التي لم تخض بعد غمار الحياة، ولم تذق قسوتها ولم تتجرع سمومها، فكان ولابد إعدادهم وتسليحهم لهذه المعارك التي لن يسمح لهم بالتزام الحياد فيها، بل سيدخلونها طوعا وكرها . وإذا كان الشعر الموجه للكبار ينطلق من أسس فنية وفكرية قد تمنح للمتلقي عناية، فإنها قطعا لا تكون بتلك الدرجة من المسؤولية التي يتحملها شاعر الصغار، فالطفل أمانة في أعناق الأدباء، والشاعر الذي يكتب للصغار عليه أن يراعي جملة من المبادئ بوصف هذا الطفل ليس إنسانا ناضجا يمكن أن يتقبل أو يرفض ما يقرأه من نتاج أدبي، فهو في طور النمو، وهذا النتاج أحد المقومات الرئيسة التي تغذي فكره، وتصقل شخصيته، وتبني مستقبله سلبا أو إيجابا. فـ”إذا كان بإمكان الكاتب الإبداع و هو على ضفاف اللاوعي، أو في برزخ بين وعيه، فإنه مضطر خلال كتابته للأطفال لا الكتابة من موقع ما على ضفاف وعيه، بل عليه استحضار وعيه كاملا.”
ينطلق سليمان العيسى في تجربته مع الأطفال من نظرية فنية تربوية تشكلت من خلال تعامل الشاعر مع التلاميذ، إذ كان مدرسا في ثانويات حلب. لقد تواصل مع الأطفال وعرف أذواقهم وأفكارهم وتطلعاتهم، كما عاش الشاعر مع الشعر خلال مسيرة شعرية طويلة الأمد، غزيرة الإبداع، عميقة الفكر، بعيدة الأهداف، إنها مسيرة الشعر القومي، ومن هنا نخلص إلى أن سليمان جمع بين خطين متسايرين، وأبعد متفرقين، بين الطفل والشعر.”إن شاعر الأطفال ينبغي أن يعيش عالمهم، ويتقمص شخصيتهم ويحتال إلى اللفظ البسيط احتياله للفكرة الواضحة والدقة العلمية الراقية والسلك التربوي الممنهج وفق تقنيات التعامل الأسري والسلوك الاجتماعي القويم وميكانيزمات الحياة اليومية والمناورات التي تشغل بال الأطفال أينما وجدوا و كيفما وجدوا” وإننا بالعودة إلى حياة سليمان العيسى نجد أنه تربى في أنطاكية لواء أسكندرون، الذي سلخ من الأم سوريا و ضم إلى تركيا ، بدأت حياة سليمان الكفاحية وهو لا يزال طفلا صغيرا، لا يزال في عمر من كان يكتب لهم، وكأن سليمان يعوض ذلك النقص الذي وجده هو عندما كان صغيرا من عدم توفر قصائد تلاءم سنه وقدراته ليتسلح بها هو ورفاقه في دفاعهم عن أرضهم، فاضطر هو الطفل الصغير أن ينظم قصائده الخاصة تكون زاده وشعاره. بدأت رحلة سليمان العيسى مع الأطفال إثر هزيمة 1967م، وبذلك يكون سليمان العيسى قد قدم لنا سنوات طوال من العطاء والجهد والتضحية في سبيل بناء الجيل العربي الموحد، يقول في كتابه (باقة نثر):”تجربتي الشعرية و كدت أقول تجربتي القومية مع الأطفال، شجرة بدأت صغيرة متواضعة الجدع والفروع في أعقاب مأساة حزيران من عام 1967. كانت نافدة زرقاء أطل منها على السماء بعد أن كدت أختنق بغبار حزيران الأسود.”
لم يكتب شاعرنا سليمان العيسى للصغار عبثا، وإنما كان يحمل قضية متكاملة الأبعاد واضحة الأهداف، استقاها من تجربته النضالية الشعرية الطويلة، يقول:”إني لا أكتب للصغار لأسليهم. ربما كانت أية لعبة أو كرة صغيرة أجدى و أنفع في هذا المجال. إني أنقل إليكم تجربتي القومية…تجربتي الإنسانية …تجربتي الفنية…أنقل إليكم همومي وأحلامي..يا أعزائي الصغــار. وعندما تكبرون قليلا سترون أني لم أخدعكم، لم أضيع وقتكم الناظر الثمين بشيء تافه، إنكم أغلى علي، وأعز عندي من ذلك. أغلى كثيرا…وأعز كثيرا”
وسليمان لم يكن شاعرا للأطفال فقط، بل كان منظرا أيضا فقد أضحت أقواله مرجعا هاما في هذا المجال من الدراسات. أما نظريته فتكمن في ثلاث كلمات: “المعادلة الشعرية الجميلة” عبارة قد لا تبوح بمعناها إلا بالعودة إلى الشاعر نفسه، حيث يقول:”أعني الشعر السهل الصعب، القريب البعيد، في وقت واحد. سهل…لأن الصغار يغنونه ويحفظونه في الحال. وصعب …لكن بعض معانيه وصوره تظل غامضة، بعيدة عن مداركهم بعض الشيء وقد تعمدت هذه السهولة والصعوبة في شعر الأطفال وسميتها المعادلة الشعرية الجميلة. معادلة أبدل جهدا كبيرا كي أحققها في كل نشيد، بل في كل بيت أحيانا، على قدر ما أستطيع.” . إنها المعادلة التي بنى سليمان عليها أشعاره وسعى سعيه في تطبيقها. وبعبارة أخرى إنه يتحدث عن القيمة الفنية والقيمة التربوية، أما الأولى فهي سهلة تتلاءم وسن الأطفال، فيحفظونها بسرعة لقيامها على جملة من القواعد الفنية من ألفاظ وموسيقى وإيقاع فتترسخ في عقول الصغار، وهنا تأتي القيمة التربوية التي تستغل ما ترسخ في عقول الصغار لتصوغه على مر الأيام نتيجة التراكم فتبني به شخصية الطفل الأمل والمستقبل. فـ”الهدف من أدب الطفل مزدوج حسب وظيفة اللغة كما سلف ذكره، أحد الهدفين ربط الطفل بمرجعيته أخلاقيا أو انتماء، والآخر إكسابه ذوقا جماليا راقيا” إنها لحقا معادلة صعبة تحيط بعوالم الشعر على مداراتها اتجاهاتها المتفرقة، وبعوالم الطفولة المفتوحة على كل شيء، وفي بركان هذه العوالم كلها تولد القصيدة الموجهة للأطفال.
كما أن سليمان سعى إلى التقريب بين مستوى الطفل والشعر، فلا هو تخلى عن شاعريته وقدم لهم شبه أدب يفتقد إلى مكونات الشعر الذي كان معروفا، ولا هو أنكر براءة الصغار، وفرض عليهم شعرا يفوق قدرتهم على الفهم، يقول سليمان أثناء حديثه عن الحكايات الشعرية:”أعرف أن بعضها نظم شعرا، وأني كنت ممن حفظوا في طفولتهم مثل هذه الحكايات المنظومة، ولكن أساتذتنا الذين كلفوا أنفسهم عنا هذا العمل أغفلوا الشعر، أو قل: أنهم لم يتركوا لنا شيئا من النبض الشعري في هذه المنظومات .”
وقد يكون من حسن حظ الطفل العربي في زمن مضى أن وجد شاعرا يكتب له، ويهتم لآلامه وأحلامه، وينظم له قصيدة يتغنى بها، وفكرة يرتقي عليها.
وسليمان من خلال القيم التي وظفها في قصائده الموجهة للطفل تمسك بدعائم شديدة تستند أساسا على أن الطفل العربي قادر على تحقيق المعجزة، إذا ما أنشىء تنشئة سليمة، إذا ما منح الحب والعطف والثقة، إذا ما ترك حرا مبدعا، إذا ما أعطي الفرصة ليكون قائدا ومناضلا، إنه الطفل العربي وريث سلسلة لا تنتهي من العظماء، يقول سليمان:” أنا أعتقد أن الشجرة العظيمة بنت الغرسة العظيمة وأن الصغير الذي يحمل في طفولته فكرة كبيرة هو الذي يخلق الوطن الكبير، و الحياة الخصبة المبدعة.”
لذا فإن سليمان العيسى أبى إلا ينشد مع الطفل قصيدة واحدة تردد ألحانا مختلفة، تجوب أشجانها عالم الطفل على رحابته، فزارت أنغامها الحياة الأسرية، لتخرج في خطى مترددة من عالم الدفء إلى عالم المدرسة، لكنها تأبى إلا الالتحاق بعالم الدنيا فكانت الحياة الاجتماعية، وتشاركهما العصافير الغناء فتحمل على ألسنتها هذه الألحان إلى عالم الطبيعة بكل أسراره وخباياه، أين تصير هذه الألحان ليست ملكا لسليمان والأطفال فقط، وإنما هي ملك للشجر،الحجر، السهل، والنبع، إنها ملك لكل ذرة من ذرات أرض العروبة، فتصبح وكأنها أوركسترا تردد أغنية أزلية عنوانها “الوطن”، تحت إشراف الموسيقي سليمان العيسى.
ومن أهم القيم التي سعى سليمان العيسى إلى تحقيقها في ديوانه للأطفال:
قيم وطنية: تتغنى بحب الوطن دون تخصيص من محيطه إلى خليجه.
قيم أسرية: تحتل فيها الأم و الأب المكانة الأهم و الدعوة إلى حبها و احترامهما.
قيم مدرسية: تربي في الأطفال طلب العلم والمعرفة، وتنمية الفكر، واحترام المعلم والمعلمة، وتقديس اللغة العربية و الحفاظ عليها.
قيم اجتماعية: تتغنى بالعمل كأهم وظيفة للإنسان، يسعى من خلالها إلى بناء الوطن والنهوض به إلى الأمام للالتحاق بركب الدول المتقدمة.
قيم الطبيعة: تحلق مع الأطفال في عالم أوسع و أرحب يختفي فيه الإنسان، و يظهر أصدقاء جدد للأطفال يتقاسمون معهم الحياة الهادئة و البسيطة.