تشكيلي دنماركي يعبر نحو العمق الروحي للانسان باعتماد الأسلوب التشخيصي المعاصر
يقدم “متحف فرحات للفنون الإنسانية” ضمن مجموعة الفن المعاصر، تجربة الفنان التشكيلي الدنماركي “جان إيسمان” الذي يعرض أعمالا تعكس أسلوبه في ” الفن التشخيصي الحديث” فقد مكّنه تجريب هذا الفكر التحديثي من النفاذ نحو قيم جمالية جديدة -لا تتجاوز المفهوم الكلاسيكي للتشخيصية بل توسع قيمها التعبيرية- فقد تمكن من تحديث مفاهيمها التشكيلية ليفسر العمق النفسي للإنسان ويعالج ما يختلج داخله بروحانية تتفوق على الواقع المشخص ضمن رؤية بصرية متنوعة تخترق ماورائيات الصورة.
والفن التشخيصي كما يعرفه الكاتب والناقد والفنان التشكيلي الفلسطيني محمود شاهين “هو مذهب فني يعنى بعملية تفسير الواقع الموضوعي وتمثيله بهيأة الواقعية، الذي جعله يلعب دوراً تسجيلياً في مراحل مختلفة من تاريخ الفن، بدءاً من رسوم إنسان الكهف الذي وثّق من خلالها لمجريات حياته اليوميّة، ومشاهداته خارج كهفه، وحارب من خلالها، أعدائه من الحيوانات المفترسة، مروراً بفنون الحضارات الكبرى كالرافديّة والفرعونيّة والإغريقيّة والرومانيّة، وصولاً إلى عصر النهضة وعلى الرغم من مزاحمة الاتجاهات الفنيّة الحديثة والمعاصرة للتشخيصيّة، إلا أنها ظلت قائمة، بل لقد عادت إلى حركات الفن التشكيلي العالمي المعاصر بقوة، وبأشكال جديدة، استفادت فيها من اكتشافات الاتجاهات الأخرى.”
ولد إيسمان سنة 1960 بالدانمارك أقام بإنجلترا فترة قصيرة من طفولته ليعود إلى كوبنهاغن سنة 1967 حيث درس الفنون وتشبع بالفكر الحداثي في التعبير الفني المعاصر، عن هذا التوجه يقول “التحديث في الفنون وخاصة الفن التشكيلي يعتبر تدرجا منطقيا لكل تطور يعيشه الانسان ويهتم لمواكبته لترك بصمته الخاصة مع التمسك به بحرفية وإبداع، فالفن التشخيصي يعتبر من الفنون الكلاسيكية والاهتمام به وتطويره لا يعني تشويه مقاصده وقيمه ولكن يعني النهوض بالفكرة والتعبير والأداء التشكيلي حتى نتجاوز القطيعة التي يحدثها فنانو ما بعد الحداثة مع الفنون الكلاسيكية فنحن حلقة وصل تعكس كل فترة ولا تلغيها ونحن لسنا مطالبين بتهديم كل القيم الفنية القديمة حتى نعتبر من الحداثيين بل يجب أن نتجاوز التزييف لأن تطور الأفكارهو تسلسل يبدأ من رحم الفكرة الأولى”.
يعد إيسمان من رواد الفن التشخيصي الحديث في العالم، بدأ العمل على هذا الأسلوب مع مجموعة من الفنانين الاسكندنافيين الذين طوّعوا أفكارهم الطلائعية لمواجهة الرجعية في التعامل النمطي مع الفنون ولإعادة نشر الفن كوسيلة تعبيرية لا تطال نخبة معينة بل تهتم بالإنسان والإنسانية فقد أسس معهم أنشطة متعددة الوسائط الفنية جمعت الأدب والشعر والرسم والنحت والموسيقى لتبرز التكامل الفني الذي يعالج الذائقة ويتصل مع التفاصيل اليومية والحالات النفسية للإنسان خصوصا وأن التعبير الفني لم يقتصر على الانفعالات الفردية الخاصة بل لامس علاقات الأفراد داخل المجتمع والانتماء والجغرافيا والواقع.
