يعتبر “الاستشراق” من أكثر المصطلحات جدلا في الساحة الفنّية ومن أكثر المفاهيم الشائكة والمتشعّبة والمتداخلة بعدّة مصطلحات أخرى كالاستعراب والاستغراب. فالإستشراق هو دراسة لمختلف البني الثّقافيّة للشرق واهتمام فكري وفنّي من وجهة نظر غربي. يهتّم بمسائل الشّرق ودراسة عاداته وتقاليده. وفي هذا الصدد نستشهد بما كتبه ”ادوارد سعيد“ أنّ الإستشراق ”ليس إلاّ رؤية سياسية للواقع، رؤية الفرق بين المألوف (أوروبا وأمريكا، هم) وبين الغريب (الشرق، نحن) والتمييز له ليس مسألة نفسية لإبداء الفروق الوصفية بل هو مسألة سياسية تدخل في نطاق التعليم والتربية والتبليغ الإعلامي.“ مبّينا كيف أن الإستشراق هو معرفة تتحوّل في يد السلطة السياسية إلى هيمنة. وقد قدم ”ادوارد سعيد“ نقدا لا ذعا للغرب في كتابه الإستشراق مجرّدا مختلف أهدافهم الإستعمارية، إذ استطاع أن يُزعزع الرّكائز التي كان يقام عليها هذا المصطلح. ولا شكّ أنّ لكتاباته فضلا كبيرا في فهمنا للإستشراق وأبعاده الاستعمارية والإيديولوجية، ممّا فتح لنا أبوابا وأفاقا جديدة لإعادة النظر في هذا المفهوم.
في بداية الأمر، ركز المستشرقون على الطّابع القصصي المستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة وروايات شهرزاد وشهريار والصيّاد روبن هود … فالمرأة في الإستشراق موضوع رئيسي وعنصر أساسي مكوّن للوحة فهي في نفس الوقت الفاعل والمفعول به، المحمل وموضوع الدرس، السلطانة والجارية، الغانية والأميرة، الرّاقصة والمرضعة، الأم والبنت، “جازية الهلالية”، “عليسة”، “شهرزاد”… لكن شهرزاد الغربية تختلف عن شهرزاد العربية التّي استطاعت بفضل ذكائها وفطنتها أن تنفذ من الموت بفضل حكاياتها المثيرة. ويذكر في هذا السياق ”ثروت عكاشة“عن أعمال المستشرقين التّي تصوّر المرأة: “أنّ صور النّساء والجواري التّي رسمها المستشرق على الرّغم من سحرهن وفتنتهنّ الشّرقية، لم تأت سماتهن شرقية، وإنّما كن أقرب في ملامحهنّ إلى حسناوات لندن، وقد ضمهنّ حفل تنكرّي يتمتعن فيه بأزياء الشرق وزخارفه.” ثمّ ركّزوا على الطابع السياحي التي انطبعوا به إثر زيارة البعض منهم لبلدان المشرق والمغرب العربي مصوّرين مختلف العادات والتقاليد والتراث…
ولكن تجاوزوا هذه الرؤية الواقعية لتصبح مجرّد تصوّرات خيالية أحيانا وتخيّلية أحيانا أخرى ذات منحى غرائبي، فأصبح يصوّر جسد المرأة إلاّ من خلال الطابع الإيروسي، كأنّه جسدا حيوانيا يخضع إلى ما تفرضه الشهوة والغريزة مشكلين تصوّرا هجينا ومتخيليّن عالما سرياليا لا يمتّ للواقع بصلة. وهكذا، أفضى فنّهم انعكاسا لرؤية غربية مسقطة على الواقع العربي والشّرقي، من وحي خيال المستشرق دون اللجوء إلى إدراكه أو فهمه. وتؤكد فاطمة المرنيسي” ذلك بقولها: “بأنّ حريم الغربيين غير حريمنا، يبدو أن حريم الغربيين مرتع للهو حيث ينجح الرّجال في تحقيق معجزة مستحيلة في الشّرق: أي أن يتمتعوا في إطمئنان بحشود النساء الخياليات في الحريم الشرقي الواقعي الذي يتوجس فيه الرجال من كيد النساء وإن النساء في حريم الغربيين حسب إبتساماتهم لا في حريم الشرق، يحاولن الإنتقام بفعل الإعتداء عليهن، وتسخيرهن وتحويلهن إلى وضع السبايا المهين. أما سواء منه التاريخي أو المتخيل، فإن الرجال يترقبون مقاومة شرسة من طرف النساء اللاتي تمّ استعبادهن.” خاصّة وأنّ الرسّام المستشرق الغربي، يتقمص دور الشّرقي قلبا وقالبا، في أدقّ تفاصيل حياته اليومية. وتمّ تمثيل الشّرق والمرأة الشّرقية أو العربية التي من الصّعب الوصول إليها في الواقع. بالإضافة إلى أنّها كانت متحجبة والعادات تفرض عليها عدم الخروج والإختلاط بالأخر. وغالبية الصّور التّي تصوّر المرأة، هي الصّور التي التقطت من الدّاخل، من داخل الحرم. فكيف وصلوا ودخلوا إليهنّ؟
جميع الصّور التي عرضت للمرأة العربية أو الشّرقية كانت مثيرة، لنستنتج أنّ صورة المرأة التقطت في الواقع داخل الحرم بشكل غوائي وإيروسي ليؤدي بذلك إلى تأثير أقوى عند المشاهد الأوروبي وللشهرة والربح السهل. وبالتالي، مازالت الندوات التي تتعلق بالإستشراق متواصلة إلى حدّ الآن، من خلال الجمعيات كالجمعية الدّولية للمستشرقين الذّي عقّدت “أوّل مؤتمر لها عام 1873 وما زالت هذه المؤتمرات تعقد حتى اليوم، حيث عقد المؤتمر الخامس والثلاثون في بودابست بالمجر (*)وحضره حوالي ألف وخمس مئة عالم من جميع أنحاء العالم جلهم من الغرب، وقدمت فيه أكثر من ألف محاضرة في أكثر من عشرة محاور.” وهكذا، مازالت جهود الغرب متواصلة لمزيد من التعمق في المعرفة العربية والشرقية. وهذا ما دفعنا إلى مواصلة البحث في منظومة الإستشراق وتحليل وتفكيك البنية الإستشراقية ككلّ، من خلال بحثنا هذا الذّي نعتقد أنّه سيُنهي الصّورة التمثيلية في الذهن العربي والغربي، ولو بجزء بسيط بالإعتماد على تجارب تشكيلية عربية معاصرة لبعض الفنّانات التشكيليات العربيات كالفوتوغرافية “مجيدة خطاري”، “للاّ السّعيدي”،”زينب سديرة”، “زليخة بوعبداللّه”، “شروق أمين” التّي جمعهم هاجس الهوّية وفكرة الإستشراق المضاد أو المعاصر.
يعتبر “الإستشراق المُعاصر أو المضّاد ” كلّ ما ينتجه الفنّانون التّشكيليون العرب المعاصرون من صور عن بلدانهم وثقافتهم العربية التّي تزخر بالثّراء في العادات والتقاليد والموروث واللباس التقليدي والحلّي وتستجيب في نفس الوقت إلى مقوّمات الإستشراق أحيانا أو ترفضه وتنقده أحيانا أخرى من أجل تسجيل موقف رافض أو موال من أجل غايات ذاتية أو جماعية أو من أجل غايات فنّية أو ثقافية. فالاستشراق“ يخرج من حدود الزّمان والمكان وقيود الأخلاق، فهو عبارة عن نظرة من الخارج. في حين ”الإستشراق المعاصر أو المُضّاد“ هو نظرة من الدّاخل، من داخل الوطن العربي، من خلال فنانين تشكيليون ولدوا ونشئوا وترعرعوا في الوطن الأمّ، فما بالك بفنانين عرب ولدوا في المهجر (الغرب). فكيف سيكون موقفهم ضدّ الإستشراق؟
وهل أنّ أعمالهم التشكيلية هي تجارب فردية إبداعية أم تجارب إتباعية، تتحرك بمؤثرات وتأثيرات المستشرق؟
وهل يمكن القول أنّ تجاربهم ذات وجهة نظر عربية شرقية أم غربية؟
كنموذج للإستشراق المعاصر أو المُضّاد نذكر الفنّانة المغربية “للاّ السعيدي” على سبيل المثال في مقارنة مع عمل المستشرق ” أنقر” أوّلا العملين يحملان نفس الإسم، ثانيا نفس الوضعية التصوّرية والتركيبة للعملين، الفرق بينهما أنّ النّموذج الأوّل كان مغطّى، في حين أنّ النّموذج الثاني كان عار، كأنّنا بالفوتوغرافية أرادت فسخ أو محو هذا العري أو بالأحرى ستر النّموذج لأنّه من المستحيل أن تكون هذه صورة المرأة العربية. ثالثا، قدّمت تصوّرها بشكل جديد ومعاصر، بالاعتماد على الخطّ العربي كعنصر أساسي مكوّن للزّخرفة وللصّورة الجسدية بطريقة مقروءة وأخرى غير مقروءة.. وبالتالي، نستنتج تأثر ” للاّ السعيدي” بالمرجعية الإستشراقية وبعدّة فنّانين مستشرقين مثل “أنقر ” و“دولاكروا“ و“جون ليون جيروم”… وقد استوحت هذه الصّور من الأعمال المستشرقة من القرن التّاسع عشر. كما أنّ استخدام الكتابة الزّخرفية على كامل الجسد بالخط العربي، أضاف معنى وجمالية للصّورة المعاصرة. وهنا حاولت تصوير الشهد بطريقة واقعية أكثر، فهي غالبا ما تسعى إلى نقد وتصحيح الخيال الاستشراقي وجعله منطقيا. وهكذا قامت “للاّ السعيدي” بتغيير الطّريقة التّي نرى المرأة العربية، في الصّور الإستشراقية من خلال تجسيد صور نمطية ورؤية موضوعية واقعية لما يدعى بالإستشراق. ممّا يعني أنّ المستشرق، قام بسرد التّاريخ حسب فكره ومنطقه وأهدافه الإستشراقية من منطلق الرأسمالية والشيوعية حتّى يغرس هذه المعطيات والأفكار على المستوى العربي.
وكنموذج ثان للإستشراق المضّاد، تطرقت الفوتوغرافية المغربية “مجيدة خطاري” في العمل التّشكيلي “الباريسيات” إلى موضوع “الاستشراق” التي أعارته اهتماما خاصا وتناولته بعمق، حيث قامت بإعادة لوحات استشراقية لفنّانين مُستشرقين أمثال “دولاكروا” أو “فريدريك ليتون” أو “ماتيس” وغيرهم، إّذ تقوم بتمثيلها وتقليدها وإعادة تصوير نفس المشهد طورا مع بعض التغييرات البسيطة طورا آخر وتجسيده على طريقتها وحسب تفكيرها. ولكن، حسب وجهة نظرها، فهي تنقد نفس الفناّن الذي قام باللّوحة الإستشراقية وتعيد تمثيل لوحته. في قراءتنا لأعمالها ومقارنتها مع أعمال المستشرقين، على سبيل المثال، المستشرق ” فرناند كورمون” أوّلا نلاحظ تقريبا نفس الوضعية التصوّرية للعملين. ثانيا، نفس التركيبة الهرمية، الفرق بينهما أنّ الحريم في الصورة الأولى كانت مغطاة، في حين أنّهم كانوا عراة في الصورة الثانية، كأننا كذلك بالفنّانة “خطاري” رفضت هذا العري ورفضت تسويق صورة المرأة العربية بهذا الشكل المبتذل والأهمّ أرادت تصحيح الفكرة المغلوطة عن العرب والإسلام. ثالثا، نلاحظ حضور المرجعية الإستشراقية بشكل واضح في عملها وهي لا تنكر تأثرها الشديد بالإستشراق. فاستخدام المرجعية كان بشكل جلّي للمشاهد. وقد أنجزت هذه السلسلة ما بين سنة 2008 و2009، استعملت فيها الحجاب والبرقع التي اعتمدتهما في عروضها التي أنجزتها في باريس، نتاج منع الطلبة المحجبات اللواتي من أصول عربية من الدخول والدراسة بالمعاهد والجامعات الفرنسية. فعلى سبيل المثال، في لوحتها الثانية تبرز من النّاحية الشّكلية والوصفية نساء متبرجات في فضاء داخلي عربي إسلامي امرأتان باريسيتان واحدة متكأه على الأريكة، مغطاة ببرقع يظهر نصفها السفلي والثانية تلبس شادور وورائهما وسائد مزينة بقماش شرقي على خلفية زخرفية على عكس النماذج الموجودة في العمل الفني “لأنقر”. وقد تناولت “مجيدة خطاري” موضوع الحجاب في بلد أجنبي غير مسلم لأنّ هذا البلد يمنع الطلبة من ارتدائه والدراسة. لذلك، قامت الفنانة التّشكيلية والمصمّمة بعرض أزياء بالحجاب حتى تنقد قوانين هذا البلد وتدعو إلى السماح لهؤلاء الفتيات من الدراسة وعدم حرمانهم منها وترك حرّية الملبس، خاصة وأنّ فرنسا من البلدان المتحضرة التي تدعو إلى الحرّية وهذا الفعل يناقض قوانينها ومبادئها التي تسمح بحرية الإختيار. كما يمكن القول، أنّ الجسد هو بمثابة الغلاف والموضوع والفضاء، فهو الفاعل والمفعول به، خاصّة وأنّ الحضور في العالم يتّم بواسطة الجسد مبينة جدلية العري والبرقع في فنون الأداء والفنّ الفوتوغرافي العربي في العصر الراهن للتّعبير عن حضور الجسد وغيابه.
سنوّضح الفرق بين مفهومي الإستشراق المعاصر والإستغراب كي لا يقع الخلط بينهما. “الإستشراق المعاصر أو المعاكس” هو دراسة من قبل العرب نحو العرب والشرق أنفسهم لدراسة ونقد الفنون التشكيلية التي ظهرت تحديدا في الإستشراق الإستعماري وما بعد الإستعماري والإستشراق الجديد. أما الإستغراب، فهو دراسة من قبل العرب نحو الغرب لدراسة علومه وثقافته، وتكمن أهمية علم “الاستغراب” فيما قدّمه “حسن حنفي” في كتابه (مقدّمة في علم الاستغراب) كما يأتي: “في مهمّة علم الاستغراب هو فكّ عقدة النّقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر، بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس وتحويل الشعوب غير الأوروبية، من مستهلكة للثقافة والفن والعلم الأوروبي، لتقوم بإبداعها الخلاّق” . والفرق بينهما أنّ الأول أسلوب تشكيلي لنقد منظومة الإستشراق كنوع من ردّة الفعل والثاني أسلوب معرفي لمعرفة علوم الغرب وعاداته وتقاليده ويتوّجه تحديدا نحو معرفة علمية موضوعية موّثقة.
يعتقد بعض العلماء أنّ الإستشراق كان له سيط عميق وقوّي في العالم ككلّ على عكس الإستغراب الذّي كان محدودا في بعض الدول العربية، وكان له تأثيرا قوّيا على العربي والغربي في نفس الوقت وأنّ الإستشراق ساهم في معرفة الموروث العربي الذّي لم يكن من اهتمامات العربي في ذلك الوقت. وخلاصة القول، أنّ الاستشراق والإستغراب هما مفهومان متناقضان يسعى كل منهما إلى تبليغ فكره والتعبير عن آرائه الموضوعية واللاموضوعية، يحتويان على الحقيقة والخطأ، فكلاهما “وجهان لعملة واحدة” ومن خلال موقفنا نعتقد أنّ الإستشراق المعاصر ليس مجرّد ظاهرة فنية وإنّما هو فن تشكيلي يحمل مواقف وآراء مُضّادة للإستشراق، ساهم في تصحيح عديد من المواقف المغلوطة واهتم بالمواقف العلمية والثقافية والحضارية للأخر .
جمعنا المادة التشكيلية والفوتوغرافية وحللنا وفق فرضية الإستشراق المضاد وقارنا مع سابق المستشرقين كـ“دولاكروا“ و“ماتيس“ وأنقر“ ولوروا “ و“كورمون“ ولينرت ولاندروك“ و“نصرالدين دينه“ وغيرهم من الفنّانين المستشرقين. فإنّ الرسام المستشرق والفنان التّشكيلي العربي لم يستطيعا إخفاء انتمائهما الديني والعرقي والإيديولوجي في أعمالهما الفنّية. فالمستشرق كان متحرّرا وغير مقيّدا نظرا لأنّ دينه لا يمنعه من رسم المسكوت عنه، في حين أنّ الفنّان التشكيلي العربي كان محتشما نظرا لأنّ الإسلام يحرم مثل هذه المظاهر. فتراه طورا يحافظ على حرمة الجسد وطورا آخر يتجاوز كلّ الخطوط الحمراء التي تعني العوائق الإيديولوجية والدّينية والثقافية التّي كانت تمنعه، فأمسى اليوم ينظر إلى الجسد كرؤية تشكيلية ويتعامل معه كأداة وكموضوع للتصوير الفوتوغرافي.
وتعود هذه الأسباب إلى أنّ بعض الفنّانات العربيات اللواتي قمنا باختيارهن يحملن جنسية مزدوجة (فرنسية، تونسية أو مغربية فرنسية أو جزائرية بريطانية)، بمعنى يعشن بين الشرق والغرب، فتفكيرهن يتراوح بين عقيدتين متناقضتين. وهذا ما يوّلد عنهن فكر هجين يحمل عديد من الأفكار المُتناقضة وهو ما يجعل منهن أحيانا لعبة في يد الغرب وطعما مغريا لإنتاج الرؤية الغربية، عبر إغرائهن بتمويل معارضهن، ممّا يؤدي بدوره إلى إنتاج فنّ تشكيلي هجين، بمعنى فنّ تشكيلي عربي برؤية غربية لدرجة أنّه ينتابنا أحيانا شعورا بالخوف والقلق نصل فيها إلى نقطة نصبح فيها نحن غريبون عن ثقافتنا وحضارتنا، ممّا ينجرّ عنه اغتراب في الوطن وحضارة هشّة لا تحتوي على هوّية متينة ولا على تراث قوّي. وهذا تحديدا ما تحاول بعض الفنّانات العربيات كمجيدة خطاري“،“ وزينب سديرة“، “مريم بودربالة” و”زليخة بوعبدالله… دحضة عبر تصوير رؤية واقعية عن العالم العربي تحاكي الواقع بأسلوب معاصر ورؤية فنّية جديدة. مثال، تعمّدت الفوتوغرافية “للاّ السعيدي” إعادة النظر إلى الحريم بمنظور جديد وبشكل معاصر، كما قامت الفوتوغرافية التونسية الفرنسية “مريم بودربالة” بتونسة فضائها التشكيلي الفوتوغرافي، بإضافة عناصر من الموروث الثقافي للجسد في وضعيات مختلفة وفق حركات تقوم بدراستها من أجل إبراز مفهومي الكشف والتغطية لجسدها الذي هو فاعل “يلتقط الصور” ومفعولا به “موضوعا للتصوير”. فهي تعطي للصورة أبعادا رمزية عبر ثنائية الجسد كبعد واقعي يمتدّ إلى الخيال من خلال لغة تشكيلة تتعمد فيها إلى خلق تركيبة جديدة مزدوجة وثنائية للجسد، كأنها تنسج الأجساد من خلال حركات تعبيرية استوحتها من الرّقص الياباني عبر استخدام تقنية بيكترياليزم (pictorialisme) متأثرة بالفوتوغرافي “مانرا” مستلهمة منه أساليب تركيب الصّور والتدخل على الجسد بالقطع أو الإدماج أو إنتاج صور بالتراكب الموّلد للشفافية. وفي مستوى ثاني من الإستلهام، فإنّها تستلهم من تجارب على علاقة بالإستشراق أوّلها التجربة الإستشراقية ” للينارت ولاندروك”. وهذا تحديدا دور المثقف والفنّان التشكيلي باعتباره “ذاكرة مضادة” لتصحيح الأفكار المسبقة والمغلوطة وهو ما يؤكده “ادوارد سعيد” بقوله عن دور المثقف ونضالاته تتمثل في:
”- منع اضمحلال الماضي: فالمثقف ماهو إلاّ ذاكرة مضادة ، بمعنى تملك خطابها المعكوس النابع من الضمير والإلتزام.
– بناء حقول تعايش: بدلا من ميادين قتال بواسطة الجهد الفكري ، فدور النثقف أن يقدم صياغات جديدة تفرز مروحة الخيارات الفكرية
– أن يقدم سرديات بديلة ومنظورات للتاريخ مغايرة وأن يكسر الصمت ويتحدى ويكشف النزاع”.
وهكذا يظهر “الاستشراق المعاصر” عن طريق توّجه تشكيلي جديد من منطلق أنّه يسمح بالانفتاح على الأخر وحضور تجربة الغيرية التي تساهم في إنتاج فنّ يعالج عدة استفهامات، ليتغلغل في روح وحياة الفنّان التّشكيلي أو الفوتوغرافي العربي، ليصوّر تقريبا نفس التّفاصيل والصّور المقدّمة سابقا للمستشرق الغربي، لدرجة نعتقد فيها أحيانا أنّ الفنّان العربي، يصدّق جميع الأشياء والأحداث المُصوّرة من شدّة تأثره بالأخر الغربي، ليواصل طورا نفس الرّؤية الغربية في إنتاجه التشكيلي، وطورا أخر يسعى إلى تصحيح وتصويب الرّؤية الإستشراقية برؤية أخرى مُضادّة. ويتضمّن “الإستشراق المضّاد” مُساءلة في تجربة الإستشراق في بعدها الفنّي، من خلال معالجات تشكيلية تُحضر الواقع، في مختلف المجالات التّشكيلية والفوتوغرافية، باختلاف مرجعياته وتفاعلاته ونزاعاته بين المستشرق والمستشرق المُضّاد، ممّا يسمح للفنّان التّشكيلي العربي بتناول مسألة الإستشراق ببعد معاصر وإعادة صياغة الماضي ومساءلته فنّيا. فالإستشراق المعاصر، لا يكون اعتباطيا وإنّما بشكل مدروس ودقيق لدراسة التحوّلات الدلالية الممكنة في سياق الممارسة الفنّية ومتغيّرات العمل التشكيلي من أجل إيجاد حلول واقعية أو رؤية موضوعيّة لتوليد الدلالة الصحيحة عن العالم العربي، باعتبار أنّ العمل التشكيلي المعاصر يُعدّ منطلقا لكل رؤية فكرية وابستمولوجية يعالج فيها الفنّان التّشكيلي إشكالية معيّنة عالقة في ذهنه.
عموما، تبقى الاستنتاجات رأيا مفردا قابل للنقاش والإثراء والتدعيم أو الإشتراك مع الأخر . ولكن، حسب وجهة نظرنا، نعتقد أنّ الفنّان العربي المعاصر نجح في مفهومه ”للإستشراق المضاد أو المعاصر“ من خلال نقده للمستشرق وتقديم جميع الأحداث التّاريخية القديمة بشكل واقعي وموضوعي كالحروب والإستعمار وأجواء الحرم وخاصة محاولته تصحيح الفكرة المغلوطة عن العرب، من خلال النقد الذاتي والموضوعي لهذه الأعمال الإستشراقية من أجل توضيح ما هو حقيقي وما هو مزيّف.
وختاما، من جهة تبيّن الفنّانات التّشكيليات العربيات أنّ الإستشراق ورغم تقادمه يمكن أن يكون مادّة تلهم الفنان، فتمنحه القدرة على صياغة الموقف الجمالي والإستطيقي، فشكّل الجسد الأنثوي محورا رئيسيا وموضوعا مفضّلا في تجربتهن الفنّية، كأنّه ظاهرة مركزية في عملهن. ومن جهة ثانية تنقدن الإستشراق وخاصّة الإستشراقيين الذين يطلبون من المرأة العربية تصويرها في وضعية عري ثم يقولون هكذا هي المرأة العربية، باعتبار أنّ بعض من الأفكار الإستشراقية عملت على تشويه الإسلام والعالم العربي، ممّا أدّى إلى إنتاج معرفة خاطئة عن جزء متخيل من العالم العربي باسم الشرق. ولا نستطيع أن ننكر فضل بعض المستشرقين في توثيق جغرافية الشرق وتاريخه وأيضا في تأسيس الفنّ الحديث في البلدان العربية. ومن خلال هذا التناقض في موقفهن نعتقد أنّهن من جهة هنّ عربيات ثائرات تمنحن الجسد حقه في التعبير عن كيانته ومن جهة أخرى هنّ غربيات لا تجدن حرجا باعتبار الجسد شيئا أو غرضا للفن أحقّية استعماله وتجاوزن إشكالية المسكوت عنه. ونعتقد أنّ بعض الفنّانات التّشكيليات اللواتي خاصة يحملن جنسية مزدوجة تمغربن مثلما حاولن البحث في الإستشراق من خلال تجربة يمكن تسميتها بأسطرة الذات والجسد أي الأسطورة الشخصية.
المراجع فى هذا المقال :
– سعيد (ادوارد)، الإستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، نقله إلى العربية كمال أبو ديب، الطبعة العربية السابعة 2005، مؤسسة الأبحاث العربية ص ب 5057-13 شوران، بيروت – لبنان ص
– عكاشة (ثروت)، مصر في عيون الغرباء
المرنيسي (فاطمة) من مواليد فاس 1940 ولدت في حريم بفاس (المغرب) الذي يعود للقرن التاسع، لذلك تعرف مختلف ظروف الحرم العربي التّي على عكس الحرم الغربي، ممّا يمنحها هذه النزعة الأنثوية ودفاعها عن حقوق المرأة الشرقية والعربية. كاتبة وعالمة جتماع وكاتبة نسوية مغربية لها كتب ترجمت إلى العديد من اللغات العالمية. تهتم كتاباتها بالإسلام والمرأة وتحليل تطور الفكر الإسلامي والتطورات الحديثة. بالموازاة مع عملها في الكتابة تقود كفاحا في اطارالمجتمع المدني من أجل المساواةوحقوق النساء، حيث أسست القوافل المدنية وجمع “نساء، عائلات، أطفال”. في مايو 2003 حصلت على جائزة أمير أستورياس للأدب مناصفة مع سوزان سونتاغ. اسكلوبيديا الموسوعة العلمية
-المرنيسي(فاطمة)، نساء على أجنحة الحلم، 1998 ص 13
– حنفي (حسن)، مقدمة في علم الإستغراب الدّار الفنية، مركز الدراسات المعرفية، القاهرة 1991
– للا السعيدي (مغربية 1956 ) رسامة وفوتوغرافية، تركز في عملها على هوية الأنثى العربية بأسلوب المستشرق في القرن التّاسع عشر. وقد اعتمدت في لوحاتها على الخط العربي والفوتوغرافيا والنسيج… كما استعملت الجدران كمحامل لأعمالها الخطّية لبناء مجموعة معقدة التراكيب التصويرية. ولدت “للا السعيدي” ونشأت في المغرب، عاشت في المملكة العربية السعودية ، ثمّ انتقلت إلى الولايات المتحدة. درست الفن في مدرسة للفنون الجميلة بباريس، فرنسا، بين عامي 1990 و1994. وتخرجت مع درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة تافتس في ميدفورد، في سنة 1999. ثم واصلت تعلمها وحصلت على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من كلية الفنون الجميلة ببوسطن في سنة 2003. كما حصلت أيضا على الإجازة في التصوير الفوتوغرافي من نفس المدرسة ببوسطن.
– حنفي (حسن)، مقدمة في علم الإستغراب الدّار الفنية، مركز الدراسات المعرفية، القاهرة 1991ص37
– سعيد (ادوارد)، الأنسنية والنقد الديمقراطي، ترجمة فواز طرابلسي، دار الأداب بيروت 2005 ص 18