يحمل إيسمان فكرة جديدة في الفن التشخيصي فرغم أنه لم يبتعد عن السمة الإيضاحية للملامح وللفضاء العام داخل المنجز إلا أنه ينطلق من الواقع القائم على الانتقاد الموضوعي للحالة الاجتماعية والنفسية مهتما بالتكوين البنائي بين الحركة والجمود والاستقرار والحيويّة، مقدما صيغا تفاعلية جديدة وهندسة للمساحة حتى يحفز حواس المشاهد فيتفاعل باحثا بعمق عن الخيط الرابط بين الحالة والحضور، وقد اتسم إنتاجه بالوعي الفكري وبالرؤية ذات الإيحاءات الفلسفية والتصور الروحاني للطبيعة والإنسان والتوازنات الداخلية بين حواسه وأفكاره ومداركه، وهو ما يعبر عنه بقوله “إن منجزي يعكس للناظر روحانية عميقة تحاول أن تمتص حجم الألم والمعاناة التي تطغى على الشخوص وهي تعايش الواقع وتحاول أن تعبر بصرخة عن لحظاتها المؤلمة، تلك اللحظات هي التي أحاول أن أقتنصها لتتراكم مع اللون والشكل والضوء ما يمنحها الحركة التي أريد بها التعبير والبحث عن المنافذ الداخلية التي يريد الشخوص الوصول إليها من أجل الارتقاء والنهوض والاستمرار والبقاء الأجدر ومن هنا تكمن أهمية اعتماد الرؤى الروحانية كمدخل للغوص في العمق النفسي.”
يحدث التفاعل بين اللون والشكل الذي ينفذه إيسمان في منجزه سواء الذي يرسمه أو الصور الفتوغرافية المعالجة لونيا وفق القيم الضوئية والرؤية التشكيلية، جدلا فلسفي الأبعاد يثير الأسئلة الوجودية النابعة من عمق الواقع وما يطرح داخله من تناقضات بين الحضور والغياب بين البقاء والفناء بين الصراع والانسجام بين الأفراد بمختلف ميزاتها فالمرأة حاضرة كرحم يشبه دورة الأرض والرجل كاكتمال حي فيها والصرخة هي منفذ للتعبير عن الوجود بكل تطرف الحواس المتداخلة.
فهذه الملامح والشخوص التي يعتمدها إيسمان تتميز بتلك الصرخة الدفينة التي يحاول ببحثه أن يصل إلى صداها ويفجرها لتثير المتلقي بحركة حيّة فيسمعها وهي تخترق المنجز لتستفزه فيبحث عن التشابه المتناقض بينه وبينها فهو بهذه الحركة يستنطق حواس اللوحة ويمر عبرها ليحدث المشاهد بالفكرة ومن هنا يصنع الانسجام المتناقض بين شخوصه فيدفع بها إلى الفضاء لأداء دورها والتواصل مع الهارموني اللونية والإيقاعية بين المكان والأفراد ليحدث تأثيرا معمقا للشكل على الألوان فهي الوسيط الذي يحاور الروح داخل الأشكال، فالشخوص في المنجز الفني تتلاقى وتفترق ضمن تلك المنظومة اللونية حيث تتراكم النظائر والتمثلات الجمالية مع الطبيعة في مواكبة التطور الخلاق المحدث داخل اللوحة لأنها وسيلته للتعبير الفادحة والفاضحة التي ترتب الهذيانات اللونية المنعكسة من تطرف الحالات النفسية العميقة فكأنه يوزع كينونته من خلالها ويبعثر مرئياته ولامرئياته واقعه وأحلامه وكوابيسه فرحه وحزنه، غضبه وصمت هدوئه.
فإيسمان يطوع اللون ويمنحه القدرة على معايشة الموضوع المرجو من اللوحة والفكرة ليجسد العلاقة بين عالم الذات والواقع ويحولها إلى صورة شبيهة المفاهيم مع الصورة الفوتوغرافية التي تقتلع لحظة من الواقع، فبنية اللوحة عنده لا تتغير رغم تغير مناخاتها ومحتوى الركائز التي تتحكم في عناصرها لأنه يجيد التحول بالمتلقي من التعبير إلى التجريد إلى التشخصية الجديدة كرؤية واضحة الملامح عميقة المفاهيم روحانية التوجيه نفسية التأثير فمن خلال الوجوه كحالات تعبيرية واضحة يشخص المحتوى ويجرد الفكرة في حواسها الثابتة والمتحولة فيتماهى العمل ويستقل بذاته مع المحتوى.
*الأعمال المرفقة:
مجموعة الفن المعاصر متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections